العدد السادسمقالات

شيخ المحققين في بلاد الرافدين محيي هلال السرحان

شيخ المحققين في بلاد الرافدين
محيي هلال السرحان

محيي هلال السرحان

الكتابة عن سِيَر الأَعلام وتراجمهم، من رجال الأَدب والفكر والعلوم الشرعية وسائر نتاجاتهم المتميِّزة بالتأصيل والتجديد، ليست من الأمور السهلة، فهؤلاء لهم مكانتهم في التاريخ، وهم القادة الحقيقيُّون بعد الأَنبياء والرُّسل والحكماء في موازين التقدير والتكريم، والكتابة عنهم تعطي انطباعًا صافيًا في ما قدموه من نتاجات بديعة وآثار مفيدة للبشرية، فضلًا عن كونهم يمثِّلون الصفوة المتفوِّقة والراقية من بين جماهير صفوف الأُمة في العطاء الخالد والعمل الفكريِّ المتفتِّح ضمن ضوابط الأُسس المشروطة بالتفاني، والإِخلاص، والاستمرارية المتواصلة الراكضة تحت راية: إِنَّ البقاء والخلود للعِلم والعلماء ، وما عدا ذلك فيذهب هباءً منثورًا، والآيات الكريمة والأَحاديث الشريفة كافيتان لتعزيز استدلالنا مع مفاهيم ودلالات معنى الآية الكريمة: {إِنَّما يخشى اللهَ مِنْ عبادِهِ العُلماءُ}، والأستاذ العلَّامة الدكتور محيي هلال السرحان هو أَحد هؤلاء العلماء في عصره ، فهو شيخ المحقِّقين العراقيين، ومن أَبرز أَعيان آل عقيل نسبة إِلى عقيل بن أَبي طالب الهاشميِّ القرشيِّ رضي الله عنه (حسب الشجرة المصدَّقة من هيئة الأَنساب العربية في بغداد).

مولده ونشأته:

وُلِد الدكتور محيي هلال السرحان في محافظة صلاح الدين في قضاء تكريت سنة (١٩٣٢م) ونشأ وترعرع وسط أُسرة محافظة تنعم بالإِيمان بالله سبحانه وتعالى، وتسير على منهج خاتم أَنبيائه ورسله سيّدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، تلقَّى تعليمه الأَوّليَّ في مدرسة تكريت الابتدائية سنة (١٩٤١م)، وأَتمها سنة (١٩٤٦م)، وأكمل دراسته المتوسطة والإِعدادية في سامراء سنة (١٩٤٦-١٩٥١م)، ثمَّ تعيَّن موظفًا بسيطًا سنة (١٩٥١م)، واستمرَّ إلى سنة (٢١٩٠٤م) في المحافظة بابل على ملاك دور المعالي ومعاهدهم.

دراسته الأكاديمية:

ثمَّ رفعته الرغبة في إِكمال دراسته به فاستقال من وظيفته لإكمال الدراسة سنة (١٩٥٥م) ملتحقًا بكلِّية الشريعة في بغداد سنة (١٩٥٥- ١٩٥٩م) فاجتاز جميع مراحلها بدرجة (امتياز) وكُرِّم على ذلك. عُيِّن مدرِّسًا في الكوت سنة (١٩٥٩م) ثمَّ في بعقوبة سنة (١٩٦٢م) ثمَّ تفرَّغ للدراسة في معهد الدراسات الإِسلامية العُليا التابع لجامعة بغداد بإِجازة دراسيَّة سنة (١٩٦٧م) لنيل درجة الماجستير في الشريعة الإِسلامية في الفقه المقارن، برسالته الموسومة (أَدبُ القاضي للماورديِّ المُتوفَّى (٤٥٠هـ) دراسة وتحقيق) وهي أَحد أَجزاء كتابه (الحاوي الكبير في فروع الفقه الشافعي)، فحاز على درجة الماجستير بمرتبة (امتياز)، ولأَجل تقويمها قبل مناقشتها ومن ضمن الإِجراءات قيمة لضمان الجودة أرسلت رسالته إلى جامعة الأزهر الشريف في مصر عن طريق السلك الدبلوماسي، ومن ثم إلى كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر حسب الاختصاص، ممَّا أَدَّى إِلى تأخير مناقشتها زمنًا طويلًا، فضلًا عن سعة موضوع الرسالة، فالنصّ المحقَّق (٥٥٠ ورقة) أَي (١١٠٠ صفحة) ما عدا صفحات الدراسة البالغة أكثر من (٣٠٠ صفحة) والتي أَثنى عليها الخبراء حينما وصلت تقاريرهم لتناقش في بغداد سنة (1970م) والتي نال عليها الباحث شهادة الماجستير في الشريعة الإِسلامية بدرجة (الامتياز).

وبعدما حصل الباحث على شهادة الماجستير استقدمه وزير التربية وكان آنذاك أُستاذه المرحوم الأُستاذ الدكتور أَحمد عبد الستار الجواري الذي كان عميد كلية الشريعة قبل تولِّيه الوزارة؛ وذلك للعمل في المديريَّة العامَّة للشؤون الفنية باحثًا علميًّا فيها، وقد بذل جهدًا في رفع مستويات مناهج اللُّغة العربيَّة والتربية الإسلاميَّة للشكوى القائمة من الكتب المنهجيَّة فيها. فبذل ما في وسعه لتقويم الكتب المنهجية وتنقيحها، كما كلَّفه بضبط محاضر لجنة الأُصول في اللُّغة العربيَّة في المَجمَع العلمي العراقي سنة (١٩٧٢م) فالتحق بها، ولما أَبداه من النشاط في هذه اللّجنة اختير عضوًا أَصيلًا فيها سنة (۱۹۷۳م) وبقي فيها إِلى سنة (۱۹۹۳م). ولشدَّة حرصه على إِكمال دراسته قدَّم أَوراقه عن طريق السلك الدبلوماسي ليواصل دراسته العليا في الشريعة الإِسلامية – الفقه المقارن في كلِّية الشريعة والقانون في جامعة الأَزهر بعد حصوله على درجة الماجستير للمرَّة الثانية في الشريعة الإِسلامية – الفقه المقارن في كلِّية الشريعة والقانون في جامعة الأَزهر في امتحانات معادلة الشهادة سنة (۱۹۷۴م)، ثمَّ تمكَّن من إِكمال أُطروحته الموسومة (أَدب القضاء في الفقه الإِسلامي مع تحقیق کتاب أَدب القُضاة لابن أَبي الدم الحمويِّ الشافعيِّ المُتوفَّى (٦٤٢ه/ ١٢٤٤م)، وكانت بإِشراف المرحوم الشيخ الأُستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق، ومن بعده المرحوم الشيخ الأُستاذ الدكتور محمد مصطفى شحاته رئيس لجنة الفتوى في الأَزهر الشريف، ونوقشت في يوم الخميس 24 / 2 / ١٩٨٧م، ونالت مرتبة الشرف الأولى.

ترقياته العلمية:

تمَّت ترقيته إِلى مرتبة أُستاذ مساعد اعتبارًا من تاريخ 14 / 6 / ١٩٨٢م، ثمَّ نُقل إِلى كلية الآداب بجامعة بغداد إِلى كلية الشريعة في الجامعة نفسها سنة (1985م) فدرَّس فيها.

ونُسِّب لتدريس اللغة العربية والعلوم الإِسلامية في كلِّيات عديدة في الجامعة نفسها لسنوات عديدة منها: كلية التربية والآداب، وأَكاديمية الفنون الجميلة، وكلية الأَمن القومي، وآداب الجامعة المستنصرية، وغيرها. وذلك في مواد الشريعة، واللغة العربية، وتحقيق المخطوطات. حاز على شرف عضوية اتِّحاد المؤرِّخين العرب، ثمَّ اختير ليقوم بمهام المعاون العلمي لكلِّية الشريعة في بغداد، ثمَّ عُيِّن عميدًا للمعهد الإِسلامي العالي لإِعداد الأَئمة والخطباء سنة (۱۹۸۹م). مارسَ التدريس في كلية الآداب بجامعة بغداد، وكلية الشريعة، وتولَّى منصب المعاون العلمي فيها، ثمَّ عُيِّن وكيلًا لعميده ، ثمَّ عميدًا للمعهد العالي لإِعداد الأَئمة والخطباء التابع لوزارة الأَوقاف والشؤون الدينية سنة (۱۹۸۹م). نال مرتبة الأُستاذية بدرجة (بروفيسور) اعتبارًا من تاريخ (2 / 9 / 1990م)، ونُقل إِلى جامعة صدام للعلوم الإِسلامية المُسمَّاة الآن (الجامعة العراقيَّة) للقيام بمهام رئيس قسم الفقه وأُصوله، بدرجة عميد الكلية لسنة (١٩٩٠م) ثمَّ أَتبع ذلك بالقيام بمهام رئيس الجامعة نفسها وكالة لثلاثة أَشهر وذلك سنة (۱۹۹۱م).

اهتمامه بالكتابة والتحقيق:

كان الأُستاذ الدكتور محيي هلال السرحان كثير التأليف للكتب وتحقيق المخطوطات، وكتابة البحوث العلمية والمقالات الصحفية، ومن ذلك قيامه بتحرير صفحة (الدِّين والتراث) في جريدة العراق بصفحة كاملة كلَّ أُسبوع على مدار عشر سنوات (۱۹۸۹-۱۹۹۹م)، ومثلها في ملحق مجلَّة صوت الطلبة لأَربع سنوات، فضلًا عن البحوث العلميَّة التي نشرها في مجلَّات عريقة كمجلة (المورد)، ومجلَّة (البحوث العلميَّة)، ومجلَّة (الرسالة الإِسلاميَّة) حتى شغل منصب مدير التحرير فيها إِلى جانب وظيفته طيلة سنوات عديدة، وكذلك مدير تحرير مجلَّة الشريعة والقانون، ومدير تحرير مجلَّة كلِّية الحقوق بجامعة صدام، كما اختير عضوًا في هيئة (ملتقى الرُّواد) سنة (۱۹۹۳م)، ولكثرة نشاطاته المتنوعة اختير عميدًا لكلِّية العلوم الإِسلامية بجامعة بغداد في (27 / 11 / 1993م) حتى سنة (١٩٩٦م). کُرِّم باعتباره (الأُستاذ الأَول) في كلِّية الحقوق، وكُرِّم بمنحه لقب (الأُستاذ المُتمرِّس)؛ لكثرة نشاطاته العلمية؛ وتأليفه الكتب والبحوث العلمية، وتحقيق المخطوطات بعد نيله مرتبة (الأُستاذية) وذلك في 82/ 8/ 2001م.

ثمَّ مُدِّدت له الخدمة بعد تجاوزه السنَّ القانوني للتقاعد فنُقل إِلى مؤسسة الاِحتياط القريب التي يبقى فيها الأُستاذ متمتِّعًا بوظيفته وراتبها طوال عمره، وكان ذلك في (٢٠ / ١١ / ٢٠٠١م) للاستفادة من علمه وتجاربه. ثمَّ عمل محاضرًا في عدد من الكلِّيات منها كلِّية العلوم الإِسلامية-جامعة بغداد، وكلِّية الإِمام الأَعظم الجامعة، وكلِّية العلوم الإِسلامية-الجامعة العراقية. وعُيِّن رئيسًا لقسم المخطوطات في معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا سنة (٢٠٠٥م) إِلى سنة (٢٠٢٤م)، استمرَّ بالعمل مشرفًا على عدد كبير من الرسائل والأَطاريح لطلبة الدراسات العليا من طلبة الماجستير والدكتوراه في عدد من الجامعات منها: (كلية الحقوق- جامعة النهرين، كلية العلوم الإِسلامية- جامعة بغداد، كلِّية الإِمام الأَعظم الجامعة، الجامعة العراقية، كلِّية ابن سينا للدراسات الإِسلامية، كلِّية التربية الأَساس- الجامعة المستنصرية، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، الكلِّية البريطانية في العراق، الكلِّية المفتوحة في الأَنبار).

وعُيِّن تدريسيًا في الأَكاديمية العُليا للدراسات العلميَّة والإِنسانيَّة سنة (٢٠٠٧م) حتى سنة (٢٠٢٤م)، وتقلَّد منصب العميد للأَكاديمية العُليا للدراسات العلميَّة والإِنسانيَّة سنة (٢٠١٩م) حتى سنة (2024).

كرَّم الأُستاذ الدكتور محيي هلال باختياره أَحد كبار العلماء العشرة من الجيل الأَول في العراق من قبل (رابطة أَئمة وخطباء العراق) في إستانبول سنة (٢٠٢٢م). وفي سنة (٢٠٢٤م)

مناصبه:

تقلَّد الأُستاذ الدكتور محيي الهلال مناصب عدَّة منها عميد الأَكاديمية العليا للدراسات العلميَّة والإِنسانيَّة ورئيس قسم المخطوطات بمعهد التاريخ العربي والتراث العالمي للدراسات العليا، وعضو اتِّحاد المؤرِّخين العرب، وعضو الجمعيَّة التاريخيَّة، وعضو الاتِّحاد العام للأُدباء والكُتَّاب في العراق، وعضو هيئة التحرير في مجلَّة الرسالة الإِسلامية التي تصدرها وزارة الأَوقاف والشؤون الدينيَّة في جمهورية العراق، وعضوًا دائمًا في منظَّمة المؤتمر الإِسلامي الشعبي، ومحاضرًا ومشرفًا على مجموعة من طلبة الدراسات العُليا في جامعات مختلفة في عموم العراق، ومدير التحرير في مجلَّة الشريعة والقانون، وخبير معجم الأَسماء العربية المعاصرة الذي تقوم به جامعة القاهرة، وعضو هيئة التحرير في مجلِّة كلِّية الشريعة، وبعد تفانية بالعمل الدؤوب، ولكونه أَحد علماء العراق، كان يقصده الطلبة من جميع أَنحاء العراق إِلى الأَكاديمية وإِلى بيته أَيضًا وإِلى حين وفاته يوم الإِثنين الموافق (29 / 7 / 2024م).

محبته للعلم وأهله:

كان الأُستاذ الدكتور محيي هلال السرحان محبًّا للعِلم والعلماء، ومحبًّا لكلِّ من يحبُّ العِلم ويجتهد للوصول إِلى أَعلى المراتب العلميَّة لما للتعليم والعمل به من أَهمية قصوى على حياة الفرد والمجتمع، إِذ يعود عليها بالخير الكثير فيصبح الفرد المتعلِّم أَكثر مكانة بين غيره من أبناء المجتمع، لذلك فإنَّ الدكتور محيي -رحمه الله- ربَّى أَبناءه تربية علميَّة واجتهد كل الاجتهاد لكي يَصِلوا إِلى مكانة علميَّة عالية، فمن أَبنائه من وصل إِلى مرحلة الدكتوراه، ومنهم من يجتهد للوصول إِليها، مع تشجيعه الكبير ماديًّا ومعنويًّا لهم ولأَحفاده للوصول إِلى أَعلى المراتب العلمية، فضلًا خالصًا لوجه الله تعالى.

إضافة إلى الباحثين الكثر الذين كانوا يزورونه للانتفاع من مكتبته الخاصة عند إِجراء بحوثهم العلمية، وبدوره -رحمه الله- فتح لهم أَبواب مكتبته مستبشرًا ناصحًا متعاونًا معهم مساعدًا لكلِّ من يريد الاستفادة من كتبه الخاصَّة فضلًا عن طلبة العِلم الذين يأتون إِليه من محافظات العراق المختلفة للاستفادة من نصائحه القيِّمة وإِرشاداته وتوجيهاته التي يستفيد منها الطلبة الوافدون أَيَّما استفادة خالصًا لوجه الله تعالى.

رحم الله نجمًا كان يضيء في سماء العراق.

 

د. إیمان عمر السرحان

(أكاديمية عراقية)


 

اقرأ أيضًا:

ستعلو مآذن الأندلس قريبا

أشواق اللقاء

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى