سأموت وفي نفسي شيء من قصيدة النثر
سأموت وفي نفسي شيء من قصيدة النثر
يبات علي فايد*
بقدر ما استهلك النقّاد أحبارهم سعيًا وراء الجديد، أيًّا كانت أسباب السعي هذي، كأن يركبوا الموجة، خوف عدِّهم في زمرة المتزمتين السلفيين، أو كأن ينفقوا ما أنفقوا من جهد ووقت مجاملة، ومحاولة للنهوض بقصيدة النثر (القاعدة المقعدة) بقدر ما كان العجز هو المحصلة النهائية لهذا الجهد المبذول في غير محله.
قديما قال يسوع المسيح (عليه السلام) في إنجيل متى (الإصحاح 5 الآية 13): “أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟“.
والملح كان لحفظ الأطعمة، وما يزال في الكثير من المناطق يستخدم في حفظ اللحوم، كالتركين والفسيخ، وكانت مقولة المسيح عليه السلام، أن إذا فسد الملح، فليس ما يقوم مقامه ليحفظ الأطعمة.
وأنا أقول هذا للنقاد الذي أرهقوا أنفسهم، وكلفوها فوق طاقتها لإقناعنا بالشعر هذا، بالله عليكم، يا ملح الأرض لا تفسدوا في طبيعتكم.
برأيي إن أسباب خمود جمرة قصيدة النثر كثيرة، منها:
أسباب موسيقية:
– خلوها من الإيقاع البسيط المقبول لدى الأفئدة، والمعهود حفظا، كما هي عليه كل الأشعار بكل العالم، سواء كانت هدهدات أطفال كأن تقول:
“هو دنا يا هودنا
كان شبعتا يا جنا”
وغيرها من أناشيد الأطفال.
– خلوها من السجع غير المتكلف كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ“.
– خلوها من القافية التي تسهل الحفظ بالتوقف عليها، ونقرها على الذاكرة، حينا بعد حين تحفيزا.
– خلوها من اجتماع الكلام حزما حزما، يسهل حفظها معا، وأعني به البيت الشعري، أو السطر الشعري المتوقع بصورة رتيبة.
أسباب منطقية:
ومعلوم خلو قصيدة النثر من المنطق، ومفاجأتها المتلقي بكل ما هو فج وغير منطقي، وهم يرون فيه نوعا من التنبيه للعقل، والحق إن خلو النص من المنطق مما يصعِّب حفظه، فأنت حين تقول مثلا:
ألقاه في اليم مكتوفا وقالَ له
إياك إياك أن …
كلنا يخطر ببالنا ألا يبتل الملقى هذا بالماء، فكانت تمامة البيت:
“تبتل بالماء“
وأنت حين تقول:
إن السفينة لا تجري على…
فإن المنطق يدعوك لتقول “اليبس” تمام البيت.
ويمكن أن نقول هذا في القافية وضرورتها في تثبيت الحفظ.
وعلى الرغم من ادعاء أصحاب قصيدة النثرة ضرورة المفاجأة للحفظ، فأنا أتحدى أيًّا من كَهَنَة قصيدة النثر أن يقرأ علينا نصًّا من النصوص لكبار رجالات قصيدة النثر غيبًا. لن نجد رجلا يحفظ النثر، بل لا يُستطاع، إلا أن تبذل المستحيل للحفظ حتى تدحض حجتي.
أسباب تتعلق بالروح والتخطيط وبذل الجهد لإخراج عمل مصمم بصورة علمية:
– خلو قصيدة النثر من وحي الطبع البريء، كما يصفه عميد اللغة العربية د. طه حسين، وذلك إن التكلف ظاهر في قصيدة النثر، وليس أدل من هذا أن معظم كتابها يصرون على ضبطها، حرفا حرفا.
– خلوها من التخطيط لها، ووهمٌ ادعاء السجيَّة عندهم، والانطلاق بدون قيود، في إيهام للمتلقي بأنها مبرأة من كل صنعة، وهذا الوهم جعل أصحاب هذه القصيدة يمضون فيها دون تفكير منطقي، أو تخطيط مسبق لما يراد لها بلوغه؛ فالقصيدة هي التي تسوق الكاتب، وهي التي تتحكم فيه لا هو، وكاتب قصيدة النثر (غالبا) يقع على مفرداتها، وجملها، هكذا دون أن يكون لها وقوع مسبق بالقلب، ودون إشغال للعقل بالفكرة سلفا، وهذا غير مقبول علميا، وصناعة، وليس ثمة من ينكر أن الشعر صناعة، وتخطيط، فأنت لا تستطيع أن تنجز سيارة بجمع الحديد والزجاج والمطاط، وغيرها من مكونات السيارة دون ترتيب، وتفكير، وربط الأسباب ببعضها، كما لا تستطيع أن توجد نتيجة لفحص طبي، دون اتخاذ الأسباب المنطقية للوصول إلى النتيجة المرتجاة.
ختاما، هناك من سيقول لي: ومن قال لك بخود هذه القصيدة، إنها أكثر انتشارا، وأعلى شأنا في وقتنا الحاضر، وأنا أقول له: هكذا النثر دائما أكثر انتشارا من الشعر، وإن كثرتها لدلالة على عدم شعريتها، ألا ترى أن كل الناس تقول النثر، ولكن قل من يقول الشعر المعروف.
سأموت وفي نفسي شيء من قصيدة النثر.
*يبات علي فايد (شاعر وكاتب وناقد، من السودان)
أقرأ أيضًا: