واقعة قبل أكثر من عشر سنين
واقعة قبل أكثر من عشر سنين
دخلتُ مكتبةً كبيرة فوجدتُ فيها رجلًا كبيرًا تجاوزَ الثمانين عامًا.. يتكلم بحُرقة مع صاحب المكتبة ويعامله عن سعر كتاب “تاج العروس” للزبيدي في طبعة قديمة قيّمة، وكان قد دفع فيها هذا الرجل الثمانيني ربع مليون دينار عراقي، وأخبر صاحبَ المكتبة أنه إذا وافق على هذا السعر فإنّه سيأخذ هذا الكتاب مباشرة بسيارة أجرة إلى شارع المتنبّي ليجلّده تجليدًا يتناسب وقيمة هذا الكتاب قبل أن يضعه بمكتبته العملاقة. فكان أوّل أمري.. أنّني تعجّبت من صنيع هذا الرجل الثمانيني الذي هو في حساباتنا مُقبِل على الله تعالى في أي لحظة من لحظاته، فلماذا يكلّف نفسه في شراء كتاب ويجلده ويقتنيه؟ أما كان الأولى لهذا الرجل أن يحتفظ بماله؟ فكم يريد أن يعيش ليتمتع بكتبه النفيسة؟!
وسرعان ما وقع في قلبي أن هذا الجسد المتهالك تحته روح عظيمة، لا تعرف الكلل ولا الملل، ولا تقيس اللذة بالقياس الذي قسته أنا، فكأنه يقول: لا أبالي كم سأعيش بعد هذا، بل ربما لِاسْتغراقه في العلم والبحث نسيَ عدد سنوات عمره، فتوقفَت ذاكرته على عمر شابٍّ طموح باذل وقته وماله في طلب العلم وتحصيله، ولم يشعر بمرور السنوات التي مرت عليه لانشغاله في العلم.
ذاك هو أستاذنا الكبير والعالم الموسوعي الشهير (محيي هلال السرحان) أحد أقطاب التحقيق في العالم العربي والإسلامي، الذي مَن جلس بين يديه كأنما يجلس بين يدي عبد السلام هارون ومحمود شاكر ومحمد محيي الدين عبد الحميد وأضرابهم من أساطين التحقيق ورواد الأدب وحاملي راية العلم.
وقد فاضت روحه إلى بارئها في يوم ٢٣ محرم ١٤٤٦هـ، الموافق: 29/ 7/ 2024م، بعد أن اصطبغت شخصيته بالكتب والمعرفة، فحقًا إنه مكتبة تمشي على الأرض، وحقًا إنه المكتبة الشاملة البشرية.
وسبحان من له الدوام، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
د. محمد ياسين الراوي
(عضو رابطة علماء العراق)
____________________________________________________________________
اقرأ أيضًا: