المعرفة من المستوى الأول
المعرفة من المستوى الأول
مختار الأخضر الطيباوي
كثيرٌ مِن الشباب يَتعلَّم في سِياقِ النِّقاش والمُناظَرة، بَعضُهم يَستمرُّ على ذلك، وبَعضُهم يَفطن إلى نقائص هذا الأسلوب.
وليسَ هذا عيبًا، لكنَّهُ ليسَ بالمنهج السليم، فعلى الشباب الرجوع إلى الدراسة المنهجية، وإلا لم تكتمل تصوراته، وبقيت لديه ثغرات.
الأسوأ هو الَّذي يَتعلَّم مسألةً أثناءَ تأليفهِ كتابًا -لأنَّ حمَّى التأليف منتشرة اليوم!- فهذا قد يُبهرك في تلك الجزئية، لكنَّه يَسقط في النظرية الكلية، والغالب على هؤلاء أنهم لا يحسنون الكلام -إنْ أحسَنوا- إلا فيما كتَبوا!
يَتعلَّم الناسُ بحسب المتوفِّر لديهم، وقد تَسحب حماسةُ الشبابِ الإنسانَ إلى مجاراة المَوجود، ومع ذلك علَيه أن يَصدُق مع نفسه، فإنها تخبره بما يَنقصُه، فيستدرك النقص، ويطلب الكمال، لأن ذلك ميزة النفوس العالية الَّتي لا توقفها شهوة الشهرة، ومتعة الجماعة، عن السير إلى الأمام.
ليس للمسلمين الآن واجبٌ حضاريٌّ أهمَّ من تكوين علماء أو مفكِّرين من المستوى الأول.
المفكرون -والمقصود هنا العُلماء النُّظَّار وليس المثقفين- عدَّة مستويات، لا يتميَّزون بالشهادات وحدها، ولكن بالإنتاج العلمي المتميز، أو بالتأثير في المجتمع العلمي، وأهمُّ من ذلك يتميَّزون بقوة التحليل وشموليته التوليفية، وبتأصيل المعارف وتنظيمها.
فمثلًا مستوى “ماركس” في الاقتصاد، و”كنط” في هندسة المعارف، و”روسل” في فلسفة المنطق، و”روسو” في السياسة، و”فيرير” في الإبستمولوجيا، ومالك بن نبي في اجتماعيات الحضارة… وغيرهم كثير.
وأظنُّ آخرهم في فرنسا: “ألتسيير” و”كلوسكار” و”روني جيرار” و”غارودي“؛ ولم يبق إلا المفكر من المستوى الثاني أو الثالث.
هذا النوع من المفكرين يتميز بالنظرية الشاملة الَّتي تهتم بأبعاد الإنسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلا فيُمكن أن تجدَ مثلًا شرحَ “دولوز” لفلسفة “سبنوزا” أقوى ما يمكنك الظفر به، ومع ذلك لا يجعلُ منه هذا مفكرًا من هذه الدرجة، و إن كان في بابه كذلك.
فالمعتمَد هنا تكوينُ علماء لهم ثقافة شاملة، وقوة تحليل علمي صارمة، لأن وسائل الفهم في هذا العصر تحتاج -على الأقل- إلى خمس أو ست اختصاصات، فضلًا عن العلوم الدينية.
فللتحكُّم في الواقع يجب أن تمنحَ نفسك حقَّ فهمه الممنوع عنك، وذلك بالتمكُّن من: الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة.
نحتاج إلى هؤلاء ليَخرجَ العلمُ مِن طَور الدعوةِ العامَّة.. من نقاش الشوارع ومناكفات مواقع التواصل، إلى التأصيل الأكاديميّ الجادّ، لأنه من غير هذه الفئة ستكونُ الأفعالُ دونَ وعيٍ، والأحلامُ مفصولةً عن الواقع.
وقوام النهضة: الفعل والحلم.
تقريبًا كلُّ عباقرة الإسلام وحتى الغرب كانوا أقوى من شيوخهم إلا في حالاتٍ قليلة، ما يعني أنَّ المعلِّم وإن لم يكن من هذه الفئة المطلوبة، يمكنه أن يكوّنها، وذلك باختصار الطريق على الطالب، وإفادته إياهم بخلاصات تجربته، وتمرين ذهنه على التصور المطابق، فليس مضطرًّا إلى نسخ نفسه في تلامذته.
مع الوقت والممارسة يُدرك المعلِّم النقصَ في تكوينه العلميّ أو الخلل في منهج المؤسسات العلمية، أو يكتشف سبب ضعف النوعية في الفكر، فيحاول سدَّ ذلك عند الطالب، وبهذا يُسهم في تكوين طلَبةٍ أعلى مرتبةً وأدقَّ فكرًا منه.
العلمُ الآن ليسَ بضاعةً جاهزةً تحفظها، أو يَضعُها الأستاذُ في عقلك، وإنما هو شيئان:
- مَعلومات وفيرة ذات قيمة معرفية عالية وموثَّقة.
- وقُدرة على توظيفها في بناء تصور المسألة.
والمشكلة الحقيقية الَّتي تواجه الطالب: هي حجمُ الجسم المعرفي الذي يَكبُر في كلِّ يومٍ دونَ قدرةٍ على فَهم كلِّ الاختصاصات الَّتي تعني اهتمامه ونوعية فكره، فيصعب عليه استدراك ذلك.
دَور الأستاذ أو الشيخ هو أن يقودك في اكتساب أدوات التفكير، وفهم طرق الاستدلال، ويدلك على العناوين المفيدة في مرحلتك، ومن هذا تكوِّن لنفسك قوةَ التصور وحسًّا نقديًّا يَسمح لك بتحديثِ مَعارفك ومجاراة الجسم المعرفي.
يمكن أن نلخِّص كلَّ ذلك بالتالي: سبر، واستقراء الموضوع، ونظر فاحص بقوة عقلية للاستدلال.
بطبيعة الحال نحتاج إلى تطوير طريقة التعليم المعاصرة على أساس: التنظيم، والاستيعاب للموضوع، والنقاش بالتصور وليس بالمعلومة.
بقاء بعض طلبة العلم في موضوع الحديث الديني وحدَه سببُه ضعفُ الثقافة، وبعضُهم يسعفُه ذكاؤه الفطريّ ونظرُه الاستدلاليّ في فهم الموضوعات غير الدينية لكنها شخصيات قليلة.
بطبيعة الحال ليس مطلوبًا من الجميع أن يكون مفكرًا من المستوى الأول، لكن كذلك لا يجب العفس على أقدامهم مِن كل مَن هبَّ ودبَّ.
يَعتقد كثيرٌ منّا أنَ نُخَبنا مهمَّشة، وأنا أعتقدُ أنَّ هذهِ النوعية غيرُ مَوجودة، وأصلًا يَجب على النُّخبة أنْ تكونَ في الهامش لِتَحفظَ حرِّيَّتها.
2 تعليقات