الدكتور أحمد الحجي وذكرياته مع والده
الدكتور أحمد الحجي
وذكرياته مع والده أ. د. عبد الرحمن علي الحجي
حوار: أبو الحسن الجمال·
رحل المؤرخ الكبير، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن علي الحجي، في 18 يناير 2021، بعد رحلة حافلة بالأعمال الجليلة في مجال تاريخ المغرب والأندلس، وقد ذاعت شهرته في الشرق والغرب، وعرفته دوائر البحث العلمي. ومؤلفاته وأبحاثه في التاريخ والفكر والحضارة الإسلامية تشهد على تفرده وموسوعيته، وكان يتسلح خلال هذه الرحلة بالصدق والإخلاص.
ولد في المقدادية، بمحافظة ديالي، بالعراق الشقيق عام 1935، وتعلم في مدارس العراق، ثم ولى شطره إلى مصر المحروسة ليتعلم في كلية دار العلوم بالقاهرة، وتحرج فيها عام 1959، ثم حصل على الدبلوم العالي من جامعة مدريد المركزية عام 1961، وعلى الدكتوراه من جامعة كمبردج بالمملكة المتحدة عام 1966، في رسالة بعنوان “العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوربا الغربية خلال المدة الأموية”، وقد عمل في العديد من الجامعات العربية، وهو أحد مؤسسي جامعة الإمارات العربية المتحدة، ثم استقر به المقام في مدريد منذ عام 2000 وحتى رحيله في بداية عام 2021، وكان يحلو له أن يطلق على الأندلس: أرض الأجداد، وعن مدريد: أول مدينة أوربية يؤسسها المسلمون.
وقد أمد المكتبة العربية بالعشرات من الكتب العلمية التي تنوعت بين التأليف والتحقيق وشملت التاريخ الأندلسي والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية وعلم التاريخ، والسيرة النبوية، من أهم مؤلفاته: “التاريخ الأندلسي من الفتح حتى سقوط غرناطة”، و”تاريخنا مَن يكتبه؟”، و”نظرات في التاريخ الإسلامي”، و”تاريخ الموسيقى الأندلسية”، و”أندلسيات”، كما حقق سفرًا من كتاب “المقتبس في أخبار الأندلس” لابن حيان القرطبي، ويتحدث هذا الجزء من المقتبس عن خمس سنوات (360-364هـ = 971-974م) من أيام الخليفة: الحَكَم الثاني، المستنصر بالله (350-366هـ = 961-976م). نُشر هذا الجزء عن نسخة منقولة عن الأصل. وغيرها من الأعمال…
وكان لزامًا أن نقترب أكثر من حياة الدكتور الحجي ونتعرف إلى كواليس حياته من خلال أقرب الناس إليه ابنه الدكتور أحمد الحجي، أستاذ العلوم المالية المشارك، جامعة كيبيك في مونتريال، كندا، في حوارنا هذا، الذي عرجنا فيه بين حديث الذكريات الحافلة والتي تثير في النفس الشجن.
فقلت له: لماذا اتخذ الوالد مدريد مقامًا في أخريات حياته؟
– الحقيقة أن علاقة والدي (رحمه الله) بإسبانيا كانت دومًا وثيقة، والأمر كذلك بالنسبة لكل أفراد العائلة. لا يخفى على الجميع أن مرد هذه العلاقة الخاصة مع هذا البلد الجميل هو تخصص الوالد بالتاريخ الأندلسي وعشقه للأندلس، كان دومًا يسميها أرض الآباء والأجداد، أما مدريد فيحلو له تلقيبها بالعاصمة الأوربية التي بناها المسلمون.
كان حقيقةً يشعر أنه أندلسي قذف به الزمان في العراق، فكان لزامًا عليه أن يعطي أرض الآباء والأجداد حقها من الوفاء والزيارة والتفقد. أذكر مرة يوم كنا في العراق وأنا طفل صغير أيام الحصار الجائر الذي فُرِضَ على هذا البلد، سافر والدي (رحمه الله) إلى الأردن ابتداءً، ثم بعد أيام اتصل بنا مما بدا أنه مكان آخر، سأل أختي مآب التي كانت تكلمه على الهاتف، هلا حزرتِ أين أنا؟ لم يَكُن من الصعوبة عليها تعليل نبرة السعادة في صوته (رحمه الله) بأنه في المكان المُحَبَّب إلى قلبه: إسبانيا، فأجابته بسرعة بديهة: أنت يا أبي في أرض الآباء والأجداد، فضحك عاليًا حتى أنني سمعت الضحك من الهاتف عبر مسافة عشرة أمتار تفصلني عنه، أظنه استحسن هذا الرد من أختي مآب.
أما عن سبب إقامته الدائمة في مدريد والتي بدأت منذ حوالي عام 2000م، فهذه هي الفترة التي بدأ يدخل بها مرحلة التقاعد، فمعرفته بإسبانيا ولغتها وحبه لها، فضلًا عن حمله لجنسيتها، جعل الاستقرار فيها أمرًا منطقيًا في ظل الابتعاد شبه القسري عن بلدنا الأم العراق بسبب ما أَلَمَّ به من مآسٍ وكوارث في العقود الأخيرة.
* ما السبب الذي دعاه كي يترك العراق مسقط رأسه؟ وهل كان يحن إلى العراق للرجوع ذات يوم؟
– غادر الوالد (رحمه الله) العراق بشكل متقطع منذ ستينات القرن الميلادي الماضي، في إعارات متعددة من جامعة بغداد، للمملكة العربية السعودية وللإمارات العربية المتحدة (التي ساهم في تأسيس جامعتها) وللكويت. لا يخفى عليكم صعوبة الوضع في العراق آنذاك، لا سيما للمستقلين سياسيًا مثل والدي، كان يجد حرية أكبر في العمل خارج العراق ومقدرة أكبر على المساهمات والمشاركات العلمية دون عوائق كبيرة.
العراق هو بلده الأم الذي يحتل في قلبه موقعًا خاصًا، لقد نشأ في تلك الأرض، في حقول الزراعة في محافظة ديالى، وظل ذلك المكان والقصص التي دارت فيه في أفكاره ليل نهار يشارك بها كل من جالسه.
* ما الأعمال التي أنجزها في الغربة؟
– كثيرة، كان دائم التحسين والتعديل والإضافة على كتبه، وبالإضافة إلى ذلك أنجز العديد من الكتب والمواد الجديدة. لطالما تمنّى الوالد (رحمه الله) إطلاق مركز بحثي لدراسات التاريخ الإسلامي والأندلسي، وسعى لذلك عشرات السنين، ولكن حال دون تحقيقه المُكنة المادية. بدأت هذه الفكرة في ثمانينيات القرن الماضي، إذ نُشِرَت معه حينها مقابلة في صحيفة البيان الإماراتية يوم 9 مارس 1985م تحت عنوان: إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، مشروع يتكلف مليون دولار. وبعد مرور سنين دون تحقق هذا الهدف، مضى الوالد (رحمه الله) بفكرة مختصرة لكنها تسير في نفس هذا المضمار، وهي مجلة علمية مُحَكَّمَة لنشر دراسات رصينة في التاريخ الإسلامي. وبالفعل، صدر العدد التجريبي من هذه المجلة، تحت عنوان “البذور”، إلا أنها بدورها كذلك لم يكتب لها الاستمرار، مع أسف شديد.
الأمل -كل الأمل- أن تأخذ تلك الفكرة طريقها نحو التحقيق، سواء كانت من خلال مركز بحثي تتبناه جامعة تكون مهمته العناية بالتاريخ الأندلسي، أو من خلال مجلة علمية متخصصة في التاريخ الأندلسي، وإن كانت بعدد واحد سنويًا، يضم هذا العدد بضعة بحوث مُحَكَّمَة، أو من خلال كلتا الفكرتين هاتين. يكون لهذه المجلة لجنة علمية من المعروفين في التخصص. كما نتمنى إفراد جائزة بحثية باسم الراحل (رحمه الله) تُمنح لبحث متميز في التاريخ الأندلسي، وممكن أن تُرفَق بالمجلة المقترحة أعلاه، وفي هذه الحالة تُمْنَح هذه الجائزة لأفضل بحث في عدد المجلة، حسب رأي اللجنة المُحَكِّمَة.
* كيف كانت طقوسه عندما كان يكتب ويقرأ؟
– كانت أيامه عمومًا ليس فيها الكثير غير القراءة أو الكتابة، حتى أن والدتي (منال، أم بلال، رحمها الله) كانت دومًا تمازحه وتقول له: فقط أخبرني متى سوف تتخرج؟ كان يعمل بهمة الشباب حتى آخر يوم، بمعدل ١٥ ساعة يوميًا، كانت طريقته في الكتابة أن يحضر المادة والأفكار ويبدأ بكتابة المسودة، نسخة بعد أخرى يبقى يعدل فيها، كان دقيقًا جدًا فيما يكتب.
وقبل أن يبدأ عهد الطباعة في الكومبيوتر (التي تعلمها وأتقنها بعد تجاوز السبعين من العمر)، كانت والدتي (رحمها الله)، رفيقة دربه، هي من تساعده في كتابة كتبه، يملي عليها كلمة كلمة وهي تكتب، رغم أعباء عملها الشاق طوال اليوم. كانت تعمل دومًا دون توقُّف، كالساعة. تَجْمَع عملها التربوي الشَّاق في الصباح مع أعباء المنزل الكثيرة بعد الظهر، فضلًا عن مساعدة والدي (رحمه الله) في المساء، لا سيما في كتابة كتبه وتنظيمها. كثيرًا ما كان يذكر والدي (رحمه الله) ويُشِيد بكتابتها مسودة كتابه “التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة” بيدها مَرَّات خمس. رحمهما الله وجزاهما عنا خيرًا.
كانت الوالدة تُقَدِّم هذا بسرور ومَحَبَّة. لا تكاد تذكره، وما كُنّا لنَعْرِف شيئًا عَنْه لولا إشادة والدي (رحمه الله) المستمرة بِكَرَمِها ووَقْفَتِها معه في مشوار الحياة. إليها أَهْدَى إحدى أوائل كتبه وأكثرها أهمية: “نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي”، أهداه إليها بهذه العبارات الرقيقة: (إلى التي أحْسَنَتْ صُحْبَتي وتَبْذِلُ جُهدَها في معاوَنَتي، وَفَاءً وتَقْدِيرًا.. إلى زوجتي). كما كَتَبَ لها من الشِعْر أرَقَّه.
* الهموم التي كانت تنتابه في هذه الفترة؟
– كان الوالد (رحمه الله) يتنفس الأندلس، ويعيش هموم أسلافه المورسكيين ومعاناتهم مع محاكم التفتيش. كثيرًا ما كنا نراه غارقًا في أفكاره، ليبدأ سيل دموعه بالنزول. وحين نستقصي نعرف أنه يتذكر مشاهد المورسكيين وهم يُحْرَقون أمام السلطات الكنسية في أحفالها “الإيمانية!”، قابضين على دينهم يورِّثونه جيلًا بعد جيل وهم تحت وطأة محاكم التفتيش الغاشمة. لَكَم كان يسوؤه مَن يسْتَخِفّ بآلام المورسكيين وجهادهم ومصابرتهم، بل يلومهم ويتخذ من قضيتهم مثالًا على مَن أضاع دينه ودياره باللهو واللعب والرقص! وكثيرًا ما يأتي هذا الاستخفاف واللّوم ممّن لا يكاد قرأ عن الأندلس غير مطالعة سريعة. أشْعُر أنّ رحيل الوالد زاد القضية المورسكية يُتْمًا في هذه الأيام، نسأل الله أن يعوضها بمن يسير على هذا الدرب ويرفع لواء هذه القضية الإنسانية العادلة.
الحَجِّي والأندلس صنوان، ولقد استحقَّ بجدارة ما أُطلق عليه من ألقاب عديدة بُعَيد وفاته: فارس الأندلس وعاشق الأندلس وشيخ المؤرِّخِين الأندلسيين.
*هل ترك الحجي أوراقًا أو مؤلفات أو أبحاث لم ترَ النور بعد؟
– حين سُئِلَ الفضل أبو رافع، ابن ابن حزم الأندلسي، عن مؤلفات أبيه (ابن حزم) بعد وفاته، قال إنه أحصى مؤلفاته فوجدها ٤٠٠ مجلد بحوالي ثمانين ألف صفحة. وإذا اعتبر عبد الرحمن الحجي (رحمه الله) نفسه من رفاق ابن حزم، فلا يسعنا -بِرًا بوالدنا- إلا أن نقف موقف الفضل أبي رافع، مشيدين بما تركه والدنا (رحمه الله) من تركة علمية كبيرة: قرابة ثلاثين كتابًا مطبوعًا وأكثر من عشرة كتب شبه جاهزة للنشر، جعلها الله شفيعةً له يوم القيامة كما كان يدعو الله تعالى دائمًا. وجوابًا على سؤالكم: نعم، ترك الكثير من الكتب التي لم تطبع بعد، منها كتاب: “الإعجاز”، و”القضاء والقضاة في الأندلس”، و”النموذج الأندلسي في تطبيق الشريعة الإسلامية”، و”انتشار الإسلام في الأندلس”، و”المورسكيون في المخطوطات والمصادر الأندلسية”، وغيرها الكثير.
* هل كان الإسبان يقدّرون مكانته أثناء مقامه هناك؟
– نعم، لا سيما المستشرقين المنصفين. أذكر مرةً زيارته لقسم اللغة العربية والدراسات الشرقية بجامعة مدريد كومبلوتنسي ليسأل عن صديق له، فسأل امرأة كانت تجلس خلف مكتبها في القسم، فأجابته عن مكان ذلك الصديق ثم أتبعت جوابها بسؤال عن اسم الوالد؛ فأجابها: عبد الرحمن الحَجِّي، فإذا بها تقف خلف المكتب، كانت قد سمعت عن والدي وأعماله في التاريخ الأندلسي كثيرًا دون أن تلتقي به، أشادت به وبعلمه، وقالت لي: أبوك عالم كبير. عرفنا لاحقًا أنها أستاذة ومستشرقة إسبانية معروفة اسمها “ماريا خيسوس فيجيرا” كان ذلك الموقف الطريف فاتحة علاقة قوية نشأت بينهما.
* مَن مِن الشخصيات التي كان يتواصل معها ويقابلها وتحج إليه في مدريد؟
– كان يسعد بكل مَن يطرق بابه من الزائرين للأندلس، العديد كانوا يتصلون به حين يصلون إلى مدريد، يكرم كل من يقصده ويحثهم على زيارة الآثار الأندلسية ويزودهم بالكثير من المعلومات والكتب.
*هل عاش أحد من أولاده في جلبابه؟
– نعم، أخي أيمن كان يعيش في مدريد معه، أما نحن أبناؤه الآخرون فكنا في زيارات متتابعة له.
* الأيام الأخيرة في حياة الدكتور عبد الرحمن الحجي كيف تتذكرها؟
– كما ذكرتُ، كانت حياته كلها عمل دون تذمر ولا ملل، إلا أن هذه الوتيرة بدأت تتسارع أواخر أيامه حتى أصبح لا يبقى جالسًا معنا على الطعام حتى انتهاء الجميع، وهو أمر كان معتادًا وحريصًا عليه فيما سبق. كان يأكل قليلًا ويسارع بمغادرة المائدة إلى طاولة العمل. في آخر سنة من عمره بدأ بوضع اللمسات الأخيرة على كتابة مادة في إعجاز القرآن والنبوة، كان يفكر في هذا الأمر ليل نهار، باله يجول في إعجاز القرآن وعظمة الخالق، كأنه كان يسارع إلى لقاء ربه ويستعد لذلك. كان يعمل بهذا الكتاب حتى 40 دقيقة قبل وفاته، ترك الكتاب وخرجنا أنا وهو نمشي في الحي، فكانت الوفاة أثناء تلك الجولة. كان في أواخر الأيام يفكر حتى في نومه في أمر هذا الكتاب، عندما أصحو صباحًا أجده قد قطع شوطًا كبيرًا في الطباعة على الكومبيوتر، وإذا ما صحونا في الليل نجده يقرأ الكتب المحيطة بفراشه ويأخذ الملاحظات. حتى عندما كنت أسَلِّم عليه صباحًا، أتذكر أنّ رده كان يأتي سريعًا أواخر الأيام (دون أن يفقد شيئًا من دفئه وإحساسه وحنانه)، كان يلفّ رأسه تجاهي، يقول مسرعًا: أهلا حبيبي، ويعود ليكمل الكتابة.
* كيف نقيّم تجربة الدكتور عبد الرحمن الحجي بعد الرحيل؟
– لم تكن دوافعه في أي من أعماله شخصية على الإطلاق، بل كان كل همه خدمة دينه من خلال رعاية تاريخ أمتّه، كان عالمًا بروح الفارس المحارب الذي آلمته سيطرة الشبهات على تاريخ أمته حتى غدت من المُسَلَّمات، فحمل سيف هذا التاريخ مستندًا على أقوى الأدلة العلمية، فسقطت بحمد الله الكثير من تلك الشبهات بضربة واحدة من هذا السيف العلمي التاريخي. وقد ذكر رحمه الله أكثر من مرة أنه يعتبر عمله في التاريخ من العبادة وأنه نوع من أنواع الجهاد. لقد سلك طريقًا وعرًا شَحَّت فيه الرفقة، ولم يكن رحمه الله يبالي لذلك، وقد جلبت له تلك الجرأة وذلك التجرد للعلم الكثير من المتاعب التي أجبرته على حمل حقيبته من مكان إلى آخر!
يمكنني أن أقول بارتياح: إن مشهد التاريخ الأندلسي بعد عبد الرحمن الحَجِّي ليس كَقَبْلِه. لقد كانت مادة التاريخ الأندلسي قبله مادة خامًا لا يُحسن استخدام مصادرها المتخصصة ومخطوطاتها إلا مَن تَبَحَّر وتَعَمَّق في هذا التخصص، حتى كُتُب المعاصرين التي سبقت عمله بقليل كانت تميل إلى التخصص والأكاديمية التي لا تجد القبول الواسع لدى العامة. فلتوفيق الله له (رحمه الله) يمكن أن نعزو جزءًا غير يسير من حركة تحويل تلك المادة الخام الى أخرى قابلة للاستهلاك والعرض للأقل اختصاصًا وللعامة الذين يعتريهم الفضول في التعرف على هذا المقطع المهم من تاريخنا.
وكتابه “التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة” يُعد حجر أساس في التحول الذي شهده حقل العمل هذا. وقد طُبع أكثر من عشر مرات وغدا مقررًا دراسيًا في العديد من الجامعات، وسقى عطاشًا بماء زلال أنقذهم بفضل الله من اللجوء إلى مياه آسنة متعفنة بالشبهات يسقون عطشهم بها، وإن بدت براقة في ظاهرها. ومن العلامات الفارقة التي تركها هذا الكتاب، رفقة غيره من أعماله (رحمه الله)، أنه أظهر جرأة لم تكن شائعة في مواجهة أعتى الشبهات التي لُصِقَت بتاريخنا زورًا وبهتانًا، مواجهةً مسلحة بالدليل العلمي الواعي المنصف، دون أن يرهبه شيوع هذه الشبهة أو تلك، أو كونها جاءت على لسان أحد المستشرقين المعروفين مثلًا، ويكون رحمه الله بهذا قد بث جرعات من الأمل والشجاعة في أروقة البحث العلمي في عالمنا العربي والإسلامي.
* هل كُرم الدكتور الحجي بما يليق في وطنه وفي الدول الأخرى؟
– نجد أنفسنا في اتفاق كبير مع مَن قال له في أحد الأيام الصعبة: لو أن أحدًا أنفق نصف جهودك في دراسة التاريخ الأوربي الحديث لنُصبت له التماثيل النصفية في سوح الجامعات الأوربية، ولسُمِّيَت القاعات المتعددة باسمه، إلا أنه كان دائمًا ما يردّ بأن هذه المظاهر لا تهمه ولا يحسب لها حسابًا، وأنه لا يألم لفقد منصب أو أي مزية دنيوية، فهو لا يبحث عن “عمل وإنما عن ميدان” يوصل من خلاله رسالته. والحق أنه لا بد لمن يعرفه ويخبر تصرفاته أن يدرك منها ما يؤكد ذلك. لقد كان رحمه الله ينفق الساعات بعد الساعات من وقته، مع البسطاء قبل غيرهم، يصب العلم صبًّا لكل من يطرق بابه، لا سيما مَن يتوخى فيهم الصدق والإخلاص في العلم والتوجّه. نرجو أن يكون فيما ادخره الله له خير عوض، ولعله شاطَرَ الكثير من أعلام التاريخ الأندلسي كطارق بن زياد وموسى بن نصير بشيء من هذا الظلم الدنيوي، والذَين جمعهما مع غيرهما في كتابه الجميل “المظلومون في تاريخنا”.
ووجدنا في ملاحظاته التي كتبها (رحمه الله)، التبرير التالي لعدم رغبته في نشر مذكراته التي كتب أكثرها ثم تثاقل في المضي بها: “ما كنتُ أبحث عن الشهرة ولا أريدها، فقط أريد أن يعرف المسلم تاريخه من خلال ما أقدمه له”.
إلا أننا مع ذلك نعتقد أنّ عمله لم يذهب سدًى، وحاشا لله أن تكون عاقبة الأمر كذلك لمن نحسبه مخلصًا في عمله في سبيل الله ومتحررًا من أي قيد دون ذلك.
* هل من الممكن أن تعاد طباعة أعماله في قابل الأيام؟
– نعم، هذه من الأعمال التي سوف نسعى لها إن شاء الله. إرث والدنا الراحل كبير، والمسؤولية كبيرة على كل المهتمين في التاريخ الأندلسي أن يولوا هذا الإرث اهتمامًا يستحقه.
كما نسعى لإنشاء موقع إلكتروني بمواصفات فنية متميزة يكون مظلةً ومرجعًا للكثير من الأعمال المتعلّقة بالوالد (رحمه الله). مثلًا: جمع مئات المقالات والبحوث المتناثرة في صفحات المجلات والصحف، لحفظها من الضياع أولًا، ثم لتقديمها بشكل مُيَسَّر لجميع المهتمين، ووضع ملفات وروابط المواد الصوتية والمرئية.
الهوامش:
اقرأ أيضًا:
عبدُ الرَّحمن الحَجِّي: سِيرة ومَسيرة
خواطر مسجدية أندلسية
تعليق واحد