العدد السادسعالم الكتب

قراءة في كتاب “الأثر كيف يؤثر القانون في السلوك” للورانس فريدمان

هل يغير القانون الواقع الاجتماعي؟
أو أن السياق الاجتماعي هو الذي يشكل القانون؟
ولماذا يلتزم بعض الناس والبعض الآخر يتمرد عليه؟
(قراءة في كتاب “الأثر: كيف يؤثر القانون في السلوك” للورانس فريدمان)

الأثر: كيف يؤثر القانون في السلوك؟ للورانس فريدمان

أحمد الطائي*

أغلب دعاوى الحقوقيين اليوم في كل الوسائل المرئية واللقاءات لا تخرج عن المطالبة بتشريع قوانين لتجريم فعل معين والمعاقبة عليه بأشد العقوبات، وهذا التأصيل يفترض سلفًا أن القانون يعمل بطريقة سببية واضحة حيث (أ) يؤدي إلى (ب) بالتالي ما دامت الحالة موجودة، فالقانون سيعالجها ولو جزئيًا أليس كذلك؟

هذا ما ظل لورانس فريدمان يلاحقه في ٣٠٠ صفحة وأكثر ليجيب عليه، فكيف يؤثر القانون في المجتمع؟ ولماذا البعض يلتزم به والبعض الآخر يخرقه؟

وتلخيصًا لإجابة السؤال الذي طرحناه في الأعلى يبدو أن القانون لا يعمل بهذه الطريقة، فالقانون مهما امتد وارتفع فلا بد أن يتم تنزيله على سياق اجتماعي متراكم للمجتمع من مئات السنين سواء أكانت عقائد دينية أم أعرافًا اجتماعية أم ممارسات اكتسبت صفة العرف وغيره؛ ولأن الساحة التي يعمل فيها القانون سيتزاحم معها كل ما ذكرناه فلا يمكن له ان يؤدي الغرض المرجو منه وخاصة إذا صدر خلافًا لأعراف الناس وأديانها.

كونك تطالب بقانون ما بعيدًا عن النقاش في صحته من بطلانه، فلا بد أن تدرك أنه إذا صدر خلافًا للسياق الاجتماعي فهو سيولد ميتًا فقط سيرضي النخب المفكرة ثم لا تجد له صدى على أرض الواقع بأي شكل أو أنه سيعمل ولكنه بطريقة سماها الكاتب (الخرطوم المثقوب) فأنت سيصل إليك الماء في نهايته ولكن ضعيفًا جدًا وكذا القانون سيجد الانسان نفسه يخترع ألف ألف تبرير حتى لا يلتزم به ما دام مخالفًا لأعرافه ودينه وتراكماته الاجتماعية.

وسنقتصر في هذه المراجعة على ما ذكره الكاتب من ثلاثة عوامل يرى أنها تفسر سبب التزام الانسان بالقانون من عدمه ولا غنى للقارئ أن يكتفي بهذه المراجعة بل لابد من العودة للكتاب لقرأته كاملًا وخصوصًا للقانونيين والمهتمين بهذا المجال.

العامل الأول: الثواب والعقاب.

من بداهة الأمر أن التزام الانسان بالقانون هو رغبة منه في أن يدرأ عنه خطر العقاب هذا في الجانب الجنائي أما في الجانب المدني فقد يلتزم رغبة في الثواب من حيث كون القانون يحقق له ميزة معينة عندما يلتزم بخط السير الذي يضعه القانون المدني عندما يريد أن يتملك منزلًا مثلًا أو يستأجر غرفة في فندق.

أما في الجانب الجنائي فلا بد للعقوبة أن تحقق الردع المنشود سواء العام (كل أفراد المجتمع) أم الخاص (الشخص المجرم نفسه) أما إذا أصبح الافلات بالجريمة أمرًا هينًا فهذا كفيل بأن يضع رسالة للمجتمع بأن القانون لا قيمة له وهنا يولد القانون ميتًا لا قيمة له فإن تحقق الجانب العقابي وتحقق الردع العام والخاص فهذا لا بد أنه سيخلق ثوابًا لباقي المجتمع حيث يأمن أحدهم على نفسه وأسرته ولا يتعرض له أحد بأذى وهو بدوره سيخلق ضغط إقران وهو العامل الثاني الذي سنتحدث عنه لاحقا.

لكن قبل هذا هل للعقوبة دور فعلي في ردع الجرائم؟ لعل الجواب الواضح عند الأغلب هو نعم لكن الكاتب استفاض في نقاش المسألة واستعرض بعض أدلتها التاريخية كما استدل ببعض الدراسات العلمية حول أن العقوبة لم تكبح جماح المجرمين وبالأخص من يرتكب الجريمة بدافع الضجر، ذاك الذي يرغب في مناكفة القانون ومحاربة رجال الشرطة بدون سبب فقط لأنه يشعر بالملل، وكذا الحال في الجرائم الخطرة وجد أن زيادة شدة العقوبة لم تخلق ذاك الفارق الكبير بتحقيق الردع المنشود فكما يرى أن ” الاعتبارات الاخلاقية ” لربما لها دور أكبر من العقوبة بكبح جماح المجرم  وتحقيق الردع المنشود.

كما أن العقوبة تفقد قابليتها للردع إذا استخدمت بكثرة حيث وجد غريشام سايكز بدراسة عن السجون أن العقوبات التأديبية فقدت تأثيرها الفعال على السجناء لضبط سلوكهم، فكيف يمكنك ردع شخص مستعد للموت؟

والعامل الآخر الذي يحدد نجاح العقوبة هل هو الشدة في العقوبة ؟ أو اليقين أي إيمان الذي يرتكب الجريمة بأنه سوق يقبض عليه؟

لو كانت عقوبة الجريمة الاعدام لكن اليقين بأن الشرطة لن تقبض على الجاني ولو فعلت ما فعلت فهل يصبح لشدة العقوبة أهمية؟

تدعي بعض الدراسات أن اليقين أكثر أهمية من الشدة ولكن في هذا كلام لأنه لو قلنا أن السارق سيقبض عليه حتمًا (اليقين) لكن لا توجد للجريمة عقوبة (الشدة) فهل يصبح لليقين هنا أهمية؟

وكذا عامل الوقت قد يفقد العقوبة قابليتها للردع والمقصود بالوقت هو المدة الطويلة التي تسلتزمها المحاكمة حتى يحكم على المجرم، فإن ارتكب جريمة اليوم ثم استمرت محاكمته لـ٢٠ سنة حتى صدر الحكم فهل يبقى لهذا الحكم ردع مثلما لو صدر بمدة أقل؟

وتبقى مسألة كون العقوبة رادعة أم لا تختلف باختلاف الثقافات والأشخاص فنحن لدينا:

١. ناس مستجيبون كليًا للقانون  وهؤلاء لا معنى للردع عندهم فهم طائعين سلفًا للقانون.

٢. ناس متمردون كليا وغير قابلين للردع وهؤلاء أيضًا لا معنى للردع عندهم والعقوبة لن تغير من سلوكياتهم شيئًا مهما أصبحت شدتها.

٣. الناس الذين يفكرون بجريمة محددة وهؤلاء كما يرى الكاتب هم الوحيدين الذين ينجح الردع فيهم.

هذا الكلام بطوله يتحدث عن جريمة وعقوبة والآن لماذا لا نجعل الجريمة صعبة الارتكاب حتى نقلل أعداد المجرمين؟

هذا ما سماه (كارل ليولاين) تأثير مخارج ورقة البرسيم، حيث وجدوا أن السائقين يخرجون من الطرق الرئيسة للطرق الفرعية بسرعة أعلى من السرعة القانونية مما يسبب حوادث سير كثيرة، فأصبح تصميم مخارج الطرق الرئيسة على شكل ورقة البرسيم بحيث تجبر السائق أن يقلل السرعة عند المخرج، فهنا لم نعاقب على الفعل بل جعلنا المخالفة صعبة وحققنا الردع المطلوب دون اللجوء لإجراءات ومحاكمات طويلة.

هذا الإطار العام لمنظومة الثواب والعقاب والأمر يختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى فربما الثواب الديني لثقافة ما يحض الافراد على الالتزام بالقانون أو العقاب الأخروي هو الذي يدفعهم مثلًا لعدم الالتزام به كما يحدث لطائفة الآميش.

العامل الثاني: ضغط الاقران

لو أننا استيقظنا صباح الغد ووجدنا أن كل القوانين التي تعاقب على القتل والسرقة قد ألغيت فهل سيخرج المجتمع كله يضرب بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا؟

لربما الكاتب والقارئ (كما آمل) لم تخطر في ذهنه يومًا أن يرتكب جريمة، أو يقتل بريئا، أو يسرق مالًا وإن قلت قيمته، وإذا بالغنا في الطاعة لقلنا إنه لم يستدر بسيارته من مكان ممنوع ولم يسنح في خاطره أن يسطو على بنك وإن تخيل ذلك.

إذن لماذا هذه الاختلافات في طاعة القوانين والتمرد عليها؟

لعل أقرب ما يقابل هذا اللفظ (ضغط الأقران) في لغتنا هو المثل الذائع (حشر مع الناس عيد) وضغط الاقران هو تأثير المجموعة في سلوك الفرد فإن كنت في واقع اجتماعي يدفعك دفعًا لطاعة القوانين فأنت حتمًا ستشعر بالعار من مخالفة هذا القانون وهذا ما يراه لورانس فريدمان يفسر الفرق في الالتزام بالقانون بين اليابان وأمريكا، فالروح الفردانية الغالبة على الطابع الأمريكي جعلت القوانين تعمل بصعوبة في واقع يدفع لمخالفتها ولذلك تجد أن أكثر دولة لها عدد سجناء هي أمريكا أما اليابان وطابعها الأخلاقي الاجتماعي العام البعيد عن الفردانية (بحسب الكاتب) جعل من السهولة للفرد الياباني أن يتلزم بالقانون لأنهم سيخضع لضغط من أقرانه يوقظ عنده مشاعر العار والخجل.

رغم أن هذا العامل لا يفسر الالتزام بشكل كلي لأن لكل دولة بل وكل ثقافة وحتى كل فرد تتنازع عنده العديد من المؤثرات والأحوال التي قد يعجز ضغط الاقران عن تفسيرها ولكن هناك بعض الأبحاث العلمية التي وجدت أن لهذا الضغط نتائج إيجابية، ففي أحد الفنادق أرادوا إعادة تدوير المناشف وملاءات السرير ثم إعادة استخدامها مرة أخرى فوضعوا للمجموعة التي يتم اختبارها عبارات على أبواب غرفهم تقول (إن من قبلكم والذين سكنوا في هذه الغرفة ساعدونا بإعادة التدوير واستخدموها أيضا) أو شيء قريب من هذا ولم يضعوا للمجموعة الضابطة أي لافتات في غرفهم.

كانت النتيجة أن المجموعة الأولى كانوا أكثر تعاونًا فيما يخص إعادة التدوير من المجموعة الثانية وبحسب الكاتب لأنهم شعروا بالانتماء إلى مجموعة أكبر وهم الذين سكنوا في الغرفة قبلهم لذلك استمروا على نفس النهج درأ لمشاعر العار  التي قد تعتريهم جراء المخالفة.

ويمكن للقارئ أن يخضع نفسه لضغط الاقران فلو تخيلت نفسك في مجلس به مئة انسان وكلهم يقوم لشخص ما عند دخوله غالبًا سواء عرفت الشخص أو لم تعرفه فأنت ستنهض عند دخوله حتى لا تخضع لضغط الاقران ومشاعر العار ونظرات من حولك.

بل أن هذا العامل قد يفسر انتشار بعض الأمور بشكل مبالغ به (الترند) على مواقع التواصل حتى وإن كان لا معنى له فقط أن صاحبه يفعل الأمر حتى لا يشعر بالاغتراب عن الواقع أو أنه منفصل عنه، أو يفسر أسباب انحراف بعض الشباب لوقوعه في مجموعة أصدقاء تدفعه للمخدرات أو الخمور حتى لا يشعر بأنه جبان أو لا يزال طفلًا بين أصدقائه.

أما لماذا يخضع الشخص لضغط الاقران؟ لأنه ولد في جماعة ويعيش في جماعة وسيموت في جماعة فإن كانت هذه الجماعة تلتزم فأنت تلتزم وإن كانت تخالف فأنت تخالف وتماسك الجماعة أعلى قيمة من طاعة القانون.

العامل الثالث: الصوت الداخلي (الضمير)

هناك ما يدفع الانسان من داخله أن يطيع القانون أو يتمرد عليه، وهذا الدافع لا يعمل دون أسباب تثيره وتحركه للعمل، فإن كان الانسان يرى في القانون الشرعية فهو حتما سيطيعه، وتلك الشرعية لا تأتي من فراغ فلابد لكل النظام القانوني أن يتميز بهذه الشرعية إضافة إلى العدالة حتى يستطيع بناء عليها أن يفرض قوانينه على المجتمع، مثل الطفل الصغير لا يمكن له أن يطيع أوامر شخص غريب ولو أن نفس الأمر صدر من والده لأطاعه دون تفكير إذا ما أزحنا عامل الخوف لأنه يرى في الأمر شرعية أن يصدر من والده بخلاف لو صدر من الغريب والشرعية لابد أن ترافقها السلطة حتى تفرض ما تريد فرضه فنجد الكاتب يقسم السلطة إلى ثلاثة أصناف

١. السلطة الكاريزمية مثل سلطة النبي أو القائد أو البطل.

٢. سلطة كبار السن كزعماء القبائل.

٣. السلطة الشرعية العقلانية وهي طاعة القوانين لأنها قوانين.

وهنا تبدأ الحرب الطاحنة فيما يراه كل مجتمع من شرعية الحكومة التي تسنمت السلطة وأصبحت بيدها السيادة فهل شرعيتها قرينة الديمقراطية؟ أم أنها مرتبطة بالحق الإلهي في الحكم؟ أم انها تأتي من الوراثة كسلطة الملوك؟

وهذا يخضع لنقاش طويل وتأصيل تاريخي أطول فلكل مجتمع تراكماته التي ينبثق منها شرعية النظام الحاكم وهنا لا تجد لدعاوى بعض المفكرين الذين يحاولون قولبة كل النماذج وصبها في قالب ديمقراطي وكل ما عدا هذا النموذج فهو حتما فاقد للشرعية، وهذا باطل رغم أن المؤلف دافع عنه فلا يمكن ردم كل ثقافة الأمم في ظهور سلطة حاكمة من بينهم وتصدير الديمقراطية كأنها السبيل الأوحد للحكم ولعل سائل يسأل ما هي الطريقة الأفضل إذن؟ الجواب ببساطة لا يوجد لإنه لكل أمة كما ذكرنا طريقة في اختيارها لمن يتزعم نظامها السياسي ولو تم فرض نظام آخر بالقوة إلا أن يكون إلهيا فهنا أنت أنشأت نظامًا ميتًا لا قيمة لكل قوانينه لأنها ستولد ميتة جراء التمرد على رأس السلطة.

 

* أحمد الطائي (محامي وكاتب، من العراق)

 


اقرأ أيضًا:

ستعلو مآذن الأندلس قريبا

الفلسفة وخلق الفردية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى