التقاطة
التقاطة
الصور هي ذكرياتنا.. حربنا ضد الزمن، وكأننا نثبت له وإنْ مضى واستحالت عودتُه أننا نملك نسخة من هذه اللحظات في أدمغتنا كذكرى أو صورة محفوظة في “ألبوم”..كمن يأخذ صورة للوَرد قبل أن يذبل أو للشمس حين تغيب..
أقلّب ألبومًا قديمًا.. هنا.. في هذه الصورة، ما زال الجميع يضحك على نكتة قيلت قبل عشرين عامًا، وهنا بدا وجه أبي شاحبًا بعد خروجه من المستشفى، وهنا صورتي الأولى.. نعم هذه وأنا في السادسة..
ستّ سنوات هذا هو عمري حين بدأتْ ذاكرتي تلتقطُ الصوَر وتسجّل الأصوات وتستسيغ الطَّعم وتستنشق الرائحة، وكان هذا هو المشهد الأوّل.. صياح الديك، رائحة الخبز تملأ منزلنا.. ذلك المنزل الصغير الذي يجمع تسعة أفراد!
أسمع صوت صفير أبريق الشاي المعدني الذي طالما لُسِعَتْ به أناملُنا الصغيرة كلّما صببنا الشاي..
حينها أدرك أن أمّي بخير فهذه بصماتها الصباحية..
أخرجُ من باب دارنا وبنظرة سريعة على هذا الحيّ العريق بأزقّته الأثرية.. هنا مسجد بناه والٍ عباسيّ جدّده بعدَه العثمانيون، وهنا مدرسة شُيِّدت مع ولادة أبي.. هنا أتنفّس عبق التاريخ، وبخطوات طفولية راقصة أجوبُ أزقّةً مشى فيها الأوّلون.. أسمع صوت صافرة القطار معلنةً وصول القادمين..
أرى جارتنا (أم محمد) بثوبها الأسود على طول السنة تنتظر ابنها (محمد) حتى يعبر الشارع فلم يعد لها سواه، وهذا العم (نديم أفندي) الأنيق دائمًا بسدارته وهيئته المهيبة ذاهبًا لدوامه.. وهنا (علي) هذا الطفل الذي يكبرني بخمس سنوات والذي تشتكي منه المحلّة لشقاوته!
كل كائن يسكن هنا له حكاية سواء عرفناها أم كانت مستترة خلف الجدران..
أرى “الكاميرا” الشمسية ذات الستارة السوداء حيث يُدخل العم (أبو شهيد) رأسه يلتقط صورًا لأهل الحي، وأذكر خوفي حين التقط لي صورتي المدرسية.. كانت هذه الكاميرا تسجّل خجَلنا الممزوج بالخوف، ثم ما نلبث نتنفس الصعداء حين نسمع صوت زر الالتقاط..
في الشارع الموازي لشارعنا هناك مقهى المثقفين، هكذا يطلق عليه أهل الحيّ، فيه الأشعار والتراث والحكايا، وكلما مررت سمعتُ صوت ناظم الغزالي يصدح بـ(حلو وبوجنته شامة) و(طالعة من بيت أبوها).. وأكمل معه حتى أني لا أعرف ما هي هذه الكلمات وماذا تعني!
أتذكر أماكن وأناسًا لم يعد لهم وجود، لم أعرف أسماءهم، ولم أكلمهم يومًا، لكن عيني التقطت لهم صورًا شتى..
حين تتصفح ألبوم صور العائلة سترى تاريخًا وجغرافية وأحاديث.. ستكتشف هناك أشياء فُقدت منك ولا تعرف أين آل مصيرها؟!
رأيتُ صورًا لأصالة بغداد، وكثيرا ما قيل: “مَن لمْ يرَ بغداد، لمْ يرَ الدنيا، ولمْ يرَ الناس”، بغداد المليئة بالحكايا، فلا عجب إن استطاعت شهرزاد تأليف ألف حكاية وحكاية..
وصدّقوني مَن لم يرَ بغداد ولم يستنشق نسمات فجرها ولم تعبث بقلبه لهجتها، فلم يرَ الجمال، ولم يعرف معنى الحبّ..
إذا قالت زُنيبُ فصدّقوها .. فإنّ الحقّ ما قالت زُنيبُ!
زينب الأزبكي
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات