علماء الأندلس: الشريعة واللسان
علماء الأندلس: الشريعة واللسان
أ.د. عمر القيّام·
كنت أتعجب من ذلك الجمع النادر العجيب بين فهم الشريعة والبصر النافذ في علوم العربية الذي جزم به فخر المالكية الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت ٧٩٠ هجرية) -رحمه الله- حين ذهب إلى إحكام الربط بين العِلمين، وله في ذلك العبارة المشهورة في كتابه العُجاب “الموافقات”: (الشريعة عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا مَن فهم العربية حق الفهم )، ثم وضّح هذا التلازم البديع بقوله: (فإذا فرضنا مبتدِئًا في فهم العربية فهو مبتدِئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا فهو متوسط في فهم الشريعة، فإذا انتهى إلى درجة الغاية في فهم العربية، كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حُجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجةً). إلى آخر كلامه الذي انتهى فيه إلى أنّ بإمكان العالم أن يكون في مرتبة الخليل وسيبويه وغيرهما من أرباب اللسان.
وهذا الذي قاله الشاطبي ربما لم يسبقه إليه أحد، ولا سيّما في دائرة علماء أصول الفقه، ولعل ضخامة علوم الشاطبي في العربية، واتساع دائرته فيها كانت وراء هذا الرأي الذاتي، فقد كان الشاطبي -وعلى الرغم من تأخُّر زمانه- صاحبَ بصيرة فذة لا نظير لها في علوم اللسان، ولعل شرحه الضخم على “ألفية ابن مالك” الموسوم بـ: “المقاصد الشافية” أن يكون أوسع شروح الألفية، بل هو أوسعها جزمًا، ومَن نظر في هذا الشرح ودقق في مسائله، وتبصَّر في تفكير الشاطبي رأى ثقوب نظره ونفوذ بصيرته وقدرته على الاعتراض على المتقدمين: المبرّد فمَن بعدَه من أساطين اللسان، وبَلورة رأيه العِلمي الخاص به.
وعلماء المغرب فيهم جرأة وجسارة وعمق في السجال مع المشارقة، وقد بَلوتُ ذلك في كلام إمام العربية في الأندلس أبي الحسين بن الطراوة (٥٢٨ هجرية) الذي كان شديد الاعتراض على مدرسة أبي علي الفارسي، وله معه محاققات ومناقشات عميقة، وكذا فعَل تلميذه الإمام السهيلي (ت ٥٨١ هجرية) لا سيّما في كتابه الرصين البديع “نتائج الفكر في النحو” وفي مواطن تستعصي على الحصر في كتابه العظيم “الروض الأنُف”، فجرى الشاطبي على سَنَن أهل بلده، وصاوَل المشارقة وناطحهم في معتركات النحو ومضايق النظر.
وهذا الذي دعا إليه الشاطبي قد أصبح نسيًا منسيًا في أيامنا هذه، حيث نستمع إلى مَن يحمل درجة الأستاذية في الفقه، ودرجة الابتدائية في العربية، فيأتي في كلامه بالعجيب الغريب من الأخطاء، ولا يتأتّى له فهم الفقه بحال من الأحوال، وهو داء وبيل قد استشرى بين الخاصة والعامة ولا سيّما مع تيسُّر سبل الحديث في العلم كمنصات اليوتيوب التي ظهر عليها مَن يخلط السمين بالغثّ، ويرقّع الجديد بالرثّ، فانصبّ البلاء على علوم الفقه على وجه الخصوص، وكم أرثي والله لهذا الفقه الحنفي تحديدًا الذي قام على شؤونه والتكلم باسمه رجالٌ أعاجم لا يعرفون من علوم العربية مبادئ اللسان، فشوّهوا وجه هذا المذهب النضير الذي كان لا ينتمي إليه إلا فحول اللسان ورجال العربية والبيان.
وتالله ما رأيتُ فقيهًا نابغًا في الفقه وعلوم الشريعة من رجال عصرنا، إلا وكان من أصحاب القدم الراسخة في علوم العربية واللسان، ورحم الله فقيه العصر وأستاذ الأستاذين الفقيه العلامة الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء الذي افتتح حياته العلمية قبل سبعة وتسعين عامًا بنشر كتاب “المذكر والمؤنث” لإمام الكوفيين أبي زكريا الفراء، ليكون ذلك مفتاحًا لا يخيب لفهم أسرار الشريعة التي بلغ فيها مرتبة المجتهد بكل أصالة واقتدار.
هذه نفثة مصدور، كتبتها تفريجًا عما يمور في الصدر من الأسف على ما آلت إليه علوم الشريعة من السطحية والترهُّل، بسبب الاستخفاف بعلوم العربية التي هي بحسب عبارة شيخ المفسرين ابن عطية الأندلسي: (أسُّ الشريعة وقاعدتها).
الهوامش:
اقرأ أيضًا:
3 تعليقات