العدد السادسمقالات

محيي هلال السرحان العالم الإنسان: الرؤية والمنهاج

محيي هلال السرحان
العالِم الإنسان: الرؤية والمِنهاج

سلطان صلاح ماجد*

في بادئ الأمر أشكر الله جل في علاه أن جعلني وأنا ما أزال شابًا هاويًا للتراث أقتاتُ على الموائد لعلّه يصيبني من صنيع الكرام شيءٌ، وأن يسّر لي بفضله مُجالسة عدد كبير من أهل العلم، ومن جُملة هؤلاء العلماء جالست العلامة المحّقق والشيخ المدقّق أستاذ الجيل -بحقّ- أ.د. محيي هلال السرحان، رزقه الله وإيّانا أعالي الجنان، فكانت جلساتي الأولى معه بأكاديمية باب المعظم، التي كان يعمل عميدًا فيها -وهكذا أمضى أستاذنا حياته سيّد القوم في كل مكان لرفعةِ مكانته العلمية-، وكان من روّاد مجلسه الدائم آنذاك الأستاذ جميل إبراهيم حبيب، وهو من المصنّفين المكثِرين، وكان شديد التعظيم لأستاذنا، ولا يتكلّم بوجوده، ومنهم: الأستاذ محبّ الدين السامرائي، وهو من أصحاب أستاذنا، وكان الدكتور محيي يذكرُه بكلّ خير، وكان أستاذنا يتوسّط المجلس توسّط الملك بين حاشيته، والناس حوله كأنّ على رؤوسهم الطير، فإنْ كان للملك هيبة الدنيا فلعلمائنا هيبة الدين والدنيا، قال إبراهيم بن أدهم: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذًا لجالدونا عليه بالسيوف”([1]).

يجلس لفيف من كبار الأساتذة يحيطون بالسرحان يتلون عليه السؤال تلو الآخر وهو يجيبهم بابتسامته الشهيرة وصوته الخفيض الحاني الذي هو بمثابة الغيث إذا نزل يُشبع كل ظمآن بالوجود، لا يزال رسمه يتردد أمامي بظهره الذي انحنى من كثرة انحنائه إما ناسخًا أو مدققًا أو قارئًا أو مفهرسًا.

وإني أخشى كل الخشية أن أتكلّم عنه وأنا الذي كنت أخشى التكلم بحضرته! من أين أبدأ؟ وماذا أقول؟ وكيف أقوى على رفع القلم وأنا مكلوم؟!

أكتب اليوم عن منهج الدكتور محيي هلال السرحان ولعل البعض يتصور أنني سأكتفي بذكر منهجه المتبع في فن التحقيق، ولكن لو كان هذا ما أريد لقلت منهج تحقيق المخطوطات عند الدكتور محيي هلال السرحان، إنما سأنسج بقلمي منهج محيي هلال السرحان العالِم المحقِّق الإنسان، فاللهم اجعلنا أهلًا لهذا الموضوع.

 

  1. منهجه في تحقيق المخطوطات:

تباينت مناهج تحقيق المخطوطات بين جيل وآخر وبلد وآخر ومحقق وآخر خصوصًا بعد النشرات الأوروبية الأولى للكتب فكان لكل اجتهاده ولكل منهجه ولكن النية واحدة في ذاك الوقت وهو نشر العلم فانقسم الناس بالمناهج بين مادح شديد المدح وقادح شديد القدح ولم يصف لنا إلا القلة القليلة المباركة الذين توسطوا بين الطرفين فكانوا كواسطة العقد بجمال منطقهم وبهاء تفكيرهم فأخذوا يسدون ويقاربون ويصوبون ويرجحون ملتمسين العذر لمحقق لم تصل له نسخة متأولين لرأي محقق أخذ نسخة غير نسخة المؤلف فكانوا أمة وسطا، وكان مُفجر وضع مناهج التحقيق بشكل درسي مختص هم المستشرقون بدايةً بالمستشرق الألماني جوتلهف برجستراسر بسلسلة محاضرات ألقاها في جامعة القاهرة بمصر وجُمعت فيما بعد في كتاب مطبوع فأفاد منه البعض في كتبهم مثل الدكتور صلاح الدين المنجد وكان على نقيضه من كان يعتز كل اعتزاز بمنبعه الأصل ويذود عن حماه بالقلم والسيف إن تمكن كالشيخ عبدالسلام هارون فهو يعلنها بقوة([2]):

(وإن كان بعض إخواننا الدمشقيين -ممن كنا نتوسم فيهم النجابة- زعم بضَعف نفسه، وبما يشعر أمثاله من ذلة علمية، أني لم أطَّلع على ما كتبه المستشرقون، فوضع بذلك على هامتي إكليلًا أعتزُّ به، إذ أمكنني بعون الله وحده أن أضَع علمًا متكاملًا لم أُسبق إليه، دون أن أتطفَّل على مائدة كثير مما وُضع للعرب فيها صحاف مسمومة، وموائد العرب حافلة بالجهود الوثيقة والأمانة العلمية المرموقة).

وكان كتاب هارون من أوائل المطبوعات في فن التحقيق بين مؤلفات العرب ولعلي هنا أزيل هذا الخطأ الذي سارت به الركبان بفائدة أخذتها عن أستاذنا المحقق عمر السنوي -حفظه الله- إذ ذكر لي أن الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله- أول من دون أصول الفن وقعد قواعده وضبطه بمنهاج ولكن تأخرت طباعته كحال بقية تراث العلامة الجهبذ، فكان المعلمي شيخ توليد المناهج في ربوع أوطاننا، وكان هارون شيخ نهضة المناهج من حيث انتشارها في ربوع أوطاننا، ولحقه العديد ممن كتب عن مناهج تحقيق المخطوطات ولا ريب أن يكون لمدرسة التحقيق في العراق مؤلفاتها في هذا الباب مبتدئةً بالعلامة مصطفى جواد التي جُمعت آماليه في التحقيق في كتابٍ خاص ولحقه بعدها عدد كبير من محققي أهل العراق بالكتابة في مناهج التحقيق كالعلامة محمد بهجة الأثري، والأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف، والأستاذ الدكتور هلال ناجي، والأستاذ الدكتور عباس هاني الجراخ، والأستاذ الدكتور حاتم الضامن، والأستاذ عبد الهادي الفضلي، والأستاذ الدكتور بشار عواد معروف، والأستاذة الدكتورة نبيلة عبد المنعم داود، وغيرهم، ومن ضمن هؤلاء الجمهرة الكبيرة فقيدنا الأستاذ الدكتور محيي هلال السرحان، فقد وضع كتابًا أبان فيه عن أصول صنعة العلماء هذه، وقد طُبع كتابه مرتين، المرة الأولى عن ديوان الوقف السني بالعراق عام 1431هـ، الموافق لعام 2010م، والمرة الثانية عن دار الفتح ومكتبة أمير عام 1442هـ، وفي الطبعة الثانية زيادة في أصول البحث.

وسيكون خلاصة منهجه التحقيقي مقتبسًا من هذا الكتاب، إضافة إلى بعض السؤالات التي وجهتها إلى أستاذنا، وأضف إلى ذلك دروسه التي حضرتها في الدورة الأخيرة التي قامت في حياته حول تحقيق المخطوطات في دار المخطوطات العراقية ودار الشؤون الثقافية.

  1. أركان التحقيق:

أ. المحقق: وقد شرط أستاذنا فيه عدة أمور وهي:

أولًا: سعة الاطلاع والمعرفة بعلم النص المخطوط الذي يعمل على تحقيقه ليكون على دراية بألفاظ العلم ومصطلحاته وأشهر رجاله.

ثانيًا: الصبر والتأني وسعة الصدر لصعوبة صنعة التحقيق وتذكر أستاذتنا المؤرخة نبيلة عبد المنعم داود -حفظها الله- أن من شدة صبر أستاذنا المرحوم محيي أتى مرة للمكتبة المركزية بجامعة بغداد وكانت أستاذتنا أمينة المكتبة آنذاك وكان يدفع معه عربة محملة بضروريات الحياة ليمكث بالمكتبة يومًا كاملًا ليُعد رسالته وكان أستاذنا يذكر أثناء تدريسه في الجامعة صدر أمرٌ حكومي أن يمكث الموظف حتى الساعة الخامسة عصرًا فكان أستاذنا يمضي هذا الوقت كله بنسخ المخطوطات فلله أنت يا محيي كم أحييت فينا معاني الصبر والجلد.

ثالثًا: الأمانة وخشية الله فيما يتولى من العمل فإن النص أمانة ويجب المحافظة عليها وخشية الله أثناء العمل فيها ومما أذكر من أمانة أستاذنا إنه ذكر مرة أنه كان يقرأ مع طالب الدراسات رسالته ٧ مرات متتالية حرفًا حرفًا حتى يتركه وأخذ أستاذنا آنذاك يجهش بالبكاء لأنه عرف بصنيع بعض مشرفي الرسائل اليوم في الجامعات ممن لا يهمهم أمر الطالب سوى أن يكون وسيلة لكسب المال.

ب. المخطوط:

أولًا: المخطوطة هي عبارة عن وثيقة كتبت بخط اليد.

ثانيًا: تاريخ المخطوطات كان لأستاذنا رأيٌ بديع في تأريخ المخطوطات فيرى إن أول تحقيق حدث في التاريخ هو نزول القرآن الكريم من رب العرش العظيم للنبي ﷺ فكان هذا الشعلة الوهاجة للتدوين وكان كتبة القرآن أول محققي التراث كزيد بن ثابت رضي الله عنه.

ثالثًا: المادة التي دونت عليها المخطوطة وكانت هذه المواد تختلف باختلاف البقع الجغرافية واختلاف الأزمنة المتعددة فمرة على العسب ومرة على الأديم ومرة على الأكتاف ومرة على ورق الكتان وهذه المواد علمٌ بحد ذاته يندرج تحت العلم بالمخطوطات ومن أشهر من دون فيه العلامة قاسم السامرائي بكتابه الاكتناه وهو كتاب واسع بديع في بابه.

رابعًا: الوراقة والنساخة كان هذان العملان من جليل الأعمال التي يعمل بها الناس وذلك نتيجة ازدهار الحركة العلمية بكافة خطوطها وكان أستاذنا محيي يشتكي من صنيع بعض النساخ سرعة نسخه ولا يهتم بكثرة السقط والتحريف والتصحيف الحاصلة إذ لا هم لهذا الناسخ سوى تحصيل المنفعة المادية على رداء خطه وكثرة خطئه وعلى نقيض هذا كان أستاذنا شديد الثناء على بعض خطوط النساخ واذكر في الدورة الأخيرة التي حضرتها كان من ضمن المحاضرات الكريمات الأستاذة منى ناجي الموظفة في دار المخطوطات العراقية وأثناء عرضها لنا عبر الشاشة بعض الخطوط كان أستاذنا شديد الدهشة ببعضها وكان يتابع معنا كأنه أحد الطلاب! ويثني على بعض الخطوط خصوصًا نسخ القرآن الكريم المخطوطة.

خامسًا: أنواع الخطوط متباينة فبعدما كان الخط الكوفي هو الخط المعتبر الشهير في القرون الثلاثة الأولى تغير تدريجيًا ومُزج مع الخط الحديث في أواخر خلافة بني أمية وصدر خلافة بني العباس ثم بعد فتح المغرب وشمال أفريقيا والأندلس تطور الخط تطورًا كبيرًا وصار الخط المغربي الشهير وفي المشرق كان ابن مقلة هو رائد تقعيد الخطوط وبيانها.

سادسًا: للنساخ القدماء قواعد معروفة في كتابتهم تجدها مبثوثة بأغلب الكتب الحديثية وقد ذكر الأستاذ جملة منهم في كتابه، وفي محاضراتنا أشاد بالمحدث الفاصل للمحدث الرامهرمزي، والإلماع للقاضي عياض، ومقدمة ابن الصلاح الشهيرة في علوم الحديث.

سابعا: جودة الخط والكتابة تنحصر في وضوح الخط وسرعة كاتبه وجماله لكل أهميتها في عملية تحقيق المخطوط:

  1. وضوح الخط: هو قوام الكتابة وهو السبيل لفهم المعنى ويتحقق الوضوح بعدة أمور باستكمال شكل الحروف في رسمها ومراعاة المسافة بين الكلمات والجُمل ووضع علامات الترقيم وتنقيط الجُمل.
  2. السرعة: تعتبر من ضروريات عصرنا فسمته هو عصر السرعة الاستهلاكي وتتحقق بكثرة الكتابة فتطيعك عضلات يدك وتكون سهلة الحركة حرة ومما يساعد أيضا على هذا جودة القلم المستعمل والمكان المناسب والظرف الزماني والظرف المكاني الملائمين لعملية الكتابة.
  3. الجمال: وهو شرط كمالي اذ أن توفر الوضوح مع السرعة هو الأساس في الكتابة والجمال مما يزيد الاقبال على النص المكتوب وفي تاريخنا عدد ليس بالقليل من أصحاب الخط الجميل.

ج. التحقيق:

وتعريف التحقيق هو نقل الكتاب من المخطوط الى المطبوع وله عدة مطالب:

أولا: يتحقق المحقق من اسم الكتاب الذي يكون مثبتا في أول صفحة من المخطوطة وقد تسقط الصفحة بفعل مرور الزمن أو تتلف أو يقوم شخص متعمد بشطب اسم الكتاب أو كتابة عنوان غيره بسبب سهو الناسخ ولإثبات الاسم يسلك المحقق عدة طرائق أما عن طريق افتتاحية الكتاب فيجد المؤلف يقول: (وقد سمينا كتابنا الكتاب الفلاني) أو عن طريق خاتمة الكتاب فيجد المؤلف يقول: (وقد ختمنا كتابنا الكتاب الفلاني) أو يذهب المحقق لمؤلفات مصنف المخطوطة لعله يجد إشارة للكتاب الذي بين يديه أو عن طريق الكتب المتخصصة ككتاب كشف الظنون لحاجي خليفة.

ثانيا: يتحقق المحقق من اسم المؤلف الذي يكون مثبتا في أول صفحة من المخطوطة وقد يسقط لنفس الأسباب السالفة، وهنا نجد عدة حالات في سقوط اسم المصنف:

الحالة الأولى: سقوط اسم المُؤلّف من المَخطوطة فأن ذهب مع اسم الكتاب نرجع للحلول السابقة أما أن سقط اسم المصنف فقط نذهب لكتب الفهارس ونرى اسم الكتاب ونطابقه مع مؤلفه.

الحالة الثانية: نسبة الكتاب لمؤلف ثاني وذلك بسبب جهل الناسخ غالبا وتعرض المخطوطات للتلف والرطوبة وما شابه وأحيانا أثناء عملية الترميم بسبب المواد الحديثة تطغى على اسم المؤلف وأول ما يرجع لمعرفة اسم المؤلف للمخطوطة ذاتها ومقارنة أقوالها وأسانيدها بما يقترب من أسماء العلماء البقية ممن عرفت كتبهم واشتهروا.

الحالة الثالثة: الوهم باسم المؤلف واسم الكتاب كلاهما وهنا يتم البحث عن مؤلفات المؤلف المذكور وأيضا الاستعانة بالمخطوطة.

ثالثا: يجب التأكد أن المخطوطة لم يتم تحقيقها مسبقا أو أن الحاجة قائمة الى تحقيقها مرة ثانية فالمخطوطات التي لم تطبع كثيرة جدا فقبل الشروع بتحقيق مخطوطة وجب مراجعة الفهارس البيلوغرافية وفي عصرنا نستطيع استعمال الأنترنت لمعرفة ما طبع وما لم يطبع وأن كان مطبوعا ورأى المحقق الحاجة لطبعه مرة ثانية كون الطبعة الأولى غير محققة أو وجود نسخة خطية أخرى للكتاب لم تصل للمحقق.

رابعا: تحقيق متن الكتاب ويتم هذا عن طريق سلسلة من العمليات المتصلة بعضها ببعض فاذا اختلت عملية منها أضرت ببقية العمليات

العملية الأولى: يجب على المحقق جمع النسخ وحشدها للكتاب الذي ينوي تحقيقه من الخزائن العالمية في شتى الأصقاع ثم العمل على التواصل مع القائمين عليها لغرض تصويرها واليوم أغلبها مصورة مرفوعة مما يسهل عملية جمعها ويتم ذلك بجرد فهارس المخطوطات.

العملية الثانية: ترتيب النسخ التي جمعها المحقق وتحديد النسخة الأم التي يتم مراجعة بقية المخطوطات ومقابلتها عليها وقد وضع العلماء عدة قواعد لتقييم النسخة الخطية التي تكون النسخة الأم:

  1. النسخة التي بخط المؤلف.
  2. النسخة التي أملاها المؤلف أو عليها إجازته أو قرأها المؤلف.
  3. نُسخ طلاب المؤلف خصوصًا التي أملاها بنفسه.
  4. النسخ التي قوبلت على نسخة المؤلف.
  5. النسخ التي كتبت بعصر المؤلف بخط عالم متقن وعليها سماعات.
  6. النسخ التي كتبت في عصر المؤلف وليس عليها سماعات.
  7. النسخ التي كتبت بعد عصر المؤلف ويفضل فيها النسخة الأقدم على النسخة الأحدث وربما تفضل الأحدث أن كانت لا تحوي الكثير من التصحيف والتحريف وكانت أوضح.

العملية الثالثة: مقارنة النسخ فبعد اختيار النسخة الأم يجعل النسخ البقية تابعة لها ويحقق المخطوطة ويكون مراده الأول مراد المؤلف أن يخرج الكتاب كما أراد مؤلفه مع الإشارة لاختلاف النسخ.

العملية الرابعة: يستحب للمحقق أن يعتني بتوثيق النصوص المذكورة فمثلا عند نقل المؤلف عن عالم من العلماء يراجع مؤلفات هذا العالم ويثبت مكان النقل ليزيد من جودة الكتاب المحقق ويزيد القارئ طمأنينة عند قراءة الكتاب.

العملية الخامسة: مما يستحب أيضا: التعليقُ على النص مما يكشف لبسًا فيه أو يوضح غامضًا فيه ولتخريج الآثار والأحاديث والأشعار المذكورة وفي التعليق على النصوص انقسم المحققون فريقين:

الفريق الأول: يرى خروج النص كما هو دون أي تعليق وهذا رأي المستشرقين وتبعهم جماعة من العلماء ودليلهم أن المحقق واجبه الرئيسي اخراج الكتاب كما يريد مؤلفه وأن التعليقات من صنيع أصحاب الشروح والحواشي.

الفريق الثاني: يرى أن عمل المحقق لا يتم ألا بالتعليق على النصوص وكتابة فروق النسخ وتراجم الأعلام والتخريج وشرح المبهم ودليله أن هذا من مقتضيات البحث العلمي وقد غالى البعض من أفراد هذا الفريق بترجمة المشهورين أو توضيح الواضحات أو العناية الزائدة بعبارات النساخ في الدعاء مثلا رحمه الله تعالى أو يرحمه الله.

العملية السادسة: يجب خدمة النص المحقق بضبط شكله وضبط الأسماء والألفاظ إضافة لعلامات الترقيم وذا وجد المحقق أن الكتاب خالي من العناوين قسم الكتاب لعدة عناوين وبين أنه من صنيعه وكتابة مقدمة مبينة لمنهاج المحقق وجهده والتعريف بالكتاب وصاحبه والعناية بأرقام الصفحات وعمل الفهارس الخاصة بالكتاب ولقد تطورت الفهرسة في عصرنا فبعدما كانت تقتصر على فهرسة الموضوعات أصبحت اليوم فهرسة للأحاديث والآثار والأشعار والأعلام والمواضيع العلمية حسب تخصصها والبلدان وغيرها ولا ينسى المحقق أن الانسان في طبيعته ليس بالمعصوم فيجب أن يكتب ذيلا أو مستدركا في حال وقوع خطأ منه أثناء التحقيق يلحقه بنهاية الكتاب.

إلى هنا أختم هذه الخلاصة المنهجية في بيان منهجية أستاذنا بالتحقيق ولا يفوتني التأكيد على القارئ أن يطالع ما كتب أستاذنا في أصول البحث والتحقيق فهناك كثير من الفوائد التي لا يسع المقال لذكرها.

  1. منهجه الإنساني:

أما محيي الإنسان فبعد كلامي عن منهجه التحقيقي بشكلٍ موجز رأيت أن دَين أستاذي محيي ثقيلٌ جدًا على عنقي بل يكاد يكسر عنقي كيف لا وهو الأب الحنون الذي كان يستقبلني بابتسامته المشرقة ويجيب على كل أسئلتي على تنوعها صغيرها وكبيرها فواجب علي أن أنسج بعض الكلمات ببيان منهجه الإنساني الرفيع المحتكم لأخلاق الشريعة الغراء التي تسمو بالإنسان عاليًا يحلق في كل مكان متزينًا برفيع الأخلاق مما يضفي على الوجه مسحة نورانية تبين لك أمام من أنت واقفٌ أمام شخص يحمل جلالة العلم وتواضع العلماء وقد رغبت بوصفه بالإنسان تبعًا لتعريف أبو حيان التوحيدي للفظ الإنسانية إذ قال في البصائر والذخائر: والمروءة هي الإنسانية.

وأقول مذيلًا على كلام التوحيدي: لو كان للمروءة فمٌ ناطق وشبح متحرك ما كادت تتمثل إلا في العلماء الربانيين وهذا على سبيل القطع واليقين لا يرتاب فيه إلا من زهدت نفسه بقيمة العلم وكان عبدًا لهواه أو جهله فيا خسارة نفس تملكت عقلًا سليمًا ونظرًا صحيحًا وما أفنتهما في تحصيل العلوم. وليس كل من تسمى بعالمٍ حقيق بهذا اللفظ إذ كم من عالم ساقط المروءة عديم الأخلاق عبد ذليل للدراهم والشهرة فسدت بوصلته وانتكست فطرته عن البغية من تحصيل العلوم فجعله علمه طوعًا للجماهير أو طوعًا لحاكم حقير فيحركه الجماهير والحاكم ككرة القدم يقذفونه يمينًا ويسارًا ولكن فرقه هنا عن الكرة أنه يدري بأنه متجه نحو رضاهم خاضعٌ لهم، أما العلماء الذين يليق بهم هذا الوصف الشريف الذي تواترت الآيات والأحاديث بذكر مقامهم في الدنيا والآخرة وأجمعت البشرية على خيريتهم وبركتهم التي تحل حيثما حلوا ممن ترفعوا عن المناصب ولفظوا الدراهم وكان همهم واحد، وهو رضا الإله الواحد، فهم يدركون من تحصيل العلوم أن الله هو الذي لا يخيب المرتكن عليه ويكون لسان حالهم أشد من مقالهم.

وكلمة المروءة كلمةٌ واسعة تعددت تعاريفها فجميل الخُلق قديم الخَلق بين العالمين ولا زال الناس كلما تقدم عصر بهم انحطت أخلاق وارتفعت أخرى فتعددت تعاريف المروءة:

فقيل: هي صدق اللسان، ومواساة الإخوان.

وقيل: وهي السماحة والسهولة وهي على نوعين: العفو عن الهفوات، والمسامحة في الحقوق.

وقيل: كمال المروءة: الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تدبير المعيشة.

هذه قلة من التعاريف الكثيرة المبثوثة في أمات كتب التراث الذي هو عماد كل حسنٌ على مدى الأزمنة وسأقدم تعريفًا للمروءة في زماننا مختزلًا كل ما قرأت حول تعريف المروءة فأقول وأعود لتعريف المروءة إنها العلماء ومن جملة هؤلاء العلماء أستاذنا الإنسان محيي هلال السرحان ماذا يسع لذهني أن يستذكر أو يجمع من مواقفي الشخصية ومما سمعت عن أستاذنا مما يُجلي إنسانيته الفذة ولكن لعل الله يعذرنا إذ أن النفس لم يكلفها خالقها إلا بما يسعها سبحانه ذو الرحمة الواسعة.

  1. التواضع: يكفيني أن اختزل ما سأكتب في التواضع إنني منذ التقيت الدكتور محيي لقائنا الأول وأنا الذي بعمر أصغر حفدائه أخذ يخاطبني مخاطبة القريب وأنا الصغير الغريب ويناديني بأستاذ وظلت هذه عادته على طيلة اللقاءات يجيب كل أسئلتي بلا ملل وكان بيته كعبةً لطلاب العلم من شتى الأصقاع وهذا معروفٌ مشتهر فمنهم من يأتي قاصدًا مصادر مكتبته ومنهم من يأتي قاصدًا استشارته العلمية ومنهم من يأتي لغرض الاستفادة من حسن سمته فالعلماء مفيدون بمقالهم وحالهم ومن تواضعه أثناء محاضراته في الدورة الأخيرة التي شُرفت بحضورها كان ينادي طلابه المحاضرين بلفظ الأستاذ ويشيد بإجاباتهم بل وينصت لمحاضراتهم كأنه متعلم وفي نهاية الدورة ارتقى مدير دار المخطوطات العراقية السيد د.أحمد العلياوي المنصة وألقى قصيدة في مدح أستاذنا السرحان فما كان من السرحان إلا أن يخبت رأسه تواضعًا.
  2. الكرم: كان أستاذنا حاتمي الكرم ولولا خشية الغلو لقلت أجود من حاتم!

إذ أن حاتم كان يجود ببعضه أما أستاذنا فكان يجود بكله إذ أن العلماء يجودون بعمرهم ووقتهم وصحتهم وكتبهم في سبيل نفع المتلقي عنهم:

إذا جادت الدنيا عليك فجد بها    *   على النـاس طـرا إنها تتقلب

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت  *   ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب

جادت الدنيا على أستاذنا بعدة أمور وجاد بها على الآخرين:

أولًا: مكانته الوظيفية الرفيعة، ولم يتكبر ولم يتعنت في نفع عموم الناس وكان همه النفع العام للجميع ومن دلائل هذا إعانته للدكتور عثمان محمد غريب وهو من المشايخ الأكراد ولا تربطه أي صلة سواء كانت قرابة أو تلمذة بأستاذنا المرحوم فبعد اجتياز الدكتور عثمان امتحان الكفاءة ودراسته ووصوله للسنة التحضيرية لإعداد الرسالة فوجئ بعام 1994 م بقرار من رئاسة الجمهورية يقتضي فصل كل طالب من الأكراد فحار بما يفعل ثم ألهمه الله وهو يسير في باحات جامعة بغداد في كلية العلوم الإسلامية أن يطرق باب مسؤول كبير وهو عميد الجامعة آنذاك الدكتور محيي لعله يكون ترياقًا له فأشار له الدكتور أن يجلب درجات الفصلين من جامعة صدام التي يدرس فيها ويكمل دراسته بجامعة بغداد عنده دون أي طلب من الطالب كصنيع بعض عمداء اليوم ممن يسلب أغلى ما لدى الطالب وهو شرفه مقابل بعض الدرجات.

ثانيًا: علمه، فقد أفاض الله تعالى على أستاذنا الراحل العديد من العلوم والمعارف فأن أردته بالتحقيق فهو شيخ المحققين بلا منازع وإن أردته بالفقه فهو الفقيه الذي هضم المذهب الشافعي والحنفي وإذا أردته في اللغة فهو المصنف فيها وإذا أردته في القانون فهو الخبير بالقضاء في تراثنا فكان كعبةً للطلبة أينما كان تتوارد عليه الجموع تلو الجموع يرتشفون من بحر علمه الغزير ولم يبخل حتى آخر لحظة في حياته المباركة بإفادة الطلبة فكان منزله موئل طلاب الدراسات العليا لسؤاله واستشارته وكان هو المشرف على بعض رسائلهم حتى لو لم يذكر وكان يدرس جماعة من الطلبة في بيته إضافة لأكاديمية الدراسات العليا بباب المعظم إضافة لآخر دورة القاها فجزاه الله عنا خير ما يجزي ابن عن والده.

ثالثًا: كتبه، فما زلت أذكر لقائي الأول معه وكيف ناولني كتابه أصول البحث وتحقيق النصوص وطبقات الحنفية بتحقيقه وكتب عليهما إهداءً بقلمه وكانت هذه عادته مع كل زواره، وزيادةً على ذلك سماحُه بطباعة كتبه في أي دار من دور النشر بشرط مراجعته وطباعة الكتاب على الحال التي يريدها فكان يعتب على الكتبي الشهير الأستاذ أمير الكركوكي إنه جلب وسيطًا من معارف الأستاذ ليصل بينهما للنقاش حول طباعة كتبه وكان أستاذنا يقول لا داعيَ لمثل هذا ولو جاء وحده ما رددته فما نريد إلا النفع للمسلمين وإرضاء الله.

  1. الأمانة والصدق: كان ديدن أستاذنا بكل أحواله التذكير بالله تعالى وأوامره ونواهيه لذلك تجد من أركان التحقيق عنده الأمانة أن يخشى المحقق الله ويدري ما يصنع بما تحت يده فهو مؤتمن على تراث الأمة ومن حسن أمانة أستاذنا إنه في سلسلة المحاضرات التي ألقاها في الدورة الأخيرة تبقى جزء قليل لا يكاد يذكر لم يذكره في المحاضرة فما جائت المحاضرة الثانية إلا وتذكره وأصر على ذكره لإتمام سلسلة الدفق المعرفي.

إلى هنا أعتذر لنفسي التي ضغطتُ عليها كثيرًا لتكتم ما يحترق داخلها لشدة الحزن على فقْد أستاذنا..

وداعًا وعذرًا دكتور محيي لأنني قاطعتك وأنت تتحدث مرة..

وداعًا وعذرًا دكتور محيي لأنني وعدتك بتسجيل لقاء معك في حياتك ولم تسعفني الظروف..

وداعًا وعذرًا دكتور محيي لأنني لم أبكِك بما يليق حزنًا بمصابك..

وداعًا دكتور محيي يا من كنت كالشمس بضيائها والأنهار في جريانها والرياح في نشاطها..

وداعًا دكتور محيي لم يعد صوتك يُسمع في قاعات الدرس.. لم يعد وجهك يضيء دروب طلابك..

وداعًا دكتور محيي تركتَ فراغًا عميقًا في قلوبنا كأننا لم نندب قبلك أحدًا.. تركت في نفوسنا أثرًا لا يمحى..

وداعًا دكتور محيي.

 

——– الحاشية ———-

  • 1. صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص340.
  • 2. في كتابه: تحقيق النصوص ونشرها، ص8.

 

* سلطان صلاح ماجد (باحث في التاريخ مهتم بشؤون الكتب والمكتبات، من العراق)


 

اقرأ أيضًا:

الدكتور الحجي: خاتمة جيل الفاتحين

علماء الأندلس: الشريعة واللسان  

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى