العدد السادسمقالات

رحلة أربعة أعوام مع العلامة محيي هلال السرحان

رحلة أربعة أعوام
مع العلامة محيي هلال السرحان

محيي هلال السرحان

حسين مُحمّد عجيل*

ثَمَّةَ في تاريخ الأُمم الحيّة، شخصيّاتٌ ثقافيّةٌ تُوظِّفُ سِنَيَّ مطالع حياتها لأجل غاياتٍ ساميةٍ، وحين تُثمر جُهُودُها، كما تقتضي نواميسُ الدُّنيا، بعد زمانٍ يطول أو يقصر، وتتكلَّل بتحقُّقِ كثيرٍ من مراميها القريبة والبعيدة، وتحوز على شيءٍ من الشُّهرة في اختصاصها، هنا تفترق مصائرُ هؤلاء، ويتكشَّف لهم ولغيرهم مدى إخلاصهم لِما يبغون من أغراض، ومدى حرصهم على بُلُوغها بحسب عُلُوِّ الهمّة وجسامة المطلب، فمنهم مَن يُواصل رحلته اللّانهائيّة في البحث والكشف، في مُحاولةٍ لبُلُوغِ تُخُوم حافّات الكمال الّذي لا يُدرك، ومنهم من يُغريه زائلُ الأضواءِ، فتُعشي عينيه عن غرضه، ويكون ذلك مُنتهى آماله، وهذا وذاك كلاهُما مَنْهُومان لا يشبعان، كما جاء في الأثر.

والعَلَّامةُ الجليلُ، الأُستاذُ المُتَمَرِّسُ الدّكتور مُحيي هلال السّرحان (1932- 2024م)، الّذي فقدناه وفقدته البلادُ مساء الاثنين التّاسع والعشرين من تمّوز الماضي، أُنموذجٌ فريدٌ من نماذج الفريق الأوّل، فبعد أن تحقّقت له الشُّهرةُ النّسبيّةُ منذ عُقُودٍ، وذاع صيتُه في تخصُّصه بين الأوساط الأكاديميّة عَلَمًا من أعلام العراق والأُمّة في مجال البحث والتّأليف، وابتداعِ منهجٍ في تحقيق النُّصُوص التُّراثيّة الخطّيّة، مضى يُواصِل رحلتَه المعرفيّةَ غيرَ عابئٍ بِبُهْرَجِ الأضواء والمناصب والصّراع عليهما، مُنقطعًا تمامًا إلى بُحُوثه ودراساته وتآليفه وتحقيقاته وتلامذته ومُريديه، وتطوير منهجه في تحقيق النُّصُوص، حتّى ساعاته الأخيرة في عالمنا، فكان مثالًا للعالِم الزّاهِد المُتبتّل في محراب المعرفة.

لقد فقدَ العراقُ، والعالمُ العربيُّ والإسلاميُّ، برحيله عَلَمًا كبيرًا من أعلامه، واصلَ عطاءه المعرفيَّ طوال سبعين عامًا، كما واصل مسيرته الأكاديميّة الفذّة، فتخرّج على يديه في العُقُود الماضية عشراتُ الآلاف من أبناء البلاد في مراحل التّعليم كلّها، ولأجل ذلك كنتُ قد اقترحت على إدارة دار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة بوزارة الثّقافة، في جُملة ما اقترحتُ، أن تُخصِّص له عددًا أو ملفًّا في مجلّةُ (المورد) التُّراثيّة الفصليّة، يُحبَّذ أن يصدر في نهاية هذا العام، فلقد كان من كُتّابها الرُّواد، وله في تحقيق التُّراث ونشره جُهُودٌ مشهودةٌ، فلقيَ مُقترحي استجابةً طيّبةً من مُدير الدّار الدّكتور عارف السّاعدي، ومن الدّكتور حسن عبد راضي رئيس تحرير تلك المجلّة العريقة.

وإذ شاءت إدارةُ تحرير مجلّة (روى) الغَرَّاء، أن تُحيي هي أيضًا ذكرى العلّامة السّرحان بإصدار هذا الملفّ التّأبينيِّ عنه، وتفضّلت بالطّلب منّي أن أُسهِم فيه، فسأتناول بعضًا من ذكرياتي معه في الأعوام الأربعة الأخيرة من عُمره المُبارك الّتي عرفتُه فيها عن كثب، شاكرًا للإخوة الأكارم دعوتهم هذه، ومثنيًا على مُبادرتهم النّبيلة، وتوجّههم لإحياء مآثر عُلماء البلاد الأفذاذ.

حين أَرْبى العِيانُ على الصُّورة والصِّفة

تسنّى لي، مُنذ سنواتٍ بعيدةٍ، أن اطّلع على بعض آثار الفقيد، ممّا كان ينشره من مقالات وبُحُوث وكُتُب مُؤلَّفة أو مُحقَّقة. وكنتُ أُكْبِر فيه، وأنا أقرأُ آثاره، توخّيه الدّقّةَ والاتقانَ والأمانةَ العلميّةَ، وسعيَه الدّائبَ للإحاطة والاستقصاء بما لا مزيدَ عليه. وأكبرتُ فيه كذلك خِصلةَ التّواضعِ الّتي تسطعُ من بين سُطُور بُحُوثه، وتشيعُ في مُقدّمات كُتُبه ومُتُونها وحواشي المُتُون. وأخذتْ تتشكّل مع الأيّام صُورةٌ له في ذهني هي أشبه شيءٍ بما استقرّ فيه من صُورٍ لأعلام نهضة بلادنا في مطالع القرن الماضي وتلامذتهم، من أمثال: الشّيخ محمود شُكري الآلوسيّ، والأب أنستاس الكرمليّ، والشّيخ الأثريّ، والدّكتور مُصطفى جواد، وعبّاس العزّاوي، والدّكتور عبد الرّزّاق مُحيي الدّين، والدّكتور جواد علي، تلك المُستمدّة من سير أعلام حضارتنا العربيّة الإسلاميّة الكبار في ذُروة مجدها ببغداد العبّاسيّين.

ثُمّ سمعتُ من جميل الأماديحِ فيه على لسانِ بعضٍ مِمَّن عرفوه عن كثبٍ، فَرَسَّخَ جمالُ صفتِه جلالَ صُورتِه في ذهني. ثُمّ قُدِّر لي بأَخَرَةٍ أن أقفَ وقوفَ العِيانِ على خِصالِ العالِم العامِل فيه، بعد أن اتّصلتْ بيننا الأسبابُ في أعوامه الأربعة الأخيرة، فأربى العِيانُ على ما وَقَرَ في ذهني من صُورته وصِفته، فاستذكرتُ عندها جمالَ عبارةِ الخليفةِ المأمونِ في وصفِ كُتُب الجاحظِ، الّتي نقلها أبو عُثمانَ في “البيان والتّبيين”[[1]]، وانطباقها على هذه الحال أيضًا.

في رحاب (المورد)

كان تكليفي إدارة تحرير مجلّة (المورد) التُّراثيّة الفصليّة المُحكّمة، نهاية سنة 2020م، مُناسبةَ التّعارف بيننا، وبدايةَ صلاتٍ طيّبة جمعتنا. وقد وضعتُ وقتها خُطّةً طَموحًا لتطوير المجلّة والنُّهُوض بها، ومن بين فِقْراتها الأساسيّةِ الانفتاحُ على نُخبة المُشتغلين في دراسة تُراثنا العربيّ وتحقيقه، ولا سيما الرُّوّاد منهم، في وقتٍ تُوشِكُ المجلّةُ الرّائدةُ في بابها أن تَطوي نصفَ قرنٍ من عُمرها في خدمة تُراث الأُمّة. وكُنتُ قد رصدتُ أسماءَ كُتّابِها الرُّوّادِ من الّذين أسهموا في كتابة بُحُوث عددها الأوّل الصّادر سنة 1971م، مُكتشِفًا بسُرُورٍ بالغٍ أنّ فيهم خمسةً من الأعلامِ الأحياءِ، وهم بين مُقيمٍ في البلاد أو تلقّفته المنافي، وكان العلّامةُ السّرحانُ واسطةَ عِقْدِهم، ومن بين اثنين لا يزالان في البلاد. فاتّصلتُ به راغبًا في أن يُسهمَ في مشروع استعادة المجلّة مكانتَها الّتي كانت عليها في العقد السّبعينيّ من القرن الماضي، ويرفدَها بِبُحُوثه وثِمار قلمه، فكان ترحيبُه بالدّعوة كبيرًا كما توقّعتُ، وسعادتُه غامرةً بهذه التّوجُّهات على نحوٍ أكبر مِمّا توقّعتُ، وأبدى استعداده للمُؤازرة والتّعاون ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، على الرّغم من كثرة انشغالاته والتزاماته الكتابيّة والأكاديميّة الّتي علمتُ، فيما بعدُ، أنّها لا تترك له ساعةً من فراغٍ في نهاره وليله، وهو الشّيخُ المُوشِكُ على بُلُوغ عامه التّسعين.

كان من ثمار ذلك التّواصل مُشاركتُه المُؤثّرةُ في حفلٍ كبيرٍ أقامته دارُ الشُّؤون الثّقافيّة العامّة في الأيّام الأخيرة من سنة 2021م، بُمناسبة ذكرى اليوبيل الذّهبيِّ لتأسيس (المورد) وصُدُور أوّل عددٍ منها، فبعد أن دعوتُه هاتفيًّا لتشريف الحفل بالحُضُور وإلقاءِ شهادةٍ عن مجلّته الأثيرة، بادر الشّيخُ الجليلُ مُستجيبًا، وزار مكتب المجلّة بنفسه صباح الاثنين 15 تشرين الثّاني 2021م، وسلَّمَ شهادتَه المكتوبةَ، مع كتابين جليلين تفضَّل بإهدائهما إليّ، ولم أكن يومئذٍ في المكتب، ففاتتني فُرصةُ اللّقاء به يومذاك. كان أوّلهما كتابه المرجعيّ “أُصُول البحث وتحقيق النُّصُوص في العُلُوم الإسلاميّة”، في طبعته الثّانية المُنَقَّحة والمُزَيَّدة[[2]]، وهو مرجِعٌ نفيسٌ وشاملٌ لكُلّ المُشتغلين في علم تحقيق النُّصُوص بحُقُوله كافّةً، وإن كان مُوجَّهًا في الأساس للمُختصّين منهم بالعُلُوم الشّرعيّة.

وأمّا الثّاني فهو تحقيقُه لكتاب ابن الحنائيّ قنالي زادة (المُتَوفَّى سنة 979هـ) الموسوم بـ “طبقات الحَنَفيّة”[[3]] مُحقَّقًا لأوّل مرّةٍ على خمسِ نُسخٍ خطّيّةٍ، بعد أن كان أثبتَ في بحثٍ له منشور قبل أربعةِ عُقُودٍ في مجلّة (المورد)[[4]] خطأَ نسبتِه إلى طاشكُبْري زادة في نشرة الحاجّ أحمد نيله للكتاب بطبعته الصّادرة في الموصل سنة 1954م. وقد سرّتني مُبادرتُه ولُطفه في إهداء الكتابين، وكنتُ وقفتُ على الطّبعة الأُولى من كتابه الأوّل، وقرأتُ بحثَه القديمَ في (المورد) عن الكتاب الثّاني. كما سرّني عُلُوُّ همّته في التّتبُّع والإضافة والاستدراك على عمله وعمل غيره وهو في نهايات العقد التّاسع من عُمره.

وفي صبيحة الاثنين 27 كانون الأوّل 2021م، أُقيم حفلُ (المورد) اليوبيليّ في قاعة مُصطفى جمال الدّين بمقرّ دار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة في حي تُونس، برعاية وزير الثّقافة آنذاك الأخ الدّكتور حسن ناظم ومُشاركته، وبحُضورٍ نوعيٍّ كثيفٍ للمُهتمّين بالمجلّة ورسالتها، وكنتُ قد نشرتُ في صبيحة ذلك اليوم نفسِه مقالةً مُوسَّعةً في جريدة (الصّباح) البغداديّة عُنوانها: “اليوم ذكرى اليوبيل الذّهبيِّ لصُدورها، (الموردُ).. جُهُودُ نصفِ قرنٍ في دراسة التُّراث العربيّ”[[5]]، قُلتُ بعد مُستهلِّها، مُشيرًا إلى تكريم العلّامة السّرحان في هذه الاحتفاليّة، إنّ دار الشّؤون الثّقافيّة “هيّأت لها برنامجًا حافلًا يتضمّن تكريمًا لنُخبةٍ من أبرز المُشتغلين في حُقُول التُّراث، مِمَّن كانت لهم إسهامةٌ واضحةٌ في هذه المجلّة عبر عُقُود عُمرها المديدة، ومن بينهم اثنان من كبار الباحثين العراقيّين كانت لهما مُشاركةٌ بحثيّةٌ في العدد الأوّل من المجلّة قبل نصف قرن، هما الدّكتور طه مُحسن والدّكتور مُحيي هلال السّرحان”.

جاء العلّامةُ السّرحانُ إلى قاعة الحفل مُتعكِّزًا على عصاه، بأناقة الشُّيوخ ووقارهم. وحين علمتُ بحضوره، ذهبتُ للسّلام عليه، والتّرحيب بمقدمه، وشُكره على هديّتيه الثّمينتين. وجلستُ إليه نتداولُ في شُؤون المجلّة وخُطّة تطويرها. وجاء أحدُ الإخوة الباحثين للسّلام عليه، فوقف مُعَرِّفًا بنفسه إليه، بتواضع العُلُماء، وكأنّه شابٌّ مغمور: “مُحيي هلال السّرحان”. ثُم شهدتُ بعد ذلك كثيرًا من المواقف المُماثلة[[6]]، وتبيّن لي أنّ هذا ديدنَه في كُلّ مكانٍ، فقد كان التّواضعُ الجَمُّ جُزءًا جوهريًّا في شخصيّته.

وكنتُ اقترحتُ مُسبقًا مُفردات برنامج الحفل، وفيها فِقْرةٌ خاصّةٌ بتكريم الباحثَيْن الرّائدَيْن الدّكتور السّرحان والدّكتور طه مُحسن، بوصفهما الوحيدَيْن في العراق، يومئذٍ، اللّذين أسهما بالكتابة في عدد المجلّة الأول قبل خمسين عامًا. وتتضمّن الفِقْرةُ إلقاءهما شهادتين، ثُمّ تكريم الوزير لهما مع عشرة من الباحثين الرُّوّاد ومَن تلاهم، الّذين أغنوا المجلّةَ بِبُحُوثهم وكتاباتهم. وجاءت شهادةُ الدّكتور السّرحان المُقتضبةُ بعنوان “عبق الفِكْر والتُّراث في مسيرة مجلّة (المورد) الغرّاء”[[7]]، ومِمّا قاله في (المورد)، كاشِفًا عن المدى الّذي بَلَغَتْهُ شُهرةُ المجلّة عربيًّا وإسلاميًّا، وعن مدى اتّساع صلاتِه الشّخصيّة بأعلام الثّقافة في بلاد العُروبة شرقًا وغربًا: “فكم حمَلتْ يداي الكليلتان الأعدادَ منها إلى أساتذتي وزُملائي من الأُدباء والشُّعراء المُتشوِّقين إلى رُؤيتها والاطّلاع على ما فيها من كُنُوز المعرفة ونُصُوص التُّراث في العراقِ والشّامِ ولُبنان، والحِجازِ ومصرَ والسُّودان، وتُوْنُسَ والمغربِ وغيرِها من البُلدان، فهي سفيرة العلم والمعرفة، أقول هذا عن يقينٍ وإيمان”. وتمنّى على إدارتها أن “تُحافِظ على جوهرها وشكلها ومادّتها في قادم أعدادها على مرّ السّنين والأزمان، مُتوسّمين في إدارتها الحكيمة وكُتّابها النّابهين بذلَ أقصى الجُهد في الحفاظ على مكانتها السّامية الّتي حازت عليها في ما مضى من الأزمان”. ثُمّ ختمَ كلمتَه القصيرةَ الّتي التزمَ فيها السَّجَعَ، بخمسةِ أبياتٍ نَظَمَها في المجلّة والقائمين عليها[[8]]، فقال:

لِلمَوْرِدِ الغَرَّاءِ فَضْــــلٌ وافِـــــــرُ      فِـكْـرٌ وآدابٌ وعِـلْـمٌ زاخِــــرُ

تَطْوي بِعِزٍّ عِيْدَها فـي بَهْجةٍ      والفِكْرُ فيــها مُشْرِقٌ أو باهِرُ

قامتْ على إحْيائها مَجْمُوعةٌ      يَهْديهمُ اللهُ العَزيــــــــــزُ القادِرُ

حَتَّى نَراها مِنْبَرًا لِلحَقِّ فــي      أَعمالِها والصِّدْقُ فيــها ظاهِرُ

دُمْتم ودامَ العِلْمُ فيكم سَرْمَدًا      إِنِّي على المَجْهودِ مِنكم شاكِرُ

ثُمّ تلتِ الكلماتِ جلسةٌ بحثيّةٌ أدارتها الدّكتورة نادية غازي العزّاوي أُستاذة الأدب العبّاسيّ في كُلّيّة التّربية بالجامعة المُستنصريّة، وشاركني في تقديم أوراقها البحثيّة: الأُستاذةُ المُتمرّسة نبيلة عبد المُنعم داود، والدّكتور عبّاس هاني الجرّاخ، والأُستاذ حسن عريبي الخالديّ، وقلتُ في ورقتي البحثيّة الموسومة بـ “(المورد) بعد يوبيلها الذّهبيّ، رهانُ التّجاوز ومسؤوليّةُ التّنوير”[[9]]: “لستُ هنا في مقامِ تقريظِ (المورد) والثّناءِ عليها بما تستحقُّه مسيرةُ نصفِ قرنٍ حافلةٌ بالمنجزّ النّوعيّ، فقد سمعنا جميعًا ما يُسِرُّ ويُبهِجُ من الأساتذةِ الأفاضلِ والأعلامِ المُؤازرين، الذين سَعَدْنا بحُضورِهم هنا لإحياء ذكرى يوبيلِ (المورد) الذّهبيّ، ولا سيما ممّن شهدوا انطلاقة عددِها الأوّل وأسهموا فيه، ومَن واكبوا عطاءَها في أعوامِ توهُّجِها وبعضِ سِنِيِّ خُفوتِها القاهرةِ. ولأنّني من أعضاءِ هيأةِ تحريرِها وشغلتُ منصبَ مديرَ التّحرير فيها طوالَ عامٍ ونيّفٍ، فإنّ الأَوْلى والأليقَ بي أن أعمدَ إلى النّظرِ في شُجونِ حاضرها وشُؤونِ مستقبلِها، وما ينبغي في نظري أن يفعلَ القائمونَ عليها- إدارةً وتحريرًا- لتكون بمستوى ما يُعقد عليها من رِهانِ التّجاوزِ، وما يُنتظر منها في الكشفِ عن منابعِ التَنوير في تُراثِنا، مُبديًا في الأثناءِ ما أراه من اقتراحاتٍ للنُّهوض بهذه المجلّة، ومُشيرًا إلى ما قد يُراودني من مُتمنّياتٍ وأحلامٍ”، وأدرجتُ في هذا الإطار جُملةَ مُقترحاتٍ وأفكارٍ، أثنى عليها الوزيرُ بعد الحفل كثيرًا، ووعدَ بعقدِ لقاءٍ تداوليٍّ بشأنها في مكتبه بالوزارة خلال أُسبوع، بحُضُور مُدير الدّار وحُضُوري، لكنّ الأمر- كما هي الحالُ في بلادنا فيما يخصّ شؤون الثّقافة وغيرها- انتهى إلى النّسيان أو التّناسي السّريع، فلم يُعقد اجتماعٌ، ولا تداول أحدٌ هذه المُقترحات الضّروريّة لتمكين المجلّة العريقة الّتي تُرك مصيرُها لضمائر القائمين عليها، من دون توفير المُمكنات الحقيقيّة لنجاحهم.

وفي نهاية الحفل تسلَّمَ العلّامةُ السّرحانُ من يد الوزير تكريمًا وشهادةً تقديريّةً مُدوّن عليها هذه العبارات، الّتي كنتُ اقترحتُ صياغتها فاعتُمدتْ: “احتفاءً بجُهُود كبار الباحثين والمُحقِّقين والمُشتغِلين في حُقول التُّراث العربيّ، نسندُ إلى الأُستاذ الدّكتور مُحيي هلال السّرحان هذه الشّهادةَ التّقديريّةَ، بمُناسبة ذكرى اليوبيل الذّهبيِّ لصُدُور مجلّة (المورد) التُّراثيّة الفصليّة المُحَكَّمة، ونُبارك جهودَه الجليلةَ في مُؤازرتها وتمكينها، وفي رفعة تُراثنا العربيّ”.

وبعد نحو عامٍ على هذا الحدث، أي في نهاية سنة 2022م، كانت قد اقتربت ذكرى مُرور أحد عشر قرنًا على وفاة الإمام الطَّبريّ، المُؤرِّخ والمُفسِّر الأشهر في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ كُلِّه، وكنتُ قد أعددتُ العُدّة مُبكّرًا لإصدار عددٍ خاصٍّ بهذه المُناسبة مطلع سنة 2023م يُخلِّد هذه الشّخصيّة، وفاتحتُ العلّامة السّرحان بالأمر راغبًا في مُشاركته بهذا العدد، فكان سُروره بالفكرة عظيمًا، ثُمّ قدّم لي بحثَه القيِّمَ “الإمام الطَّبريُّ والمآخذُ عليه في تفسيره”، فنشرتُه في ذلك العدد الاستثنائيّ- في أهمّيّته، واتّساعِ المُشاركة العربيّة فيه، وضبطِه اللُّغويِّ غيرِ المسبوق، وكذلك في ضخامةِ حجمِه[[10]]– الّذي ختمتُ به رحلة ثلاثين شهرًا في تحرير هذه المجلّة ذات التّاريخ الحافل[[11]].

وفي شهر شباط من ذلك العام نفسه (2022م)، أذكرُ موقفًا دالًّا على شدّة تحرُّجه من أيّ أمرٍ قد يظهر فيه أنّه يُسلّط الأضواءَ على شخصه، ففي لقائنا المُنفرد في مكتب مجلّة (المورد)، عقب الحفل التّأبينيّ المُقام لإحياء ذكرى الأُستاذ الدّكتور عناد إسماعيل الكُبيسيّ رئيس تحرير المجلّة الأسبق، لاحظتُ أنّه جلب معه كيسًا فيه كُتُب، فقال لي: هذا كتابٌ أصدرتْه مشكورةً مُؤخَّرًا باحثةٌ أكاديميّةٌ كنتُ مُشرِفًا على رسالتها للدّكتوراه في التّاريخ الإسلاميّ، فأترك بضعَ نُسخٍ منه في هذا الكيس لديك، واحدة منها مُهداة إليك، ولكَ أن تُهدي الأُخَرَ منها لِمَن تعتقد أنّ الكتاب قد ينفعه في شيءٍ. فشكرتُه على هديّته وثقته، وأخذتُ نُسخةً منه، ثُمّ سلّمتُ نُسخَه الأُخَر إلى عددٍ من الإخوة الباحثين والمُهتمّين.

وهذا الكتاب، الّذي وضعته الدّكتورة انتصار أحمد حسن، جاء بعُنوان: “الجامع للنّتاج العلميّ والفكريّ، مع مواقف وذكريات للعلّامة الدّكتور مُحيي هلال السّرحان”[[12]]. وعُنوان الكتاب لا ينطبق تمام الانطباق على مُحتواه، فهو وإن كان جُهدًا طيّبًا ومُفيدًا نُشِر في حياته، وجاء تكريمًا لجهاده المعرفيّ الطّويل، لكنّه ليس جامعًا لنتاجه العلميِّ والفكريّ، كما يُتوقَّع من العنوان، وإنّما ضمّ ما وقعت عليه يدُ المُؤلّفة من أعمال أُستاذها الجليل، وما أتاحه هو لها من طبعات مُصنّفاته خلال زيارةٍ لمكتبته الشّخصيّة. وتبقى الحاجةُ ماسّةً، اليومَ، لإصدار كَشّافٍ تحليليٍّ مُتكاملٍ يحصر أعمالَ الفقيدِ كُلَّها، من مقالات وبُحوث ودراسات وكُتُب، وما كُتِب عنه في المراجع والدّوريّات المُختلفة. فعسى أن تتبنّى إحدى المُؤسّسات الأكاديميّة، الّتي خدَمها العلّامةُ السّرحانُ عُقُودًا، مثلَ هذا المشروعِ الحيويِّ الّذي يحفظ آثاره، ليكون مرجعًا شاملًا وجامعًا عنه.

في رحاب المخطوط

في اليوم الأخير من شهر آذار 2022م، اتّصل بي هاتفيًّا الأخ المديرُ العامُّ لدار المخطوطات العراقيّة، ودعاني للمُشاركة في احتفاليّةٍ تُخطِّطُ الدّارُ لإقامتها بعد بضعة أيّامٍ في مبنى الهيأة العامّة للآثار والتُّراث، بمُناسبة يوم المخطوط العربيّ الّذي يُحتفى به عراقيًّا وعربيًّا في الرّابع من نيسان من كُلّ عام، فرحّبتُ بالدّعوة، وتداولتُ معه بشأن أفكارٍ بنّاءةٍ ومُقترحات أراها ضروريّةً لحِفظ كُنُوز تُراثنا الحضاريّ وأرشيف بلادنا الثّقافيّ، في وقتٍ لا تزالُ فيه الأخطارُ مُحدقةً بما نجا بأُعجوبةٍ من هذا الميراث في كوارثَ وأزماتٍ مضت، ومضى معها شطرٌ عزيزٌ من ذاكرة البلاد لا يُمكن تعويضه. واتّفقنا على أن يكون هذا هو مُحور ورقتي الّتي سأُلقيها في الحفل. وطلب منّي في ختام الاتّصال أن أُرشِّح له ثلاثةً من أبرز الأسماء الرّائدة في مجال تحقيق النُّصُوص التُّراثيّة ودراستها ليُشاركوا في الحفل، ويُغنوه بحُضُورهم وخبراتهم. فكتبتُ له بعد قليلٍ الآتي: “أمّا الأسماءُ الرّائدةُ في مجال تحقيق التُّراث، الّتي اقترحتَ أن أبعث بمَن أعرفُ من نماذجها الرّياديّة المُضيئة، فأقول: قد عرفتُ نُخبةً طيّبةً تفخرُ بمنجزها البلادُ كلُّها: منهم الأُستاذ الجليل مُحيي هلال السّرحان، صاحب التّجربة الكبيرة المُتواصلة- برغم ثقل السّنين- في تحقيق نوادر المخطوطات، وكذلك الأُستاذ القدير الدّكتور طه مُحسن، وكلاهما كانا من الكُتّاب المُشاركين في العدد الأوّل من مجلّة (المورد) سنة 1971م، وقد أسعدانا بحضورهما وكلمتيهما في حفل اليوبيل الذّهبيِّ نهاية العام الماضي… ومنهم أيضًا الأُستاذة القديرة نبيلة عبد المنعم داود الّتي قدَّمت ولا تزالُ تُقدِّمُ عطاءً وفيرًا. وفي أدناه أرقام هواتفهم. وستكون لفتة وفاء جميلة منكم دعوتهم لِحُضُور هذه الفعّاليّة والإسهام فيها، وهي فُرصة للتّواصل المُباشر معهم، والإفادة من آرائهم وخبراتهم في أيّ مشروعٍ مُقبلٍ للدّار”.

ولأنّني اعتدتُ التّواصلَ المُنتظمَ مع الدّكتور السّرحان والأُستاذة نبيلة عبد المُنعم داود، للتّداول في كثيرٍ من القضايا المُشتركة أو الّتي تتطلّب تشاورًا، سألتهما عمّا إذا كانا سيحضران حفلَ يوم المخطوط، فسرّني قولُها إنّهما سيحضران ما دُمتُ حاضرًا. وفي صبيحة الاثنين 4 نيسان 2022م، اتّصل بي نجلُ العلّامة السّرحان صباحًا يسألني عن مكان انعقاد الحفل في هيأة الآثار والتُّراث المُترامية الأطراف، وكنتُ مع المدعوّين في زيارةٍ لقاعات المُتحف العراقيّ حيث يُقام مَعرِضٌ للمخطوطات العربيّة على هامش الحفل، فذكرتُ له أنّ الحفل سيُقام بعد رُبع ساعة في قاعة دوني جورج بمقرّ الهيأة، وأنّنا الآنَ في المَعرِض المُقام بالمُتحف العراقيّ، وخيّرته بين الالتحاق بنا حيثُ نحن أو انتظارنا في القاعة، فقال إنّ والده يُفضّل الانتظار في القاعة فصِحّتُه لا تُساعده اليوم. وبعد قليلٍ حظيتُ بمُجالسة الشّيخ الجليل، وجلسنا في القاعة ومعنا الأُستاذة المُتمرّسة نبيلة عبد المُنعم داود، نتداول في شُؤون البحث والتّحقيق وأحوالنا. وقال لي إنّه قرأ بإمعانٍ كتاب العلّامة الدّكتور مُصطفى جواد الخطّيِّ المجهول “الفُنُون الإسلاميّة”، الّذي كنتُ أهديتُ إليه نُسخةً منه هو والأُستاذة نبيلة عبد المُنعم داود، بعد أن تشرَّفتُ بإخراجه- مُحقّقًا ومُعلّقًا عليه بقلمي مع دراسةٍ مُوسّعةٍ استغرقت مئة وعشر صفحات- من ظُلُمات رُفُوف خزائن حِفْظِ المخطوطات طوال خمسة عُقُودٍ بعد وفاة مُؤلِّفه، إلى أنوارِ المكتبات العامّة والخاصّة وأيدي القُرّاء، وصدر هديّةً مع عدد مجلّة (المورد) الأوّل لسنة 2021م. ثُمَّ أثنى الشّيخُ الجليلُ على عملي في إخراجه وتحقيقه ودراسته ثناءً كبيرًا دالًّا على عظيم غِبطته، وعلى ما يتمتّع به من روحٍ ساميةٍ لا تبخل بالثّناء، وشاركتْه الأُستاذةُ الفاضلةُ نبيلة عبد المنعم داود الرّأي، حتّى اخجلاني بنبل ثنائهما.

وما أن التأم الحاضرون، وألقى المُديرُ العامُّ لدار المخطوطات كلمةَ الافتتاح، وأعقبه وزيرُ الثّقافة ورئيسُ هيأة الآثار والتُّراث، حتّى أعلمونا نحن الثّلاثة بأنّ الجلسة البحثيّة الّتي سنُشارك فيها ستلي هذه الفِقْرة، فهالني أنّ وقْعَ الخبر كان مُفاجئًا لزميليّ الأُستاذين الفاضلين، وتبيّن لي أنّهما لم يُبلَّغا بالأمر إلّا اللّحظة، وعجبا من أنّني كنتُ مُستعدًّا للحفل وجالبًا معي كلمتي مطبوعةً، وعجبتُ من غياب التّنسيق المُسبق معهما في أمرٍ مُهمٍّ كهذا. ولكنّني- تفاديًا للحرج- حاولتُ تهوينَ الأمر ما أمكنني، مُقترِحًا عليهما أن يتحدّثا عن تجربتهما الشّخصيّة الطّويلة في عالم المخطوطات من أيّ زاويةٍ مُناسبةٍ. ثُمّ نُودي علينا لاعتلاء المنصّة، ونُوديّ معنا على العالم اللُّغويّ المعروف الأُستاذ الدّكتور فاضل صالح السّامرائيّ، وكان وزيرُ الثّقافة الدّكتور حسن ناظم شديدَ الاحتفاء بحُضوره؛ لتلمذتِهِ عليه في كُلّيّة الآداب. وحين ارتقينا خشبةَ المسرح وجلسنا خلف طاولةٍ كبيرةٍ، لاحظتُ أنّ الدّكتور السّامرائيّ- وكان جالسًا على يساري- مُنزعجٌ؛ لأنّه- هو الآخر- فُوجئ بدعوته للمُشاركة في الجلسة من دُون سابقِ إبلاغٍ، فكان يقول بصوتٍ مكتومٍ إنّه ليس مُحقّقًا في الأصل، ولم يُمسِكْ مخطوطًا بيديه في حياتِه كُلِّها، فكيف يتحدّثُ هكذا عن تجربته مع المخطوطات؟ وأمام هذا الجمع! فكان عليّ أن أُهوِّنَ الأمر عليه أيضًا. فقلتُ له بصوتٍ خفيضٍ: إنّك يا دكتور قدّمتَ على مدى أكثر من رُبعِ قرنٍ برنامجًا على قناة (أبو ظبي) الفضائيّة عن اللّمسات البيانيّة في القُرآن الكريم، يُتابعه النّاسُ بشغفٍ في البلاد العربيّة فضلًا عن النّاطقين بلُغتنا في العالم، والمُصحفُ الشّريفُ- بإملائه وجمال خطّه ونوع ورقِهِ- هو أشبه بالمخطوط منه بالكتاب المطبوع، ويُمكنك الآن أن تتحدّث عن واحدةٍ من هذه اللّمسات البيانيّة، لا سيما أنّنا في شهر رمضان الفضيل. فخفّف كلامي شيئًا من تذمُّره.

وتنبّهتُ إلى أنّ الكراسيّ كانت بعددنا نحن الأربعة، وكنتُ أتساءل في نفسي أين مكان رئيس الجلسة؟ وأين هو؟ وإذا بالأخ حاكم الشّمّري النّاطق باسم هيأة الآثار ومُدير إعلامها الّذي كان عريف الحفل، يدعوني إلى افتتاح الجلسة، فقلتُ له: أنا مدعوٌّ لتقديم ورقة بحثيّة، لا لإدارة جلسة! فذكر لي أنّ هذا ما مثبّت لديه في البرنامج الّذي تلقّاه صباحًا…

فكان عليّ، بعد أن هوّنتُ الأمر على زُملائي الأساتذة الثّلاثة، أن أتدارك الأمر وأُهوّنُ الأمر على نفسي هذه المرّة، فأتولّى رئاسةَ الجلسةِ في الحفل الّذي يحضره نُخبةٌ من العُلماء والباحثين والمُهتمّين، وكذلك مُمثّلُ اليونسكو وسفيرُ إيطاليا ووزيرُ الثّقافة. فطويتُ ورقتي المُعدّة، وقُلتُ إنّني جئتُ مدعوًّا لإلقاء ورقتي هذه، لكنّني الآن مدعوّ لرئاسة هذه الجلسة، ويُسعدني أنّ أُدير جلسةً تضمّ أمثال هؤلاء الأساتذة الأعلام الكبار. وشرعتُ أُرحّب بالضّيوف والمُتحدّثين، ثُمّ أخذتُ أُطيل في تقديم الشّخصيّات الثّلاث، وأتناول ما أعرفُ من الرّوابط بين سيرهِم الغنيّة، كيّ أُدخلهم في الأجواء وأرفع عنهم بعض ما علق في نُفوسهم من كدر، وذكرتُ فيما ذكرتُ أنّ الجامعَ بين الأساتذة المُتحدّثين أنّهم جميعًا، فيما أظنُّ، تتلمذوا على العلّامة الدّكتور مُصطفى جواد، فقد كان المُشرفَ على رسالة الماجستير للدّكتور السّامرائيّ، وأُستاذًا في الدّراسة الجامعيّة الأوّليّة للأُستاذة نبيلة عبد المُنعم داود كما حدّثتني، وأظنُّ أنّ الدّكتور السّرحان درس عليه كذلك. ثُمّ قرأتُ شيئًا من مُستهلّ ورقتي، وممّا جاء فيها: “ها هنا ببغدادَ تأمّمتْ صناعةُ الورقِ الصّينيّ القديم الّذي كان سِرًّا لا يُذاعُ، وها هنا تطورّت هذه الصّناعةُ ثُمّ انتقلت بكرم العراقيّينَ إلى العالمِ، وها هنا تكوّنتْ للخطِّ العربيِّ القواعدُ بعد أن كان للأنبارِ- كما قال الرُّواةُ- فضلُ السّبقِ في تحوّلات الخطِّ العربيّ، ثمّ رُفعتْ هذه القواعدُ بأكُفِّ البغداديّين الثّلاثة الكبار في قرون ثلاثةٍ: ابنِ مُقْلةَ وابنِ البَوّابِ وياقوتِ المُستعصميّ.. حتّى أصبحَ الخطُّ فنًّا عالميًّا اليومَ. وها هنا ببغدادَ ازدهرتِ العُلُومُ والآدابُ والفُنُونُ، فكان بيتُ الحكمةِ ودارُ العِلْمِ والمدرسة النّظاميّةُ والمُستنصريّةُ والشَّرابيّةُ ومئاتٌ من موائلِ العلم. وما المخطوطُ الّذي تحتفي به الدُّولُ العربيّةُ اليومَ سوى ثُلاثيّةٍ قوامُها: العقلُ المُبدِعُ، تتوّفرُ له الأداةُ: الورقةُ، وآليّةُ نقل الأفكار: الخطُّ..؟”، فكنتُ أسمعُ وأنا أتحدّثُ إلى عبارات الاستحسان تصلني من الدّكتور السّامرائيّ والدّكتور السّرحان القريبَيْن منّي، عندها أدركتُ بأنّني قد حققتُ غرضي، فقدّمتُ الدّكتور السّامرائيّ للحديث عن القُرآن الكريم من الزّواية الّتي كنتُ اقترحتُها عليه قبل بدء الجلسة، فأخذ يتحدّثُ وقد انفرجت أساريره، عن الفرق بين لفظة الصّوم والصّيام في القُرآن الكريم ما دمنا في مُستهلّ الشّهر الفضيل، مُبيّنًا أنّ الصّوم فيه يُقصد به الإمساك عن الكلام، وتوسّع في الشّرح والتّفصيل، فلقي حديثُه الاستحسان. ثُمّ قدّمتُ الدّكتور السّرحان بما هو أهلٌ له، فتحدّث عن أهمّيّة المخطوط العربيّ الّذي نقل للأجيال عُلُومَ الأسلاف، وضرورات العناية بحفْظِه من عاديات الزّمان، وتطرّق إلى جوانبَ من تجربته الشّخصيّة الطّويلة مع المخطوط العربيّ، وبعض ما حقّقه من نُصوص تُراثيّة، وكان كلامُه جامعًا مانعًا ماتعًا.

ثّم قدمتُ الأُستاذةَ القديرةَ نبيلة عبد المُنعم داود الّتي تُلقَّبُ بفارسة التّحقيق، فتحدّثتْ عن المخطوط العربيّ وتجربتها في تحقيقه وفهرسته مُنذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي، وأثارتِ الجدلَ والنّقاشَ بما طرحته من مُشكلاتٍ تُواجِه المُحقّقَ في الجامعات وخارجها، مُستغربةً أُسلوبَ تعامل مؤسّسات الدّولة القاصر مع المُشتغلين في هذا الحقل. ثُمّ اختتمتُ هذه الجلسةَ الّتي لقيت تجاوبًا وقوبلت بالاهتمام والإصغاء من الحضور، برغم ما اكتنفها من مُفارقات.

مُشاركته الأخيرة مُدرّبًا في دورة تحقيق النُّصُوص الخطّيّة

كثيرًا ما كنتُ أتحدّث مع العلّامة السّرحان والأُستاذة القديرة نبيلة عبد المُنعم داود، وغيرهما من أعلام الباحثين والمُحقّقين، عن إشكاليّةٍ خطيرةٍ تُواجه معظمُ أبناء هذا الجيل الّذين عاشوا في ظُروفٍ غير طبيعيّةٍ مرّتْ بها البلادُ، في عُقُودها الثّلاثة الأخيرة في الأقلّ، ما أفقدَ كثيرًا من المُهتمّين منهم بالتُّراث العراقيِّ والعربيِّ والإسلاميِّ المخطوط، والرّاغبين في التّخصُّص في دراسته وتحقيقه ونشره، فُرصةَ التّحاور والتّثاقف واكتساب الخبرات مِمَّن سبقهم. مُبيّنًا لهما أنّ الحاجة ماسّةٌ اليوم إلى توفير القاعدة المعلوماتيّة الكاملة الّتي تساعد هؤلاءِ الشّباب، من الجنسين، على الإلمام بالخُطُوط العامّة لهذا التّخصُّص الدّقيق، وتمكينهم من التّواصل مع تجارب الأجيال السّابقة الّتي قدّمتْ عطاءً لافتًا في مجال تحقيق النُّصُوص الخطّيّة ودراسة التُّراث العربيِّ الإسلاميِّ في حُقُوله المُختلفة، والاطّلاع على تجاربهم الغنيّة عن كثبٍ، عبر إقامة سلسلة دوراتٍ تدريبيّةٍ في هذا المجال، تكون مفتوحةً للمُهتمّينَ من الشّبابِ، ممّن لا تزيدُ أعمارُهم عن أربعينَ عامًا، لأجل تطوير مهاراتهم ومدِّهم بالخبرات الّتي تجعلُهم مُؤهلّين لاجتراح مشاريعَ شخصيّةٍ تُناسبُ قُدراتِهم، ورعايتهم والأخذ بأيديهم لحين نشر مشاريعهم الأُولى في التّحقيق، والسّعي- أخيرًا- لخلق الفُرص لهم؛ ببناءِ شراكةٍ بينهم وبين كبار المُحقِّقين في مشاريعَ طموحةٍ، يُمكنُهم الإسهام فيها مُساعدين بقدرٍ يُناسبُ إمكانيّاتِهم. فكان الأُستاذان الفاضلان يُؤيّدان هذا الطّرح، ويُبديان الاستعداد للتّعاون وتقديم كُلِّ ما أمكنهما من جُهدٍ في هذا السّبيل.

وحدثَ أن اقترحتُ فكرةَ المشروع في لقاءٍ مع مُديْرَي دار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة ودار المخطوطات العراقيّة نهاية شهر أيلول 2022م، بوصفهما مسؤولَيْن عن المُؤسّستين المعنيّتين في وزارة الثّقافة بهذا الملفّ، فرحّبا بالفكرة، ثُمّ وافقا على مشروعي المُقدَّم مكتوبًا إليهما يوم الجمعة 16 تشرين الأوّل 2022م، بحيث تنعقد الدّورات بمُشاركة مُدرّبين أكْفاءٍ ذوي خبرةٍ طويلةٍ، وبمشاركة مُحاضرين لهم مُنجزٌ مشهودٌ في هذا المجال. وكان في ذهني أن يُشاركني في التّدريب العلّامة السّرحان والأُستاذة القديرة نبيلة عبد المُنعم داود، فسجّلتُ اسميهما في مُقترح المشروع بعد أن ضمنتُ مُوافقتهما. غير أنّ ظروف المؤسّستين لم تسمح- على ما بدا لي- بإقامة “الدّورة التّأسيسيّة الأُولى في تحقيق النُّصوص التُّراثيّة الخطّيّة” إلّا بعد نحو عامين، فافتُتحتِ الدّورةُ أخيرًا صباح يوم الأحد 23 حزيران 2024م، واستمرّت إلى يوم الخميس 4 تمّوز 2024م، بمُشاركة 23 مُتدرّبًا من الجنسين.

وبعد أن كتبتُ منهاج الدّورة مُقسَّمًا بالأيّام بين المُدرّبين الثّلاثة، وعرضتُه على شريكيَّ في التّدريب، أبديا أعجابهما به وموافقتهما عليه كما هو. ولكنّ العلّامةَ السّرحان- رحمه الله تعالى- كان يرغبُ في أن أُقلِّلَ من مُحاضراته ودُرُوسه قدر الإمكان، مُعتذِرًا بأنّه قد يصعب عليه الوُقوف طويلًا في تدريب هؤلاءِ الشّباب، فكنتُ أُخفِّفُ من مُحاضراته، وأعدتُ ترتيب جدول المنهاج أكثر من مرّةٍ قبل الدّورة وأثناءها، بحيث أتولّى أنا تقديم ما رفعتُه من حصّته في أيّام تدريبي في الدّورة، كي تُتاح له فُرصةٌ أكبر للرّاحة في بيته. لقد كان الفقيدُ من ذوي النُّفوس الكبيرة الّتي تُتعب بجسامة مطالبها أجسادَ أصحابها على ما قرَّر أبو الطّيّب المّتنبّي في بيته الخالد.

وحين كنتُ أتلقّى من المُتدرّبين سِيَرَهم على بريدي الرّقميّ قبل انطلاق الدّورة، وجدتُ أنّ بعضهم يذكر في سيرته بفخرٍ أنّه يتلقّى دُرُوسًا في منهج تحقيق النُّصُوص على العلّامة السّرحان في بيته العامر. فسألته عن ذلك مُبديًا سُرُوري بهذا النّشاط، فقال لي ضاحكًا: “مُجبَرٌ أخاك لا بطل!”. ثُم أردف شارحًا: “يأتيني بعضُ الشّباب راغبين في التّعلّم، فيصعب عليّ أن أردَّهم، فزكاةُ العلم نشره، وأتحمّل بعض المشقّة في وقت راحتي ليلًا من أجل تأديّة حقّ العلم، وإرضاءً لله تعالى”.

إنّ مَن كان يعرفُ العلّامةَ السّرحانَ عن كثبٍ، فهو لا شكّ يعلم حجم المسؤوليّات العلميّة المتنوّعة الّتي كان ينهض بها من دون كللٍ حتّى آخرِ يومٍ في حياته، ففضلًا عن نشاطاته البحثيّة والتّأليفيّة والجامعيّة، وإشرافِه على طلبة الدّراسات العُليا، ومُشاركته في مُناقشة الأطاريح والرّسائل في جامعات البلاد المُختلفة، ببغدادَ وخارجها، كان مُنهمِكًا في الأشهر الأخيرة من عمره في أكثر من مشروعٍ لتحقيق نُصوصٍ تُراثيٍّة مخطوطةً، من بينها عُكُوفُه على تحقيق رسالة ابن كمال باشا: “في مدحِ السّعي وذمِّ البَطالة”، إذ جمعَ سبعَ نُسخٍ خطّيّةٍ لها من خزائن المخطوطات في العالم. وكنتُ أُتابعُ شخصيًّا مراحل عملِه هذا، وأنتظرُ انتهاءَه منه لدفعه ضمن مشروع نشر كبير. وممّا يُؤسف له أنّ هذا العمل المُهمّ لم يكتمل.

وقد أخبرني مُريدُه الأخ الأُستاذ مُحبّ السّامرائيّ، مُنذ أيّامٍ، أنّ الفقيد كان قد ضربَ له موعدًا عند غروب يوم رحيله؛ لتسليمه صُورةً من مخطوطةٍ طلبها، وكان السّامرائيُّ يهمّ بزيارته في ذلك الأوان، فاتّصل قُبيل الموعد للتّأكُّد من وُجوده في المنزل، فأجابه نجلُه وأخبره بأنّهم نقلوه إلى المُستشفى. وهُناك انتقلت روحُه الطّيّبة إلى بارئها راضيةً مَرْضيّةً.

وأُدرج في أدناهُ المُحاضراتِ والدُّرُوسَ الّتي قدّمها ذلك الفقيدُ الجليلُ في أيّام الدّورة، توثيقًا لسيرته العطرة في أواخر أيّامه بالدّنيا: فقد ألقى في يوم الدّورة الأوّل (الأحد 23 حزيران 2024م) مُحاضرةً في قاعة الاجتماعات بدار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة ببغدادَ عُنوانها: “علم تحقيق النُّصُوص التُّراثيّة الخطّيّة: نظرة مُجمَلة على تعريفه وأركانه”. وفي اليوم الثّاني (الاثنين 24 حزيران 2024م)، الّذي أُقيمت فعّاليّاتُه في دار المخطوطات العراقيّة ببغدادَ، كانت مُحاضرته الأُولى تحت عنوان: “ما المخطوط؟ مظاهره الأُولى وموادّه عند تدوين القُرآن الكريم، ودَوْر العرب في نقل صناعة الورق وتطويرها”، وتحدّث في مُحاضرته الثّانية في ذلك اليوم عن “الكتابة العربيّة: بداياتها وتطوّرها، أدواتها، أنواع الخطوط العربيّة”، ثُمّ استفاض شارحًا “في صفات المُحقِّق ومهاراته”.

وفي اليوم الخامس (الأحد 30 حزيران 2024م) قدَّمَ مُحاضرةً في قاعة الاجتماعات في مقرّ هيأة السّياحة ببغدادَ، عُنوانها: “كيف يُواجِهُ المُحقِّقُ هذه العقبات: النُّسخة السّقيمة الخطّ، جهل النّاسخ، التّصحيف والتّحريف، السَّقْط، الخلل في تسلسل أوراق المخطوط، فُقدان أوراق: العُنوان، ومُقدّمة المُؤلِّف، وخاتمة المتن “الحرد” ..إلخ”.

وكان ختامُ مُشاركته مُدرِّبًا في يوم الدّورة الثّامن (الأربعاء 3 تمّوز 2024م) المُنعقدة فعّاليّاتُه في قاعة الاجتماعات بمقرّ هيأة السّياحة، وكان مُخصّصًا لدرس تطبيقيٍّ تُجرى فيه مُقابلةُ نصٍّ من كتاب مخطوط على أربع نُسَخ، وتلاه درسٌ آخرُ لاستكمال الدّرس التّطبيقيّ، ثمّ مُراجعة للتّجربة عبر استعراض بضعة نماذجَ من عمل المُتدرّبين، وبيان إيجابيّاتها وأوجه القُصور فيها ومُناقشتها.

وكنتُ حاضرًا معه في كُلّ هذه المُحاضرات، أُقدّمُه للمُتدرّبين، وأُشاركُه في تقديم المُحاضرة حين أرى بعضَ علامات الإرهاق عليه، وأشرحُ للمّتدرّبين بعضَ ما كان يُقدِّمه من مُلاحظاتٍ قد أجدُها صعبةَ الفهْم لدى بعضهم، وأنقلُ له بعضَ أسئلةِ المُتدرّبين الّتي قد لا يسمعها على نحوٍ واضحٍ أحيانًا. كما شاركتُه في تقديم الدّرسين التّطبيقيّين الأخيرين. وكان غرضي الأهمّ من ذلك كُلّه أن تنتقل خبراتُه المُتراكمة إلى هذا الجيل الجديد من الباحثين والمُحقّقين الشّباب، فيتحقّق أحدُ الأهدافِ الرّئيسةِ في الدّورة.

وأذكرُ أنّني حين تحدّثتُ للمّتدرّبين في مُستهلّ تقديمي لمُحاضرةِ الدّكتور السّرحان في يوم الدّورة الثّاني- الّذي جرت فعّاليّاته في مبنى دار المخطوطات العراقيّة- عن شيءٍ من مسيرته العلميّة، فذكرتُ لهم تحفيزًا وتشجيعًا، أنّه نشرَ أوّلَ بحثٍ علميٍّ له في زمن الملك فيصل الثّاني، حين كان طالبًا جامعيًّا سنةَ 1954م، وكان يومها أصغر من أيٍّ منكم. فكان أن علَّقَ العلّامةُ السّرحانُ على كلامي بأنّه كان تلقّى شهادةَ تخرُّجه في كُلّيّته من يد الملك فيصل الثاني (رحمه الله) شخصيًّا. فكان كلامُه مثارَ إعجابِ المُتدرّبين وفخرهم بأُستاذهم ومُدرّبهم ذي التّاريخ العلميّ المُشرِّف.

وكُنتُ قد تنبّهتُ في يوم بدء الدّورة، عبر حواراتي الجانبيّة مع العلّامة السّرحان، إلى مرور سبعين عامًا على بدئه بنشر أوّل بُحُوثه، ووجدتُه حدثًا حضاريًّا يستحقُّ أن يُحتفي به، لا سيما أنّه لا يزالُ يُواصل عطاءه بهمّةِ الشّباب، فاقترحتُ يومئذٍ على مُدير دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة الدّكتور عارف السّاعدي، في جلسةٍ بمكتبه حضرها الفقيدُ، أن تحتفي الدّارُ بهذه المُناسبة، فرّحب بالفكرة وأبدى استعداده الكامل لتنظيم مثل هذا الحفل، وجرى الاتّفاقُ الأوليُّ بيننا على أن يُنظَّم الحفلُ في خريف هذا العام، بعد زوال موجة الحَرّ، وأُوكلتْ إليّ مهمّةُ الإعداد له. وكنّا نأملُ أن يشهد هذا الاحتفاء به في حياته، لكنّها إرادة الله.

كانت هذه الدّورةُ هي آخر نشاط علميّ ومعرفيّ عامٍّ للفقيد، إذ قدّم خلالها للمُشاركين خُلاصات تجاربه وخبراته، وأشهدُ أنّه كان أُنموذجًا عاليًا للعالِم العامِل، لم يبخل بوقته ولا بجُهده على الرّغم من متاعب الشّيخوخة. وأذكرُ أنّه حين اكتملَ الدّرسُ التّطبيقيُّ الأخير، أخذ معه أوراق الاختبارات، وجلبها في اليوم الأخير مُصحّحةً ومُدقّقةَ ومُحدّدة عليها التّقييمات، وأخبرني أنّه سهر اللّيل في سبيل إنجازها باتقانٍ كي لا يظلم أحدًا.

وعقب انتهاء آخر مُحاضرةٍ بالدّورة أُلقِيتْ صبيحة الخميس 4 تمّوز 2024م، في قاعة غائب طُعمة فرمان بدار الشُّؤون الثّقافيّة العامة، عقدنا- نحن المُدرِّبين الثّلاثة- اجتماعًا مُغلقًا في قاعةٍ للاجتماعات بمقرّ الدّار نفسها، لتحديد الفائزين الثّلاثة الأوائل على الدّورة، ثُمّ لتوقيع شهاداتهم، وكذلك شهادات المُشاركين، كي تُمنح لهم في حفلٍ ختاميّ يُعقَد في اليوم نفسه.

وكانت قد بقيتْ لديَّ مُراجعةٌ أخيرةٌ لاختبارات بعض المُتدرّبين، وترتيب الدّرجات النّهائيّة لهم، فأنهيتُها في القاعة، ثُمّ شرعنا في المُداولات بشأن أسماء الفائزين بالمراتب الثّلاث الأُولى، بحسب جُملةٍ من المعايير المُحدَّدة سلفًا، من ضمنها اختباراتٌ كُنّا أجريناها خلال الدُّرُوس التّطبيقيّة في ثلاثة الأيّام الأخيرة للدّورة. فتبيّن لنا بعد مُداولاتٍ أوّليّةٍ أنّنا نشتركُ في تحديد اسمَي الفائزين الأَوّلين، ولكن لم يكن لدى الدّكتور السّرحان اسمُ فائزٍ ثالثٍ خلافًا لِما عندنا من تشخيص فرزته المعاييرُ المُعتمدةُ ونتيجةُ الاختبار. فسألتُه عن تقييم ذلك الاسم- الّذي حدّدناه- في اختباره، فأجابني بعد مُراجعة أوراقه أنّ هذا الاسم غير مُدرَجٍ في قائمته أصلًا، فرُبّما لم يُشارك في الاختبار، أو لعلّه لم يُكملْه فلم يُسلِّمْ أوراقه. ولأنّني كُنتُ معه في أيّام الدّورة جميعِها، وأعرفُ كُلَّ المُشاركين فيها، وأُتابعُهم عن كثبٍ، ذكرتُ له أنّ هذا الأخَ المُتدرّبَ بالذّات اعتادَ أن يكتب اسمَه في الاختبارات على ورقةٍ فارغةٍ أو مُنفصلةٍ خلافًا لزُملائه. وهنا قال لي: “نعم تذكّرتُ.. عندي أوراقُ اختبارٍ بلا اسمٍ”. فراجعَ الملفَّ واستخرجها. ثُمّ بحثَ بلهفةٍ في مكانٍ آخرَ من الملفّ وأخرج بضعَ أوراقٍ أُخَر، فوجد بينها ورقةٌ فيها اسمُ ذلك المُتدرّب على ورقةٍ غير مُدرجةٍ مع أوراقِ إجابتِه المُصحّحة في الاختبار، وأخذ يُقارِن بين الخطّين ولون الحبر فيهما فاكتشف أنّهما مُتطابقان، وكان فرِحًا بهذا الاستدراك، وأرانا أنّه كان قد سجَّلَ بالفعلِ لهذا المُتدرّب تقييمًا عاليًا يُؤهّله للفوز بالمرتبة الثّالثة، وأنّه كان يأسفُ بشدّةٍ لأنّ تلك الأوراقَ كانت خُلُوًّا من الاسم برُغم امتياز صاحبها. وبذلك اكتملت قائمةُ الفائزين، وسَرَّنا أنّها جاءت مُتطابقة لدينا.

عندها وضعتُ ورقةً بيضاءَ أمامه على الطّاولة، وطلبتُ منه أن يتفضَّلَ فيُدرج بخطّ يده الكريمة قرارَ لجنة التّدريب الّذي اتّفقنا عليه وأقررناه. فقال لي تواضُعًا منه رحمه الله تعالى: “بل الأَوْلى أن تكتبها أنت بصفتك مُدربًا ومُشرِفًا عامًّا على الدّورة”. فأجبتُه بأنّ الإشراف على الدّورة يتطلّب جُهدًا مُضاعفًا لعلّي الأقدر عليه بحُكم السِّنّ، وأنا أرغبُ في أن تكون هذا الورقةُ وثيقةً تاريخيّةً، ولا يصحّ أن يكتبها والحال هذه سوى الأكثر خبرةً وعلمًا وفضلًا بيننا، والأكبر سنًّا، وصاحبِ الخطّ الأجمل. وأيّدتني الأُستاذة القديرة نبيلة عبد المُنعم داود. فقال: “إذن، سأكتبُ ما تُملي”. فأكبرتُ الأمرَ، وقُلتُ له: “إنّني سأقترحُ العباراتِ، وأنتم تكتبون ما ترونه مُناسبًا”. فسار الأمر على ذلك، وأكملنا محضرَ القرار الّذي أُدِرُجُ صورةً منه هنا بوصفه وثيقةً للتّاريخ. ثُمّ قرأناه ووضعنا تواقيعنا عليه.

ووقّعنا بعد ذلك على شهادات الفوز والمُشاركة. ثُمّ صادق السّيّدان مُديرا دار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة ودار المخطوطات العراقيّة على محضر قرار اللّجنة، وعلى الشّهادات فاعتُمدت رسميًّا، ثُمّ أُعلنتْ ووُزِّعتْ في حفل اختتام الدّورة يوم الخميس الرّابع من شهر تمّوز الماضي، قبل خمسةٍ وعشرين يومًا من رحيل العلّامة الجليل، تغمَّده اللهُ برحمته ورُضوانه.

وكُنتُ قد أعددتُ مُسبقًا، الصّياغةَ اللُّغويّةَ لشهادة التّثمين والتّقدير الّتي سُلِّمت في حفل الاختتام للفُضلاء والفُضليات من الأساتذة المُدرِّبين، والمُحاضرين الثّمانية، وللإخوة الفائزين الثّلاثة، ولباقي المُتدرّبين المُشاركين بالدّورة. وأُدرج في أدناهُ صُورةً لشهادة التّقدير المُوجّهةِ للعلّامة السّرحان، الّتي كان تسلّمها في حفل ختام الدّورة من مُستشار رئيس الوزراء للشُّؤون الثّقافيّة المُدير العامّ لدار الشُّؤون الثّقافيّة العامّة، وجاء فيها:

“نتقدّم لكم بوافر الشُّكر والتّقدير على ما بذلتموه من جُهد كبير في إلقاء المُحاضرات والتّدريب وتقديم الدُّروس النّظريّة والتّطبيقيّة، مُثمّنين ما قدّمتموه من ثمرات خبراتكم المُتراكمة خلال أيّام الدّورة… ونحن إذ نُثمِّنُ جهودكم العلميّة النّبيلة الّتي قدّمتموها خلال هذه التّجربة الرّائدة، نتمنّى أن تحظى أجيالٌ جديدةٌ من المُحقّقين والمُشتغلين في تُراثنا العربيّ الإسلاميّ بفُرصة التّتلمذ عليكم والنّهل من خبراتكم”.

ومن أسفٍ، لم يتحقّق رجاؤنا الواردُ في ختام هذه الشّهادة، على أنّ عزاءنا في ذلك العلّامة الجليل، ما ترك من أثرٍ طّيّب في نُفُوس كُلِّ مَن عرفه، وما خلَّفَ من مُنجزٍ علميٍّ ضخمٍ سيظلّ ينهل منه النّاهلون، وسيُبقي ذكره خالدًا في وجدان البلاد، وفي ذاكرة أجيالٍ جديدةٍ قادمةٍ من الباحثين وطلبة العِلم.

 

*حسين مُحمّد عجيل

(محقق وكاتب وشاعر، من العراق)

————الحواشي ————-

[[1]] بتحقيق عبد السّلام محمّد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998م: 3/ 374- 375.

[[2]] الصّادرة سنة 2021م عن دار الفتح في عَمَّان ومكتبة أمين في كركوك.

[[3]] الّذي صدر سنة 2020م عن مُؤسّسة الضُّحى ببيروتَ ومكتبة أمين في كركوك.

[[4]] نُشر بعُنوان “تصحيح خطأ كبير: كتاب طبقات الفُقهاء المنسوب إلى طاشكُبري زادة هو لابن الحنائيّ”، في العدد المُزدوج الثّالث والرّابع من المُجلّد العاشر من المجلّة الصّادر في خريف وشتاء سنة 1981م. وقد ورد في مُقدّمة تحقيق العلّامة السّرحان لكتاب الحنائي (ص5) سهوًا أنّ بحثه هذا نُشر في (المورد) قبل عقدين، والصّواب: قبل أربعة عُقُود.   

[[5]]غطّتِ المقالةُ الصّفحةَ الثّانيةَ عشرةَ كُلَّها من عدد جريدة (الصّباح) ذي الرّقم (5298) الصّادر يوم الاثنين 27 كانون الأوّل 2021م.

[[6]] من ذلك ما شهدتُه منه يوم لَبَّى دعوتي لحُضور ندوةٍ استذكاريّةٍ عقدتْها دارُ الشُّؤون الثّقافيّة العامّة، صبيحة يوم الاثنين 20 شباط 2023م، ضمن مُفردات حفلٍ تأبينيٍّ أقامته بُمناسبة مُرور أربعين يومًا على رحيل رئيس تحرير مجلّة (المورد) الأسبق الأستاذ الدّكتور عناد إسماعيل الكُبيسيّ، وكنُتُ اقترحتُ فكرةَ عقد الحفل، وتولّيتُ الإعداد له وتنظيم برنامجه وإدارة ندوته. وقال لي الدّكتور السّرحان يومئذٍ إنّه يستذكر مواقفَ طيّبةً للفقيد الكُبيسيّ معه يومَ كان يشغل منصبًا دبلوماسيًّا في سفارة العراق بالقاهرة، ولذلك حضر الحفلَ مُبكِّرًا، ولكنّه كعادته جلس في أقرب مكانٍ وجده فارغًا في آخر القاعة، فذهبتُ إليه مُرحِّبًا وداعيًا له أن يجلس في صدارتها، فهذا موضع العُلماء الأعلام نظيره، فتمنَّعَ، ولم يقبل إلّا بعد إلحاحٍ منّي، وقولي أنّني حجزتُ له هذا الكُرسيَّ مُسبقًا. وحين كنتُ أُقدِّم له بعض الأصدقاء الباحثين، كان يقفُ ويُقدّم نفسَه بتواضعٍ شديدٍ لمن جاء يُسلِّم عليه، فكان تواضعُه حديث كُلِّ مَن تشرَّف بمعرفته في ذلك اليوم. (نُشر خبرٌ عن هذا الحفل والنّدوة في العدد الأوّل من المُجلّد الخمسين من مجلّة (المورد)، الصّادر في ربيع سنة 2023م: ص557- 558).

[[7]] نُشِرت الكلمة بهذا العُنوان في (ملفّ المورد في يوبيلها الذّهبيّ) بالعدد الرّابع من المُجلّد الثّامن والأربعين من المجلّة، الصّادر شتاء سنة 2021م: ص147- 148.

[[8]] اعتاد العلّامةُ السّرحانُ أن يَنْظِمَ الشّعرَ في بعض المُناسبات، وهو معدودٌ من شعر العُلماء، وقد تُؤاتيه القريحةُ أن يقول النُّتْفةَ الشّعريّة ارتجالًا. وأعلمني مُريدُه الصّديقُ المُختصُّ بالمخطوطات الأُستاذ مُحبّ السّامرائيّ، مُؤخَّرًا، أنّه كان يُخطّط لنشر شعر الفقيد في كتاب، اعتمادًا على ما جمعه منه العلّامةُ السّرحان في بيته، وإن كان لا يضمّ كُلَّ ما قاله في المُنتديات أو نشره في الدّوريّات. فعسى أن يُتمّ الصّديقُ السّامرائيُّ هذا المشروع، فيحفظ به جزءًا من آثار الشّيخ الجليل.

[[9]] نُشِرت الورقةُ في (ملفّ المورد في يوبيلها الذّهبيِّ) بالعدد الرّابع من المجلّد الثّامن والأربعين من المجلّة، الصّادر شتاء سنة 2021م: ص149- 156.  

[[10]] نُشر في العدد الأوّل من المُجلّد الخمسين من مجلّة (المورد)، الصّادر في ربيع سنة 2023م: ص253- 260. وجاء العدد في 580 صفحةً.

[[11]] كان عُنوان الافتتاحيّة الّتي كتبتُها لذلك العدد (ص4- 6)، هو: “عددٌ خاصٌّ واستثنائيٌّ عن الطّبريِّ، ختامُ رحلةٍ ثريّةٍ مع (المَوْرِد)”.

[[12]] صدر في بغدادَ عن دار البيارق للنّشر والتّوزيع، سنة 2022م. ويقع الكتاب في 272 صفحةً.

______________________________

اقرأ أيضًا:

مراقص المراقس

عين المحب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى