على أعتاب ذكرى السياب
علىٰ أعتاب ذكرىٰ السياب
حسان الحديثي
المسيح:
“المسيح” هو الشخصية الأكثر ترددًا وتكرارًا في شعر السياب، فقد ذكره كثيرًا في قصائده، كما في قوله:
بين القرىٰ المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفىٰ صليبه
وفي قوله :
كان المسيح بجنبه الدامي ومئزره العتيق
يسدّ ما حفرته ألسنة الكلاب
وقوله:
أم سُمّر المسيح بالصليب فانتصرْ
وأنبتت دماؤه الورود في الصخر؟
وقوله:
هبوا، فقد وُلِدَ الظلام
وأنا المسيح، أنا السلام
وقوله:
حيث المسيح يظل ليس يموت أو يحيا كظل
وهكذا يتردد اسم “المسيح” في ديوان “أنشودة المطر” وحدِه عشرين مرة، لم يكن التكرار من قبيل الصدفة بالتأكيد كما لم يكن تأثره بالأدب الإنجليزي هو السبب الذي جعل رمزية المسيح تتكرر في نصوصه، لقد كان السياب يبحث عن أمر آخر وجدَه في المسيح، أمر له ارتباط بالعلة والطب، بالبرء والسقم، له علاقة بالإنسانية الضائعة من محيطه والسماحة المفقودة في عوالمه، أمر فيه إشارتان: إشارة إلىٰ الحياة التي بدأت تتفلت من جنبيه كتفلت الماء من اليد الراجفة، وأخرىٰ إلىٰ الموت الذي صار يجول حوله كالذئب حول القاصية من الغنم.
لقد تعلقت روحه بالخيال فلم يجد كالمسيح -عليه السلام- منقذًا خفيًا يأتيه من وراء حجب الظلام والأوهام بعد أن فقد الأمل فيما حوله من حقيقة.
الشؤم:
لم تتكرر مفردات في شعر السياب كالمفردات الدالة علىٰ البؤس وقد جاءت هذه المفردات بحالين: إما بلفظ صريح مباشر كمفردة: قبر، ولحد، ومقبرة، أو كناية عنها كمفردة: موت، وثكلىٰ، ورحيل، وجثة. ولا أتكلم هنا عن قصائد كان القبر موضوعُها وما تدور عليه رحاها كقصيدة “حفار القبور” وقصيدة “رسالة من مقبرة” حيث يكون تكرار مفردة القبر ومرادفاتها أمرًا طبيعيًا، ولكني أتكلم عن غالب القصائد، سيما تلك التي كان الحزن والظلم ما بُنيَت عليه، فقد تكررت مفردة “قبر” ومرادفاتها في ملحمة “المومس العمياء” ثمان مرات.
أما المفردات التي تشير إلىٰ القبر كنايةً فلا تكاد تخلو قصيدة منها، ولم تتكرر هذه المفردات في قصائده التي كتبها بعد مرضه ويأسه من الشفاء وإشرافه علىٰ الموت فحسب، بل حتىٰ في بواكير قصائده التي كتبها في أيام حيويته في دراسته الجامعية وما بعدها، وهذه المفردات والدلالات لا تشير إلىٰ الحزن والكآبة وحسب، بل تتعداهما إلىٰ الإفراط “المقبول” والمبالغة “المحمودة” في وصف الشؤم والظلمة والوحدة.
فهو مثلًا في قصيدة “ليلة انتظار” والتي يخاطب فيها زوجته، يمعن في وصف ما بعد الموت، ويذهب إلىٰ أبعد من الموت، فيذكر الديدان حين تأكل قلبه، وتشرب الأرض جسده، وينتهي كل شي إلا قصائده:
غدًا تأتين يا إقبال يا بعثي من العدم
و يا موتي و لا موتُ
و يا مرسىٰ سفينتيَ التي عادتْ و لا لوحٌ علىٰ لوحِ
و يا قلبي الذي إن مِتُّ أتركُه علىٰ الدنيا ليبكيني
و يجأر بالرثاء علىٰ ضريحي وهو لا دمعٌ و لا صوتُ
أحبيني إذا أدرجتُ في كفني… أحبيني
ستبقىٰ حين يبلىٰ كلُّ وجهي كلُّ أضلاعي
و تأكل قلبيَ الديدانُ تشربُه إلىٰ القاعِ
قصائدُ كنتُ أكتبها لأجلكِ في دواويني
أحبِّيها تُحبيني…
ولعل حالة البؤس التي صورها بدر شاكر السياب في قصائده واحدة من الفنارات الرمزية الدالة عليه، ليس ذلك وحسب، بل ابتكر لها صورًا لم تكن موجودة في الشعر العربي كتصويره للـ “صمت” بأنه شي مادي محسوس فيجعل له في “منزل الأقنان” جثةً تأكلها العصافير بأصوات سقسقاتها فتبددها:
ذوائب سدرة غبراء تزحمها العصافيرُ
تعد خطىٰ الزمان بسقسقات والمناقيرُ
كأفواه من الديدان تأكل جثة الصمتِ
وتملأ عالم الموتِ
ثم يصوّر لنا في “المومس العمياء” أن الصمت يتغيَّر وأن شكل أعناق البط المهاجِر تزيد منه:
سربٌ من البط المهاجر يستحث إلىٰ الجنوب
أعناقه الجذلىٰ تكاد تزيد من صمت الغروب!
مع كل ما تقدم لم نشعر أن السياب بالغَ أو خرج عن نطاق المألوف، بل بقي قريبًا إلينا مع كل تلك السوداوية، ذلك أنه لم يتصنّع الحزن ولم يتكلّفْه في وصفه، لأنه ببساطة كان يعيشه بشكل يومي، مع كل جزئية من جزئيات حياته، فطابق الوصفُ الموصوف.
الظلم:
ليس من العدل أن ننظر إلىٰ ملحمة “المومس العمياء” نظرةً فنيةً فحسب، بل أجد أنه من الإجحاف عدَمُ النظر إلىٰ الجانب الإنساني في هذه القصيدة التي بُنيت علىٰ مرتكزات الظلم والضعف والبؤس، ولعل الطريقة المناسبة لدراسة هذه القصيدة هي البداية فيها من حيث أرادنا السياب أن نبدأ، حين تكون الحياة هدفًا للظلم، الظلم المتمثل في حفنة زيتٍ لمصباحٍ أُصيبتْ صاحبتُه بالعمىٰ؛ من هنا أرادنا السياب أن نبدأ.. في قوله:
ويح العراق! أكان عدلًا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمنًا لملء يديك زيتًا من منابعه الغزيرة
كي يُثمرَ المصباحُ بالنور الذي لا تبصرين؟
هل هناك ظلم فوق هذا الظلم؟! حفنةُ زيتٍ ليُضاءَ مصباحٌ صاحبتُه عمياء لا تهتدي بنوره، بل لا تراه أصلًا، في بلدٍ الزيتُ والماءُ فيه سواء؟ أيُّ سخريةٍ هذه وأيُّ هوان ذاك؟
لا شك أن هذه القصيدة من أكثر القصائد تصويرًا للبؤس، بل أكثرها تجسيدًا للظلم الاجتماعي علىٰ الإطلاق، والمستمر ما تعاقبت مريضاتُ النفوس وما عاش ابنُ آدم بقلب جاحد.
وقد صنّف أهل الأدب هذا النوع من الشعر، فأطلقوا عليه تسمية “الشعر الوجداني” وتكون قاعدتُه ونقطةُ ارتكازه أمرًا واحدًا يجسدهُ الفقر الذي يتطور إلىٰ العوز ثم إلىٰ المرض أو الانحراف الأخلاقي والاجتماعي كما في قصيدة “المومس العمياء” ليكون الموت أحد أهون نهاياته.
كما أراد السياب أن يلفت الانتباه إلىٰ أن هناك فرقًا تجب الإشارة إليه بين الانحراف الأخلاقي والانحراف الاجتماعي، ويجب أن يراعىٰ هذا الفرق ويبيّن وإن كانت النتيـجة -من وجهة نظر المجتمع- واحدة.
قصة “المومس العمياء” هي قصةُ صَبيّة يُقتل أبوها الفلاح ظلمًا علىٰ بيدرٍ للقمح، يقتله صاحب الأرض وكان يسمىٰ اصطلاحًا “الإقطاعي” ولكي يُبرَّأ القاتل وتبرَّر الجريمة يُتهم المقتول بالسرقة فتُطرد البنت من بيت أبيها لتعيش العوز وتُلجِئُهَا الحياة إلىٰ الانحراف لتقضيَ حياتها في الرذيلة، ثم تُصاب بالعمىٰ فتكون قد فقدت كل شيء: أباها وطفولتها وجمالها ثم شبابها وبصرها.
كان علىٰ السياب أن يُعطي قصيدته هذه جرعاتٍ وافية من البؤس والتعاسة؛ لنقْلِ الصورة التي يراها إلىٰ ذهن القارئ؛ وقد فعل، ليس ذلك فحسب، بل جعل معاني البؤس مركبة يتوالد بعضُها من بعضِها، سيما في قوله:
موتىٰ تخافُ من النشور
قالوا سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!
فيصور البشر كأنهم موتىٰ في الحياة، وما موتهم “الفيزيائي” إلا هرب من قبور حياتهم إلىٰ قبور مماتهم.
كذلك في تساؤلاته واستفهاماته البالغة في المرارة والتي يقول فيها:
مِن أي غابٍ جاء هذا الليلُ؟ من أي الكهوف؟
مِن أي وجرٍ للذئاب؟
مِن أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب؟
التركيز الهائل في استخدام مفردات البؤس وتكرارها في قدوم الليل: فيبدأ بوصفه أنه قادم من غابٍ، ثم من كهفٍ، ثم من وجرٍ للذئاب، ثم في النهاية يصفه بالقادم من عشٍ للغراب، ولكي يزيد من قتامته يجعل العش في مقبرة؛ فهو يصور الليل صورة مركبة يزاوج فيها بين بؤسين أو أكثر لتُخصبَ ذاكرتُه بمئاتِ الصور المأساوية القاتلة.
ترىٰ ماذا كان يمثل الليل للسياب؟ ولماذا هذه السوداوية المفرطة في شعره عمومًا وفي هذه القصيدة خصوصًا؟
هل كان لمرضه سبب في ذلك؟
أم لأنه عاش طفولةً صعبة تناوبت عليه فيها أسبابُ الحزن؟
أم لأنه السيَّاب (العراقي) الذي رأىٰ في بلاده كل أنواع القهر والظلم؟
الظلم ولا شك موجودٌ، ولا تكاد تخلو بقعةٌ من بقع الأرض منه، لكنْ لعلَّ الظلم في العراق ظلمٌ مركبٌ أيضًا كمعاني السياب.
كيميائية اللغة:
السياب يفهم كيميائية اللغة وله مختبره الخاص بمزج المفردات وإنتاج الكنايات والمعاني، كما لديه الإدراك والفهم اللَّذين يؤهلانه لاستخدام هذه المنتجات في بناء الشطر الشعري بحيث يكون مفهومًا ومميزًا ومؤثرًا ثم عصيًا علىٰ الاستنساخ والمحاكاة والمقاربة، ومن ذلك ابتكاره دلالة جديدة في وصف الليل في أول شطر يكتبه في قصيدة “المومس العمياء” في قوله:
الليل يُطبق مرةً أخرىٰ، فتشربه المدينه
والعابرون، إلىٰ القرارة… مثل أغنية حزينه
فهو حين قال “فتشربه المدينة” يعني “تتشرّبه” المدينة؛ أي يدخل الليل في فجوات الأرض وخلل الأشجار ومسامات الجدران، يتغلغل في كل شي ليصبح السواد في كل تفصيلة من تفاصيلها حتىٰ تمسي محضَ سوادٍ بسواد.
وإنما أعقبها بقوله “والعابرون إلىٰ القرارة… مثل أغنية حزينة” لبيان إطباق عتمة الليل علىٰ الأبصار؛ فلا تترك للرؤية سبيلًا لنور أو كوةً لضياء فكأنه استعاض بالسمع بقوله “مثل أغنية حزينة” ليكون التشبيه سمعيًا بعد أن عُطّل البصر.
ليس ذلك فحسب؛ بل إن الظلام والعمىٰ أطبق علىٰ المدينة في وضح النهار، وليس ليلًا فقط، والليل كان في ظلامه زيادة للعمىٰ الذي أصابها، ويأتي ذلك مجسدًا بقوله:
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة
والليل زاد لها عماها
كل ذلك هو تصوير لأقصىٰ درجات البؤس بتراكيب لغوية “سيّابية” غير قابلة للأخذ ؛ لتضاعِف من شدة الوصفِ والتصويرِ، وتضاعف أيضًا من شدةِ الوقع والتأثير علىٰ المتلقي وهذا ما لا نجده عند أي شاعر آخر، وإن وجد فليس بهذه الشدة والمرارة.
مع كل تلك السوداوية ومشاعر الحزن لليتامىٰ والثكالىٰ والمشردين إلا أن ذلك الجسد المتهالك بين الهم والسقم كان يحوي نَفْسًا فريدةَ الحسّ عالية التأثّر، وروحًا رقيقةً شفافةً مفعمةً بالمشاعر؛ مشاعر الحب للعراق، للناس، للنخل، لبُوَيب الحَزين.
لم يكن ليعيش طويلًا مع كل هذه الأحاسيس القاتلات، فكان أن عاش قليلًا، ومات سريعًا، ولكنه ترك إرثًا عظيمًا وتحويلةً مروريةً هائلةً في مسار الشعر العربي.
التفعيلة بين الصوت والمعنىٰ:
لقد أدرك السياب -بحس الشاعر- أنّ اللغة العربية هي لغة صوت بالإضافة إلىٰ أنها لغة معنىٰ، وأنّ وقْعَ الصوتِ له أهميةٌ لا تقلّ شأنًا عن المعنىٰ، عندها وجد في شعر التفعيلة سعةً في المساحةِ والأفقِ لتحقيق ذلك، فلم يمنعْهُ حينها مانعٌ أن ينتقل من قافيةٍ إلىٰ أخرىٰ طالما أن ذلك يخدم المعنىٰ ويضاعف من وقعه في القلب، مراعيًا جِرسَ المفردةِ وتأثيرها في البناء الشعري من جانب، ووقعها في أُذن المستمع من جانب آخر.
ليس ذلك فحسب، فالأمر الذي كان يعدّه الأُدباءُ والنقادُ ضعفًا في شعر العمود أصبح مصدَر جمالٍ في شعر التفعيلة وأقصد هنا “التدوير”، ليس بين الصدر والعجز وحده، بل بين البيت والبيت الذي يليه، إذ أصبح التدوير سمةً جمالية فارقة في شعر السياب، وبناؤه الانسيابي الذي راعىٰ أهمية الإيقاع وسلاسة البناء جعلَه سمةَ جمالٍ وإمتاع.
عبقرية:
الطفولة القاسية وغربة النفس المبكرة عند السياب لم تصنع منه شاعرًا فقط، بل صنعتْ منه عبقريًا يجعل من كيمياء الكلام دموعًا، ومن الإيقاعات الشعرية لحنًا جنائزيًا، ومن همهمات الريح وحفيف الأشجار بكاءً وعويلًا، كل ما يدور حوله يُترجم إلىٰ حزن؛ النهر والمطر والنخل، ولعل حرمانه من دفء الأمومة مبكرًا وراء ذلك التأثير الغريب والطاغي في نظرته وترجمته للأشياء من حوله وهي -أي أمّه- التي جعلته يقول:
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلّفان مع الرؤىٰ حتىٰ أنام
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي التي جعلته يقول أيضًا:
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعِّد من نشيج
فقوله “يهد أعمدة الضياء” أمرٌ مطلقٌ للعقل بأن يدور في فضاءات هائلة ويتفكّر في حجم الآهات والزفرات الكامنات في رئتيه المتعبتين.
لقد نال الذروة في المعنىٰ والمبنىٰ أيضًا في اختياره الفعلين (يهدّ، ويصعّد) هذا لأعمدة الضياء، وذاك للنشيج.
رسالة إلىٰ السياب في ذكراه السادسة والخمسين:
أعلم أنّك الإنسانُ الذي لا يحتاجُ الألمُ دليلًا ليهتديَ إليه، وأعلمُ أنّك الشاعرُ الذي لم تغبْ عنه رؤىٰ الجمال، وأعلم أن الألم كان تصاعديًا مع سنيك القصيرات، وكان الإبداعُ معه تصاعديًا أيضًا ، فلا عجب حينما كانت النهاية قريبة منك، فمن يهمّ بسيره يصل سريعًا.
أعلم أن الثماني والثلاثين سنة كانت كافيةً لتصلَ بها إلىٰ أعلىٰ مرحلة من مراحل السقم والغربة والحرمان، وأعلم أن الموت لم يكن إلا راحةً عظيمةً مما كنت تكابدُ وتجد، وكفيلةً أيضًا أن تصل بها إلىٰ عرش العبقرية الشعرية.
أعلم أيضًا بأنك كنت إنسانًا بشاعر وشاعرًا بإنسان ولم تكن لتكون بأحدهما دون الآخر، ولن نستطيعَ فهمك شاعرًا ما لم نغُص في أعماقك إنسانًا، ويكفيك فخرًا أنّ أقرانك من الشعراء -ممن عاصروك وعاشوا بعدك بنصف قرن وأكثر- لم يتركوا عُشْرَ الأثر الذي تركَه فكرُك وشاعريتُك حين متّ وأنت ابنٌ للفتوة والشباب، فذلك هو سرّ العبقرية حين يحملها الإنسان، وسرّ الإنسانية حين يحملها العبقري.
لكني أصْدُقُكَ القول بأنني لم أكن أدرك يومًا أنني سأحسدك علىٰ ما آل إليه حالُك، ولم يدُر في خلدي أن تتحوّلَ في مخيلتي إلىٰ إنسان محظوظ بعد كل ما رأيتَ من عذابات الحياة.
لا أكتمك، لقد كنتُ أبكي كلما قرأت مرثية سعدي يوسف لكَ وهو يردّد ويقول:
جيكورُ توقِدُ في المساء الرطبِ فانوسًا ولا تَلقىٰ ضياءَهْ
مات اليتيمُ وخلّفَ امرأةً وأيتامًا وراءَهْ
يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ
يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ: كوني رداءَهْ
ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً، والحلقَ قطرةْ
ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ، وبالأعشابِ صدرَهْ
هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ عامًا فعاما
متقيِّحَ الطعناتِ مشلولًا مُضاما
لكني أُدرك اليوم أن حياتك كانت فخرًا وموتك كان فخرًا أيضًا، فما زال الشعر بعدك في وَلَهٍ وحزنٍ واندهاش يعيش حالة الفقْد ويتقبّل فيك العزاء، فقد كنتَ فرقانًا بين الحزن والحزن النبيل، ونقطةَ اتصالٍ عظيمةٍ للشعر بالإنسانية.
لقد أثبتَّ أن الحياة بلا أمٍّ ظلٌ ناقص، وأنها بلا وطن شمسٌ قصيرة.
أعلم أنك فتحت مغاليق الخيالات لأجل الحزن الذي كان يعتريك، وأبواب المجاز لأجل الإحاطة بالألم الذي كنت تتقلب عليه، فانفتحت بذلك كل أبواب الإدهاش أمامك فأدهشتنا، ثم فتحتها للشعراء من بعدك فكنت فيهم المبتكر، وعشت ولما تزل فيهم الحادي والرائد.
لكن الحال بعدك كما هو -يا بدر- ما زال العراق يعيش الجوع، وينثر الغلال فيه موسمَ الحصاد لتشبع الغربان و الجراد، وما زال الناس بانتظار مِن بعد انتظار مِن بعد انتظار، وكأن الزمان تلاشىٰ فلمْ يبقَ إلا الانتظار، وما زالت “جيكورُ” توقِد فوانيسَ بلا ضياء.
ما زال “بُويبُ” متسربلًا ببقايا وشلٍ للدموع، وما زالت أشباحُ “منزل الأقنان” تعيش اليتم بعدك، ولمّا تزل شجرةُ السِدر بحاجة لمن يهذب ضفائرها اليابسة.
ما زال فينا الضياعُ والخداعُ والظلامُ والسقام، وما زال أحدنا يردّد في صحوه:
يا نوم بين جوانحي أملٌ… لم “ندرِ” قبلكَ أنه أملُ
ما زلنا واقفين خلف سور من حجار، لا باب فيه لكي “ندقَ” ولا نوافذ في الجدار.
ما زلنا نتحرق انتظارًا واصطبارًا وما زلنا نجهل ما لا نريد وما نريد.
ما زال فينا الجياع والعراة والعبيد، وما زال اليتامىٰ والأرامل والثكالىٰ، وما زلنا نقتلُ الناطورَ علىٰ البيدر لنستبدلَه بسارق ونخلق من بناتِه ألف مومس عمياء ثم نتركها بلا فانوس ونبيع الزيت لمن يدفع أكثر.
ما زالت المزاريبُ تنشجُ بعدك من دموع الأمهات يا بدر، وما زال البكاء هو العزاء الأقرب للنساء من كل صديق وأنيس.
لم تبقَ وراءك غابةٌ ولا سَحَر، ولا شرفتان ولا قمر، وقد تيبست أخشابُ الشناشيل وأمست محضَ ركامٍ واقف، وباتت ابنةُ الچلبيّ متسولةً علىٰ رصيف المارة، وبات “شباكُ وفيقة” مشرَعًا تتداول دفتيه الريح.
لقد غادرَنا بعدك -يا بدر- الحمدُ والعطاءُ ولم يبق غيرُ الألمِ والرزايا والبلاء.
لم يبق لي بعدَ ما تقدّم إلا أن أزفَّ إليك خبرًا سيسعدك كثيرًا، فحين قلتَ:
إن متُ يا وطني فقبرٌ في مقابرك الكئيبة
أقصىٰ مُناي
صرتَ به الأوفر حظًّا بين آلآف من المشردين فقد فزتَ من العراق بقبرٍ مجاني بين من تحب، وغيرك الآن يدفع آلاف الدولارات ليشتري قبرًا نائيًا في الغربة.
العدد الثاني
النقد وأثره في الأدب
عند باب الشيخ محمد
تعليق واحد