الفئة المتمدنة
عندما ضَعُفَ فِكرُ المتديّنين، و استضاقت عقولهم، و أصبح الدين عندهم دينًا سطحيًا، للتعبّد الضيق، ذلك التعبّد الذي يتكوّر بين جدران المساجد فقط؛ وكأنّ فكرة التعبُّد هامشية وٱنحسرت عندهم إقامة الصلاة في الإقامة التي يؤدّيها المؤذن بصوته، ليُعْلِن بدءَ الصلاة، مُكتفين بذلك المفهوم الجُزئي للإقامة، غير أن مفهوم الإقامة أطول من عمر الصلاة المؤداة؛ إذْ توجِب الصلاة امتداد إقامتها في النفوس لما بعد الصلاة الجسدية؛ لتمتدَّ الإقامة بعد ذلك إلى النفوس، فينعكس ذلك في التعاملات اليومية لدى المتدين، فتصبح الصلاة مُقامة في كل مقام.
وبدا مُعظمهم كالسُذَّج، لا خبرةَ لهم في الحياة، و بدتْ في تصرفاتهم سذاجة الغائبين عن الواقع، و جهالة تراكمية، وسوءُ استنباط وتأخُرُ بديهة، وعنادهم وتمسكهم بالقراءة الآمنة -على افتراض أنهم يقرؤون- وأغلبهم لا يقرؤون إلّا قليلًا. وتسرعهم في خوض النقاشات والدخول في الحوارات الجدلية، واقتناعهم بأنهم تشيَّخوا بِفُتات العلم الشرعي الذي تدارسوه. بالإضافة إلى ظهور الإرهاب المتأسلِم، الذي يستندُ إلى نصوص إسلامية مُقتصة، ملويَّة العُنُق…
فكانت النتيجةُ:
أنْ ظهر مَن يَنتمي إلى تلك الفِئةِ المُتَمَدِّنةِ؛ قارئٌ، صَدمته الحياة كثيرًا حتى سلبته آخر قطرة حياء، فراح يكتب بحريةٍ مطلقة على المنصّات المتاحة إلكترونيًّا، ويتلفظ بألفاظ بذيئة، ويُحلِّلُ البشر والحجر، ويُظهر معرفةً مُطلقة بالأسئلة الغائية الوجودية، ويتذاكى كثيرًا بما لديه من المخزون المعرفي المُتشظّي غير المنتظم؛ حتى ظَنَّ أنهُ قد فَهِمَ الوجود، فصار يطعنُ بالمتدينين ويَصِفُ إسلامهم بالإسلام الطفولي، ويسخر من أساليبهم التكفيرية المباشرة وغير المباشرة، وسذاجة تفكيرهم، وضيق عقولهم.
وأعلَنَ بكل حريةٍ أنه ضد التدين، واستخدم الهزل في منشوراتهِ؛ الهزل الماجن، والمزاح غير المشروط، ولكن بعقلية قارئٍ يعلم الكثير، وفَطِنٍ يَفقه الواقع. فالتفّ حوله الكثيرُ من الشباب الذينَ صُدِموا بمطرقةِ الإرهاب النسوب إلى الإسلام، وبفساد الأحزاب الإسلامية؛ لخفة دمه المعجونة بالثقافة، وأسلوبه السلس والجريء في إثارة الجدَل، وادعاء الجرأة، فترى في صفحاتهِ الكثير من المعجبين، والمعلقين.
والغريب أنه يدافع كثيرًا عن حُريّة التدين التي ينتهكها هو من حيث لا يدري، أو ربما يدري…
من خلال تجربتي المتواضعة، وقراءتي البسيطة أعتقدُ بأنّنا نَحتاج إلى فكرٍ مُتفتّح، نفهم فيه التديُّن، التدين البنَّاء، الذي يُحرِّك الشغف والروح والدافع للعمل بضمير وإخلاص؛ فإنَّ الإسلام الذي عرفتهُ يبني فكر الإنسان وفضيلتهُ أولًا، ثم بعد ذلك يأمرهُ وينهاه.
الإرهاب المتأسلم والأحزاب الإسلامية الفاسدة، والشيوخ المنافقون، والدَّجالون المتكسِّبون من جهلِ الناس؛ انتهكوا الإسلام، واستغلوا سذاجة التوابع؛ التوابع الذين صنعتهم الجهالة.. فأظهروا للعامة: (أنَّ الإسلام مفسدة) وحاولوا بعلمٍ أو بجهلٍ أن يوصلوا إلى العامة أنَّ الإسلام شُمِلَ بالأديان التي تنضوي تحت فكرة “الدين أفيون الشعوب”…
القراءة والمطالعة العميقة والمخالطة الاجتماعية المستمرّة والرغبة المشتعلة: تصنع الفكر.. القراءة هي الضوء الذي يسقط على الأشياء لتظهر للعين حقيقة الأشياء، ومن المهم أن تكون القراءة منهجية ومنتظمة.
أحدثكم بهذا، لأني قد مررتُ بالتجربتين تباعًا، تجربة المتدين الساذج الذي تسرَّعَ في الاعتقاد، وتسرَّع في انتهاج السلوك وكبْتِ الأسئلة بحجة الخوف من الانحراف الفكري؛ ثم المتدينِ المصدومِ، الذي صدمته الحياة، وأطرقه طارقُ الدهشة والحيرة فأوشك أن يتيه؛ ثم المتمدن الذي أرهقته الحياة فالتجأ إلى التشكيك والانفلات؛ ثم ها أنا ذا، أبحث بصبرٍ وعقلانيةٍ، ولا أدَّعي الطُهر ولا أنكره، فالنَّفْسُ تتقلَّب، كما لا أدَّعي المعرفة، فإني لازلت طالبها. ولعلَّ أبرز ما جعلني أُمسك زمام أمري، هو البحث عن كل سؤال؛ فطرحُ الأسئلة وحدَه لا يكفي.
في النهاية:
مَن يُريد أن يدافع عن دينه؛ أيًّا كان دينه، فليَتَفقَّه جيدًا.
تعليق واحد