رجوع المسافر من وإلى نفسه
(عن الجُرحِ القرمزيِّ جَيئةً وذَهابًا: بورتريه فلوكلوريّ قصير، متعدِّد الأصوات، لسيرة أبي عبد اللهِ الصّغيرِ آخرِ ملوكِ الأندلس)
رجوع المسافر من وإلى نفسه
(عن الجُرحِ القرمزيِّ جَيئةً وذَهابًا: بورتريه فلوكلوريّ قصير، متعدِّد الأصوات، لسيرة أبي عبد اللهِ الصّغيرِ آخرِ ملوكِ الأندلس)
د. إيمان عبد الهادي·
عَتَبَة:
عائشة (أمُّ أبي عبد اللهِ الصّغير)
كانَ ذلكَ يومَ الثّلاثاءْ
بتقويمِ يوليانَ، والسّاعةُ البِكرُ تفتَحُ للأندَلُسْ
زمَناً بينَ قوسَينِ: سبعَ قرونٍ تجسّدنَ في قالبِ الشّمسِ مثلَ النّساءْ
يتناسلنَ في الضّوءِ: عامٌ يولِّدُ عاماً، وسيّدةٌ- سَنَةٌ ترتدي نفسَها من جديدٍ أمامَ العراءْ
وتخلَعُ ثَوبَ المشيمةِ، تقطعُ حبلَ اللقاءْ
وتُقذَفُ في رَحمِها، نُطَفُ الكَونِ، تَنضجُ مثلَ الكواكِبِ في نارِها وتُضاءْ
وها طفلُها الآنَ:
قَرنٌ أمامَ القرونْ
وإخوتُهُ السّابقونْ
يهتَدونَ لأفلاكِهم، إذ تدورُ بهم… لا يعودُ أخٌ منهمُ للوراءْ
…
وها طِفلُها المتحدِّرُ من غَيمةٍ فوقَ (مَالَقةَ)، يُجبَلُ في مطَرٍ فوقَ أرضِ الأوائِلِ:
طينٌ وماءْ
وعائِشةٌ
تتأمّلُ ما كانَ من طِفلِها: يرفسُ الأرضَ تحتَ يَديهِ ورجليهِ، يفرُكُ بالرأسِ سقفَ الرَّحِمْ
ويخرمِشُ داخلَها، ذلكَ الولَدُ المستحلُّ لأوجاعها، العفريتُ، القَزَمْ
يركلُ الآنَ غيمةَ صيفِ السّماءْ
ويعضُّ بحبلِ الأمومةِ، إذ ينقلُ الأكسجينَ لهُ والغِذاءْ
وتشارِفُ أمُّ الجنينِ -المُضاءَةُ بالفَرَحِ الملَكيِّ- هنالِكَ: ما كانَ من سَفَرِ وانتهاءْ
شَهادة:
الزّغبيّ (تعني المشؤوم: كما أسماهُ منجِّمو بلاطِ قصرِ الحمراء)
لا حولَ لي في هذه الأكوانِ، أرفعُ نجمةً وأحطُّها في خاطِري!
خَوفي سدائمُ من غبارِ الطّلعِ، حزني وردةٌ للنّاظِرِ
ما زلتُ أجترِحُ الممالِكَ في خيالِ الأمسِ، أبرؤها هُنالِكَ بالحنينِ الفاتِرِ
قشتالةُ تمتدُّ فيَّ لآخرِي!
والأُفقُ ذاكَ مزاجُهُ التّسنيمُ، قانٍ من دماءِ الطّائِرِ
سكّينةُ الشّفقِ امتدادٌ فوقَ سرجِ حصانِ طروادٍ بوقعِ الحافِرِ
سأسيرُ، كم أنا واحدٌ غِرٌّ وحيدٌ أعزَلٌ متأمّلٌ أثَري الضّريرَ على الممرِّ الآسِرِ
مصباح:
عائشة
وجِئتُكَ من وَهمِ أن يسقُطَ الوَهمُ، مِن ألفِ طفلٍ عداكَ نَجَا
وأجاءَ المخاضُ، وسالَ كخيطِ دمٍ ضَيِّئٍ في الدُّجى
كنتُ في العتمةِ الخلّبيّةِ أرعى خيالَكَ
أطلِقُ سَمتَكَ في السّابقينَ وأهلِ الحِجى
حينما بالمصادفةِ المرّةِ، انتبَهَ الموتُ للأندَلُسْ
وانطفى في عيونِ المدينةِ آخرُ ما تَركَ المُنتهى في قناديلها من قَبَسْ
ولكن على الجِسرِ بينَ النّجاةِ وبين الظنّونِ التي علّقتني بخيطِ التّوسّلِ: خابَ الرّجا!
كنتُ سيّدةً حُرَّةً؛ ولسرٍّ بسيطٍ، تداعت بِلادُ الهوى لبِلادِ النّوى والسِّوى
صرتُ أسطورةً في كتابِ الشَّجى
.
وتخبّطتَ في لجّةِ الليلِ، موجُ القتالِ سيرديكَ يا ولدي فتشّبَّث بآخرِ ما ظلَّ لَكْ
أنتَ لستَ سِواكَ المخلِّصَ، أنتَ النّبيُّ وأنتَ الملِكْ
وتراخت يداكَ: تعالَ إلى رحِمِ الأمّ فالظّلمات الثّلاثُ تُرى!
تعالَ فلّما تَعُد مَلِكاً للمدائِنِ متروسَةً بالخيولِ، ولا للقُرى
– ابكِ مثلَ النّساءِ
– ولكنّني رجلٌ، تعرفينَ بأنّ الحكايةَ بيعَتْ بمهرٍ حرَامٍ، وأنَّ المسافةَ بينَ الحقيقةِ والوهمِ لا تُشتَرى
أُمنيَّة:
مريَمة (زوجةُ أبي عبد الله)
عِدني بأنْ تجِدَ الطّريقَ لقُرطبَةْ
النّصرُ لحنُ موشَّحٍ ما أعذبَهْ
عِدني بماربيا، بشمسِ الصّبحِ فوقَ بني رزينٍ، بساحلِ أُوربونة الذي يتعدَّدُ
جئني كريحٍ ترابادور
اتّخذني حاسّةً للحبِّ إنْ (ضاعَ) القرنفلُ في طُليطلَةٍ، و(ضاعَ) المشهَدُ
لنْ أَرجئ الزّمنَ السّعيدَ، إلى “هنالكَ”، فالسّعادةُ دربُ عدّاءٍ إلى حرّيّةٍ/ جبلٍ… يُناكِفُهُ السُّقوطُ الجيِّدُ
ومسافةُ المَلِكِ الذي قادتهُ أحداسُ البصيرةِ والرّحيلُ الأبعَدُ
عيناهُ ذاكَ المَوعِدُ!
زيتونة1:
أبو عبد الله الصّغير
أمامَكَ مئذنةُ اللهِ، عاليةً، تحتَها: مثلَ عُمرٍ قصيرٍ، صدىً، مثلَ بيتٍ من الشّعرِ، عُرسٍ مَهيبٍ بُعيدَ الظّهيرةِ، مثلَ يدينِ مفتّحتينِ على الشّمسِ: مئذنةٌ / مسجِدُ
.
وزيتونةٌ جذرُها في السّماءِ وأغصانُها سَرمَدُ
زيتونة2:
أبو عبد الله الصّغير
زيتونَةٌ تحتلُّ ذاكرتي، الغبارُ يهيجُ في الإدراكِ، والحقلُ الذي في دمعةِ الذّكرى… دماً يتورَّدُ
لو قلت: حزني الدربُ؟
– ليسَ الدربْ
حزني أبعدُ…
.
لا أستطيع الآن إفشاءَ المجردِ، فهو إن أفشيتُهُ يتجسَّدُ!
من كلِّ ما أوقدتُهُ في النّارِ: ظِلّي، كوكبي المنشودَ، شِعري، منجنيقَ الحربِ، أحلامي، مجازاتِ المعاني المُستفيضةِ… ظلَّ وجهُكِ يَخمُدُ
فعلُ المضارِعِ كانَ يمشي تحتَ جلدي، عكسَ مجرى الدّمِ، والسّاعاتِ:
آهٍ أيّها الملِكُ العزيزُ المُفرَدُ
رَكْض:
أنطونيو غالا (صاحبُ روايةِ المخطوطِ القرمزيّ – يوميّات أبي عبد الله الصّغير)
عذبتُ أبطالي الذين كتبتُهم بالحبر، حين أردتُ أن يتجلدوا
لكنّهم: سالوا، وضلّوا واهتَدْوا
فاجَأتُهم بالمحوِ، أنسخُ ظلّهم عن جذعِ أشجاري، ليُبتَكَرَ العراءُ السّيّدُ
وقتلتُهمْ من فرطِ ما “موتُ المؤلِّفِ” يُولَدُ
فتأبدوا!
.
أتخيلُ المعنى جنيناً ناقِصاً… سيظلُّ في رَحْمِ التّأمُّلِ يصعَدُ
وأراكَ مرآةً تُطِلُّ بداخلي كالبِئرِ، ليسَ لها غَدُ
بستان:
محمد الثاني عشر
لي غربةٌ بكماءُ… أجنادٌ تعسكِرُ في مسافةِ حبّيَ المأنوسِ
ثرثرةٌ بلا لغةٍ، أخمّنُ كيفَ يفهمها الفراغُ؟ يعيدُها للحكيِ، قَاموسُ الغريبِ، فَمُ الحياةِ الأدْرَدُ
.
أمهلتُ لصَّ الليلِ نصّاً كيَ يتوبَ، ويدفِنَ الكلماتِ خلفَ مجرَّةٍ قُصوى، بِها الثقبُ العنيدُ الأسوَدُ
فتكاثَرتْ كفّاهُ مثلَ المدِّ في آهِ الثّواكِلِ، ثمَّ ردّدتِ الطّبيعَةُ جَوقةَ اللحنِ الخفيِّ: الضّفدَعُ المسحورُ، والبجَعُ- الأميرُ، وقبّراتُ الشّرفةِ المغزولِ باطِنُها بأرتالِ الحريرِ، وسلحفاةُ الحقلِ، والطّنّانُ، والمُهرُ الذي… والجُدْجُدُ
فَتْح:
الملِكة إيزابيلّا الأولى (ملكةُ قشتالة وأراجوان/ أبقى زوجُها الملِكُ فرديناند الثّاني أبا عبد الله في الأسر بعد هزيمتِه)
أعطِني الكلماتِ التي ستقولُ (انهزِمْ)
و(انقَسِمْ)
ومفاتيحَ غرناطةَ الأبديّةَ… ما هوَ شكلُ الأبَدْ؟
من هُمُ الأمراءُ الذينَ يصلّونَ يومَ الأحَدْ؟
والأميراتُ والملِكاتُ، اللواتي سيقتُلُهنَّ الحَسَدْ
حينما يُلجَمونَ جميعاً أمامَيَ
قُدّامَ فرديناند قلبِ الأسدْ
غُربة
الموريسكيّون
نحنُ من نحنُ؟
نحنُ أنفُسُنا: الكلماتُ المضيئةُ في مصحفِ الجدْ
“ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمونَ الكتاب”
نحنُ أيضاً خيوطُ الحريرِ القويّةُ تنسجُها الأمهاتُ، ويصبغنَها بدمٍ سالَ من كلِّ يَدْ
نحنُ أرضُ الزّوالِ التي حُفِرَتْ في اليقينِ، وما لبِثت، قًطِّعتْ كِسَفَاً وبِدَدْ
مسلِمونَ قُدامى، نصارى جُدُدْ
دَمُنا ناصِعٌ: نحنُ لا شيءَ إلّا الفناءُ المُعَدّْ
ومن ولَدٍ لوَلَدْ
نحنُ لا شيءَ:
تعرِفُنا في غاليسيةَ حمّالةُ الحطَبِ الجاليكيّةِ
نعرفُها بالكلاليبِ والسّوطِ، والوطَنِ المُستعارِ وحبلِ المَسَدْ
وَلَه
أبو عبد الله
أجّلتُ موعِدتي لسِفْرِ الكائنِ البشريّ، لا أصفُ الحياةَ ولا أخلدُها، فموتي أخلَدُ
سأقولُ لاسمي: سيّدي، لا حظَّ للأنسابِ، كُنْ أو لا تكنْ: دَربَ الأُفولِ، سؤالَكَ المقتولَ، محبرَةَ القتيلِ القرمزيةَ، (زَفرَةَ البَطَلِ الأخيرةَ)، لا تكُنْ تاريخَ نفسِكَ، كنْ وسادَةَ خائفٍ من حُلمِهِ:
نفسٌ منوّرةٌ، وليلٌ مُسهَدُ
….
هذي الممالِكُ لي، نثرتُ على المسافةِ حِنطتي، لهُنيهةٍ ظلَّ البنفسَجُ صامتاً، هذي الشّوارعُ لي، نقشتُ على المفارِقِ قِصّتي:
أنا راسِخٌ ومشرَّدُ
لي غربةٌ بكماءُ… ظلٌّ في الحديقةِ… مَقعدُ
ومسافةٌ ما بينَ عينيَّ اللتينِ أرينَني… ما لا يراهُ السّيّدُ!
قاعٌ مُغامِرَةٌ وصرحٌ أمرَدُ
تعويذةٌ لعودَةِ غِرناطة:
التّاريخ
تُوشِكُ الكلماتُ – المداميكُ أنْ تتصدَّعَ من حُزنِها، قبلَ موعِدِها مع مساجَلةِ الشّاعِرِ
وإذا زُلزِلَ النّصُّ زِلزالَهُ: أينَ -ويحي- أخبِّئُ حُكمَ بني الأحمَرِ المستَقرّينَ، من حظِّهِ العاثِرِ
توشِكُ النّظرةُ القُدُسيّةُ أنْ تحنيَ الأفقَ: في داخلي النّارُ، نارُ المجوسِ التي خبأتها النّوائِبُ في بِزَّةِ الثّائِرِ
قيثارة:
أبو عبد الله بن الأحمر
لا حولَ لي… أقفلتُ مِزلاجَ البِلادِ على السّكونِ الباهِر
وسلبتُ عينَ الصُّبحِ آخرَ نجمةٍ
سأسيرُ يا ليلَ الرّؤى للآخِرِ!
هامِشٌ: الزّغبيّ أو الزّغابيُّ، ومحمد الثاني عشر، وأبو عبد الله بن الأحمر، في القصيدة: كلّها أسماءٌ وكنىً لأبي عبد اللهِ الصّغيرِ عينِه.
الهوامش:
اقرأ أيضًا:
مختصر السيرة الحزمية
قرطبة الأمجاد
تعليق واحد