العدد السادسمقالات

السموم في حلة الفن.. ولا فن

السُّموم في حُلّة الفنّ.. ولا فنّ
(عن أبي قيس وتلميذه)

حسين عدوان*

تفاجأتُ حقًّا حين ظهرت لي في وقت واحد مجموعة من المنشورات التي تحملُ أبياتًا على البحر الكامل من قافية اللام فيها حمولة لا تُحتمَل من المعاني الطائفية والقضايا البغيضة الّتي أتعبنا بها رجال الدين والسّاسة.

ولم يأخذ مني الأمر كثيرًا حتى عرفتُ جذرَ المسألة فخبَت جذوة المفاجأة؛ إنه أبو قيس محمد رشيد (الطائي سابقًا) قد نشر أبياتًا “طائفية” لشاعر من “تلاميذه” فيها تناول للخلاف بين الصحابة ومظلوميةِ الزهراء، فاندفع عدد غير قليل من الشعراء و”أشباه الشعراء” و”غير الشعراء” ليردّوا لا على التلميذ وحده، بل على الأستاذ الذي وصف أبيات تلميذه بأنها من “الطراز الأول” في التعبير عن مذهبه.

أما أبو قيس فلم أتفاجأ لأنه فعل ذلك؛ ذلك لأنني توقفت عن الإيمان بعلميته منذ زمن وأدركت أنه ينطلق من الهوى والخُيلاء ولا يستطيع توظيف معرفته الجيدة في قضايا الشعر والنقد ليؤسّس لأي شيء ذي وزن يتجاوز معه عتبة “وجبات التواصل الاجتماعي السريعة”، فكان جهده خلال عقود متمحورًا حول شروحات يضعها ويحذفها ومقاطع متبعثرة في كل مكان لا يقوى على تبنيها تمامًا لعلمه بما تفتقده من تأسيس أكاديمي وبما تكتنز عليه من “عجلة” و”تزبُّب قبل الحصرمة” كما عبر أبو عليّ الفارسيّ.

والأهم من ذلك كله أن الرجل لا يمتلك أي لياقة شعرية تجعل منه “أستاذًا” للشعراء؛ ذلك أن فكرة أستاذية الناقد على الشاعر خيالية، والمدارس التي نعرفها هي مدارس قام عليها شعراء نقاد لا نقاد فقط، هذا إذا سلمنا أنه ناقد.

وبعيدًا عن التوقيت البغيض لنشره تلك الأبيات التي تبعث الفُرقة في الأمة وتغذي الصراعات، فقد استوقفتني الأبيات نفسها التي يرى أن جزالتها تبرر نشرها وأنها لشاعر فحل مفلق يقول للناس أن يردوا عليه إن استطاعوا! فلما قرأت الأبيات وجدت فيها من ضعف البناء وترهل التركيب وسوء النظم ما يخرج الكميت ودعبل الخزاعي وكبار شعراء الشيعة ليقولوا لتلميذهم: اسكت فقد أسأت، ولناقده: لا تعد إلى مثلها.

وقبل أن أعلق على تلك الأبيات، أقول إنني أنشر هذا المقال حتى لا تموت قضية أبي قيس الفنية؛ فالقضية “الطائفية” لا تهمّني بأيّ شكل، وهو إذ حذف أبيات تلميذه عن صفحته فقد حذفها بعد ضغط جمهوره عليه والتقريع الشديد الذي تعرض له، لكنه لم يعتذر قطّ عن أي هبوط فنيّ في الأبيات؛ أي إنه يظنّ حقًّا أنها يتيمةُ دهرِها وسمطُ زمانِها، ولم يحذفها إلا ليخرج من زاوية ما فيها من طائفية بغيضة!

فلنعلق على بعض “المصائب” في ثلاثة أبيات نشرها أبو قيس لتلميذه، ولا تدل على ضعف الشاعر بقدر ما تدل على انحدار ذائقة الناقد وهوائيته:

بينا يُوسّد أحمدٌ في قبره * نال الشريعة منهم تبديلُ

فلننسَ أن الضمير في “منهم” يعود على أبي بكر وعمر ونركز على الفعل “يوسّد”. إن حسان بن ثابت في مرثيته العظيمة لجناب النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

لقد غيبوا حِلمًا وعلمًا ورحمةً * عشية علوّه الثرى “لا يوسّدُ”

وصاحبنا يقول إنه “يوسّد”! إن تعبير “لا يوسد” هو التعبير العربي الصحيح عن الفجيعة بالمرثي وعظم المصيبة به، وفي لفظ “التوسيد” من الراحة والهناءة ما لا يستقيم مع رثاء النبي عليه صلوات الله وسلامه، وبيت حسان يفصل المسألة ولا حاجة لمزيد شرح فيها.

طبعًا لا ننسى ضعف استخدام الظرف “بينا” هنا لما فيه من تباعد زمني بين حدث دفن النبي وحدث السقيفة، وقد كان أولى بالشاعر أن يستخدم حدثًا أقرب من الدفن كالتجهيز والتغسيل، أما أن يختار حدث الدفن نفسه فهذا لا يناسب ما ترمي إليه طائفته، وأي مطلع على مسألة دفن النبي سيدرك ما أرمي إليه.

ولنتجاوز الضرورة “أحمدٌ” لأنها جائزة وحسنة، لكن انظروا في البيت الذي يليه:

جعلوا الذنابى في الرؤوس وأوضعوا * من كان رافعَ إسمه جبريلُ

“إسمه”؟ لا أعرف عالمًا بالشعر نص على غير ضعف هذه الضرورة الشعرية وقبحها، وأي ولد صغير تعلم همزات الوصل والقطع ستقطع هذه الضرورة حنجرته في “إسمه”.

لنتجاوز ذلك ونركز على الفعل “أوضعوا”؟ ما معناه؟ هل أوضع هي نفسها وضع؟ ما ضرورة الهمزة هنا وماذا تفيد؟ أوضع هنا خطأ لغوي فادح؛ ف”وضع” هي ضد “رفع” وليس “أوضع”، ودونكم المعاجم. هذا فضلًا عن المساس بمكانة الإمام علي الذي لا أعرف كيف استساغ الشاعر نسبة “الضعة” إليه كرم الله وجهه!

لا أتصور أن تلميذ أبي قيس تعرّض في بيت واحد لأبي بكر وعليّ معًا! فأبو بكر “ذنابى” وعلي “أوضعوا” من قدره على حد تعبير الشاعر ذي الهمزة الزائدة!

في بيت آخر يقول تلميذ أبي قيس:

يبكي على خير النساء ومن لها * نسبٌ وفضلٌ ما دناه رسولُ

الحشو واضح لأي متمرس في الشعر بين “نسب وفضل”، والكلمتان تكشفان عن معاناة في النظم تجعل الشاعر يكرر المتعاطفين في معان متقاربة من دون وجود أي فائدة أو صورة أو معنى جديد.

والأهم في هذا البيت “وما دناه رسول”! الشاعر لا يعاني، بل “يبيض” مع احترامي، ما معنى “دناه” هنا؟ لماذا نُزع الخافض؟ نحن نقول “دنا الشيءَ”؟ ضرورة أيضًا؟ قتلتنا ضرورات يا رجل.

ولم نتحدث عن تنكير “رسول” بما فيها من العموم الذي يشمل حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فنسب فاطمة وفضلها لم يدن منه رسول بمن فيهم الرسول الأعظم! حتى الرسل الآخرون ينتمون إلى النسب نفسه وجلهم من ذرية صالحة من إبراهيم؛ فأي نسب هذا الذي حازته فاطمة وفقده أجدادها! أشك في أن الشاعر يعرف معنى “النسب” في اللغة حتى يغامر في هذه الحماقة!

لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، لكن أنا حزين حقًّا لأن كل هذه الطائفية والإساءات جاءت بحجة “العلو الفني”، والله يعلم أن بين الأبيات والفن ما بيني وبين اللغة المالاوية.

*حسين عدوان (ناقد وشاعر وإعلامي، من الأردن)


اقرأ أيضًا:

قراءة في ديوان محمد عبد الباري (لم يعد أزرقًا)

القاموس المحيط والقابوس الوسيط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى