هكذا أوصى ابن الأحمر في مخطوطه القرمزي الأندلسي من تغريبة الأنصار
-نثرٌ شِعريّ-
هكذا أوصى ابن الأحمر في مخطوطه القرمزي الأندلسي من تغريبة الأنصار
-نثرٌ شِعريّ-
أ.د. جمال بن عمار الأحمر (ابن الأحمر)·
وتَسْأَلُني بَلَاغَـةُ العَيْنَينِ عنكَ؛ أينَ البريقُ، يابنَ أَبي، -وكان يسكُنُنا-؟! هل أخطأَ الزَّقْزَاقُ روضتَهُ أم أنكرتْ أجْفَانَها الـمُقَلُ؟! مَا كَانَ أحْلَى لَـوْ لَقِيتَني طَيْـفًا مِنْ إِبَاء، مُتَوَشِّحًا زَرَدَ الْـمُنَى، يَسْعَى بِأقدَامِ الأتقِيَاء! وعيناكَ، يابْنَ أَبي، أَرَاها بِلا أَلَقٍ، عُذرًا، والْمُحَيَّا خائِفٌ وَجِلُ! وَبَنو أبيكَ.. أما زِلتَ تذكرُهمْ؟ ما خطبُهمْ؟ قلْ لي.. وما صَنَعُوا؟! ما بالُ عَينِكَ منْها الماءُ يَنسَكبُ؟!
تَخِنُّ، وتَتَوَصَّبُ كأنّكَ مُعْوِلٌ يَشكُو بَلابِلَهُ، لكنَّ صِدقًا تقولُ عَيْناكَ:
“عَينُ العَذولِ عَنِ المَحاسِنِ مُغْضِيَة.. ألمْ يَأنِ للعُذّالِ أنْ يَتَوقَّفُوا عن اللَّوْمِ إذْ لم يُنصِفوا؟! أفي جَنْبِ صَمْتٍ قَطَّعْتَنِي مَلَامَةً؟! لا تلُمني!
“هَذِي ضُلوعي مِن مَغِيبِكَ أجْدَبتْ، وذَا شَوقٌ قديمٌ هاجَ بي، فبَقيتُ أَنْتَظِرُ اللِّقَاءَ بِكُلِّ آمَالِ اللِّقَاءْ، ورُغْمَ القُنُوطِ فَإِنَّ فِي عَيْنَيَّ بَحْرًا مِنْ رَجَـاءْ، وأَفْنَانُ قَلْبِيَ بَعْدُ مَا جَفَّتْ، يُعلِّلُها الحنِين، تَهْفُو إِلَى الآتِي الطَّرِيفِ وَكَمْ تَحِنُّ إِلَى التَّلِيد! وفاضَ حُزْنِيَ في الأحْدَاقِ حتىٰ تَدفَّقَ مَاؤُهُ في الْمُقْلَتَيْنِ، وكُنتُ بالدَّمعِ قَبْلًا شَحيحَ العَطَا!
“يا بَاكِيَ الدارِ والإيمانِ، أشباهٌ عَوَادينَا!
“مِن أين أبدأُ قِصتي؟ كلُّها غُصَصٌ!
“مذْ غادرَ الأنصارُ جنّتَهُم وجراحُهُم تَنمُو وتَتصلُ؛ عِللٌ تمادتْ في سَرَادِبِها وتمزَّقَتْ مِن دُونِها الحيَلُ؛ إذ جَفَّتْ وُرُودُ الدارِ في يدِنا، وذَوَىٰ بها عودُ النَّدىٰ الخَضِلُ. إن الصحراءَ لا تعِي ما نفْعُ النَّدى، ويُنكِرُهُ ثرَاها المُجْـدِبُ!
“كَرِهَ شَتَّامُ اللهِ وقَومُهُ البَدوُ الأَجْلَافُ أنّـا بِنَهجِ المصطفَى نتأدّبُ، ومَنْ ضَاقَ قَلْبُهُ اتَّسَعَ لِسَانُهُ، وقَصُرَ ذراعُه الجبَاءُ إلَّا عنِ التَّقَرُّبِ بِرَسَائلِ السِّعايَة إِلى كُلِّ جِلْوازٍ. واجتِماعُ البَعُوضِ عَلى المغْدُورِ في غَفْوَتِهِ مَزْعَجَة! فَنَهَشُوا أَعْراضَنَا نَـهْشَ الأَرَاقِط، وسَلَقُونا بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةٍ علَى الخَيْر. وعَـضُّ الكـَلامِ إذا تَأتَّـى مُـحـرِقٌ؛ فاللَّفظُ لفظُ الجَمرِ قبلَ الأحرُفِ! ورُبَّ قَولٍ أَشَدَّ مِن صَوْلٍ! ومَا أودَعُوا أَحْشَاءَ الَّليَالِي أَضَرَّ عَلَيْهِم مِن مَكْرِ الرِّجَال! وفِيهِمْ كُلُّ عُكْسُومٍ نَبَحَ اللهَ تَعَالَى، فَغَرَّهُ أَنَّهُ مَا ذَاقَ أَبْؤُسًا. ولَوْلَا أنَّ الله يَسْمَعُهُمْ لَأَجَبْنَاهُم! فَلا يَأمَنُنَّ الدَّهرَ جَبَّارَ السَّمَاءِ، ولا مُؤمِنًا ظَلَمُوه! سَرطَنَ اللهُ سَوْءَاتِهِم وأَسَاءَهُم!
“ونفِسَ الـغِرُّ الحـقـودُ وقومُهُ علينَا أن أرحامَ أصولِنا حُرّة، وأنَّنا مِن أكْرمِ الناسِ أعْرَاقًا وعِيدَانا؛ صُروحٌ مِنَ التُّقَى شَامخَاتٍ، عبَرت بنُوها اليَمَّ فانشقَّت لهم سُدُف البِحار بأقمُرٍ غَرَّاءَ، إذْ نَبَغَ فيهِم (بِالأندَلسِ) مُلوكُ العَرَبِ، أَهلُ الرِّياسةِ والْـحَسَب، مِن كُلِّ صَلْبٍ تَـميمٍ يُبْهِرُ الكَيْدَ عَدلُه. وشَرَّدَ الله بِهم الَّليلَ عَنِ المسلِمِينَ فَاتَّضَحَتْ سُطُورُهُم البِيضُ في أَلْوَاحِهِ السُّودِ. مَنَازلُهم مَعروفَة، ومَحاسِنُهم مَوصُوفَة.
“ومِنْهُم كلُّ فَارِسٍ في حَمْيِ الحِمَى مُجتَهِدٍ، مُعتَقِلٍ رُمحَهُ، كَأنّهُ قَوسٌ مَوتُورٌ بِالمنَايَا يَرْمِي، أو خِنجَرٌ مُرهَفُ النَّصْلَيْنِ يُصْمِي، أو ذُبَابُ سَيفٍ خَرَجَ مِن جَفْنِهِ يَستَعجِلُ الكُرَّارَ، أو مِنْجَلٌ مَسْنُونٌ مُسْتَوفِزٌ لحَصَادِ أعْمَارِ الكُفَّار.
“وبَرَز فِيهِم مَن لم يُقصِّر في الْـمَكَارِم، ولَا عَجِزَ عَن حَملِ المغَارِم. وكَم فِيهِم مِن بَدرٍ كامِلٍ، فَضلُه للبريَّةِ شامِل. قَدرُهُم أَثِيثٌ أَثِيلٌ، ومُحبُّهُم نَبِيهٌ نَبِيلٌ، ووجُوهُهُم نُورٌ جَميل. وذِي صُرُوحُ (قَصْرِ الحمْرَاء) مَاثِلَاتٌ شَوَاهِدٌ!
“وعَلِمَ الأعْداءُ أن عُروبَتي حَسْراءَ في لُغتي وفي أَسمائي؛ صَوْتي الغَضَا.. زَوَّادَتي أنْبَائِي! فقالَتِ الأَضَاةُ: ’ما كُلُّ مَوجٍ قد أتاكَ سَيُغرِقُ‘!
“وكانَ بَدرُنا التِّمُّ بين الغَيمِ مُنشغلٌ، فإذا بِـحَتْفِي يستثِير مظِنَّتي ويـلفُّـها بهواجِــسي ورِدائي. {يُقلِّبُ اللهُ الَّليلَ والنَّهارَ، إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ}. ومَا لَبِثَ حَتى تَـحقَّقَ واقِعًا مَا رَأَتْه بَصِيرَتِي؛ إِذْ وَلَغَتْ عُلوجُ الشِّرْكِ في دَمِنا. وازدانتْ أسفارُ (تَغْرِيبَتِنَا) بجُرحِنا، كضَفيرةٍ تزدانُ بالحنَّاءِ! (رُمَّانُ) كُلُومِنا شُهُبٌ (يا غَرْناطَة)، وسُؤْرُ كؤوسِها (جُلْنَارُ) الفِداءِ وصادقُ الأنباءِ (يا أنْدَلُس)!
“وتقاسمتْ أطرافَنا زُبُرُ الدوَلِ المتَقَطِّعَةِ المتَقَاطِعَةِ، فصِرنا نَسيرُ من بلدٍ إلىٰ بلدٍ أقْصىٰ حتَّى لَعِبتْ بِنا التَّـنَائِفُ، ورَقصَتْ بِنا المفاوِزُ، ورَمَتْنا في أحْضانِها السُبُلُ، وغَدَونَا فيهَا أَتْوَاءً مِن كُلِّ تَارٍّ، ولَـم يكُن زادُنا في النَّوَىٰ إلَّا عَلَلٌ!
“وأَضحىٰ التَّنَائِي بَديلًا مِن تَدَانِينا؛ فأنا -بهذا الطَّيف- يتبعُني ظِلِّي؛ فلا خَيلٌ ولا إِبِلُ. وسَفَائِنِي في مَعْمَعانِ الصَّيفِ عَصْفُ الرِّمَالِ وسَفْوُها. أنا هَا هُنَا وَحْدِي يُحَاصِرُنِي الغِيَابْ؛ ظِلًّا يُنَادِمُ صَمْـتَهُ، أَوْ كَالسُّـؤَالِ بِلَا جَوَابْ.
“تَطَاوَلَ هذَا الَّليْلُ وَلَمْ يُدْهَمْ بِطَلْعَةِ فَجْرِهِ! ذابَ الكلامُ واستُشْهِدتِ الجُمَلُ!”
*******
يا بَنِي أَبي، سَتذكُرونَ ما أقُولُ لكُم!
لَقَد رأيْتُ مَن نَبَّهَ بِالخَطأِ عَلَى الصَّوَابِ، فَعَكَسَ البَابَ!
يا سَليلَ الأنصارِ، يا أخَا المَفَاوِزِ والتَّــنَائِفَ، يا مُنخَرِقَ السِّرْبَال، عُد إلى المدِينَة! إِلَامَ تَنْأىٰ؟ أمَا تَحُطُّ عَصَا التَّرحَال؟!
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات