العدد السادسمقالات

مساحة الفقد ثلمة لا تسد

مساحةُ الفقد ثلمةٌ لا تسد

محيي هلال السرحان

أستاذنا الحبيب، عرفتك في ثنايا الكتب، وفي طيات المقالات قبل أن أراك، فقرأت لك وعنك الكثير؛ فزاد شوقي لرؤياك… كان ذلك منتصف التسعينات.

فعشت سنينًا أمني النفس باللقْيا

ومالي إلا سوف والصبر مسليا

حتى إذا مضت تلك السنون، واشتد العود، تجرّأنا على أن نتطفل على موائد الكبار أمثالكم.

ساقنا القدر إلى التقديم للدراسات العليا (الماجستير)، وبعد سهر ليال، وجهد جهيد، حقق لنا الباري ما نريد؛ فتم قبولي عام (٢٠١٠م) وجاء يوم المباشرة فذهبت وملئ قلبي أمل بأن أحظى بلقيا الكبار..

نظرت إلى جدول المحاضرات على لوحة الإعلانات في الكلية، وأنا أجيل النظر في المفردات وأتعرف على التدريسيين، وقعت عيني على اسم أستاذ لطالما طرق سمعي ولم أرَ شخصه، إنه العلامة محيي هلال السرحان / أستاذ أصول البحث..

يا فرحتاه..

في تلك اللحظة بدت نواجذي من ابتسامة عريضة ربما لا حظها من وقف بجواري من الطلاب..

قلت لنفسي حينها: أنا محظوظ وقد منحني الله هذه الفرصة للأخذ والتلقي عن هذا الجهبذ.

رجعت يومها وأنا مغمور فرحا باللقاء الموعود في اليوم التالي..

وجاء يوم الدوام الفعلي وتلَقِّي المحاضرات..

حانت ساعة أصول البحث..

دخلنا القاعة نترقب دخول الأستاذ..

فدخل علينا أستاذ في متوسط العمر، قلبي حدّثني أنه ليس هو أستاذي الموعود. جلس على المنصة وبدأ يعرفنا بنفسه ومما قال: كان مخططًا أن يدرسكم الأستاذ الدكتور محيي هلال السرحان، ولكن حالته الصحية تدهورت واعتذر عن التدريس، فكلفتني العمادة بتدريسكم.

ومضت أيام وأنا أبحث عن أستاذي الفاضل وأسأل.. وكثيرًا ما تحسست  الاستغراب ممن أسألهم في إدارة القسم لكثرة ما سألت..

ولكن بلا جدوى.. لم يكن مقدَّرًا لي اللقاء..

ومضت سنوات تلو سنوات.. وأخذتنا الظروف في طياتها.. حتى إذا أكملت الدكتوراه بعد كد وجهد.. وتملكتني فكرة تحويل أطروحتي الموسومة (الآراء الأصولية عند المعاصرين في مباحث الحكم الشرعي / دراسة وصفية نقدية) إلى كتابٍ لعلّي أستدرك ما فاتني من البحث فأنقّح وأهذّب..

كانت تلك الفكرة بحاجة إلى بوتقة مناسبة وقالب ملائم.. وقلت لا بدّ من تقديم علميّ رائق يناسب مستوى العلماء الذين درسْتُ آراءهم الأصولية وهم بحسب البلدان:

من مصر كل من: الشيخ محمد الخضري بك، والشيخ محمد عيد المحلاوي، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد سلام مدكور.

ومن العراق: الشيخ عبد الكريم الدبان، والشيخ حمد عبيد الكبيسي، والدكتور عبد الكريم زيدان، والدكتور مصطفى الزلمي.

ومن تونس: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

ومن موريتانيا: الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي.

ومن سوريا: الدكتور وهبة الزحيلي.

ومن المملكة العربية السعودية: الدكتور عبد الكريم النملة.

عليهم جميعا شآبيب الرحمات.

ولما كان هؤلاء هم أساطين الفكر الإسلامي المعاصر، كان لا بد أن يقدم لهم من هو في مصافهم، فمن الله علي بالتواصل مع أستاذي.. فوجدت عنده التواضع الجم وسمت العلماء العاملين المخلصين فأحاطني بالنصح والتشجيع وملأ روحي فألًا.

و وعدني بكتابة تقديم للأطروحة، ثم أخيرًا كان اللقاء.. فاكتحلت عيني برؤيا أستاذ الأساتذة وسيد الباحثين.. كان كأجمل ما يكون لقاء بين طالب علم متحمس وأستاذ مخضرم بارع..

المناسبة: الملتقى الأول للشباب الدعاة.

المكان: الدوحة الأعظمية المباركة.. في رحاب إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان -رضي الله عنه-.

حين التقيت بأستاذي لم أعرف كيف أحيطه حبًا وابتهاجًا وغبطة وسرورًا.. أعطيته نسخة من الأطروحة لكي يعاينها.. ولا أكتمكم سرا إذا اعترفت أن قصة التقديم للأطروحة كانت ذريعة.. نعم ذريعة مشروعة للاحتكاك عن قرب بهذا الحبر والبحر.. لأغترف منه علما وخلاصة تجارب.. وكثيرا ما تذرعت بسؤال أو استفتاء لكي أحظى بلقيا الكبار.. شأني شأن أولئك الذين كانوا يحتالون للأعمش لكي يحدثهم حديثا واحدًا.. لينالوا  علوًّا في الإسناد..

كان اللقاء في أجواء محفلية.. تخلله سؤال هذا وذاك.. فلم يُشبِع نهمتي.. ولم أرتوِ من ذلك النبع الصافي.. فطلبت من أستاذي أن يتكرر اللقاء ولكن في مكان يتيح لي الحديث والسؤال أكثر وأكثر.. وإكرامُ العالم سؤاله كما قال الأوَّل..

وعدني أستاذي بلقاء آخر وقال لي: يمكنك زيارتي في الأكاديمية العليا للدراسات العلمية والإنسانية.. وأعطاني العنوان..

فذهبت إليه ووجدت عنده أحد أساتذة جامعة تكريت.. وبين يدي أستاذي مخطوطة وفي يده عدسة مكبرة وهو منكب على تلك المخطوطة.. ينبشها حرفًا حرفًا.

محيي هلال السرحان

يحقق… ويصحح التصحيف إن وجده.. ويشرح الغامض إن صادفه..

جلست عنده ما يقارب الساعتين ولم أشعر بها.. وليتها كانت أيامًا وسنين..

ناولني التقديم الذي كتبه لأوّل مؤلَّف لي سيبصر النورَ قريبًا.. وكأنه ناولني إكسيرَ الحياة..

فيا محيي العلومَ أحييت قلبًا

قد عانى طول انتظار حتى رآكا

فيـا سـعـده وطـوبى لـه

بأن نال قبسًا من سناكا

ثم توالى التواصل مع صاحب الذكرى.. وفي كل مرة يكلؤني بتوجيهاته الرشيدة ونصائحه السديدة..

حتى جاء يوم الفراق وما كنت في هيأة جلَد أو تحمُّل وقد طرق سمعي خبر وفاته.. لقد مات من أحيا التحقيق للعلوم، لقد فارقنا من أنارَ الفهوم.

غير أن عزاءنا فيه أنّ آثاره باقية، كتب الله لها القبول، وتلامذته يحملون فكره النير، ويستضيئون به في تحصيلهم العلمي.

فأسأل الله العلي القدير أن يرحم أستاذنا وحبيبنا شيخ المحققين ونبراس العارفين، وأن يجعل كل ما نشره من علم شاهدًا له يوم القيامة، وأن يحشره في زمرة العلماء والفقهاء تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

د. بشار هاشم الشبلي
(باحث في الفقه الإسلامي وأصوله، من العراق)

_________________________________________________________________________

اقرأ أيضًا:

السموم في حلة الفن.. ولا فن

شاهد على إحدى معارك الأستاذ العقاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى