العدد السادسدراسات

سيرة ابن هشام دراسة مقارنة بين طبعتين

سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة بسيرة ابن هشام
دراسة مقارنة بين آخر طبعتين

سامح عثمان*

صدر مؤخّرًا تحقيق لسيرة ابن هشام عن “شركة إقليد المعرفة” للبحوث والدراسات/الرياض، بتحقيق حسين بن عكاشة بن رمضان، وبإشراف علمي من قِبل الدكتور علي بن محمد العمران، بتاريخ: ١٤٤٦هـ/٢٠٢٤م، وقد قدم الدكتور علي العمران بمقدمة له بتاريخ: ٤/٤/ ١٤٤٤هـ، وذكر في هذه المقدمة كلاما مقتضبا عن بعض الطبعات التي سبقت طبعته فقال: “وقد طبع الكتاب طبعات عديدة بدءًا من سنة ١٢٥٩هـ وهلم جرا، وقد بذلت في بعض طبعاته جهود طيبة، وانتفع الناس بها لحينها، لكن ليس فيها طبعة اعتني فيها بالكتاب العناية اللائقة بأمثاله من أمَّات كتب الفنون؛ بحيث تعقد عليها الخناصر، ويركن إليها أهل العلم وطلاب المعرفة” [ص: 5].

وبعد هذه المقدمة ذكر أنه جمع في عمله هذا عددا من المخطوطات وانتخب منها قائلا: “فجمعنا له عشرات المخطوطات، وانتقينا منها ستا، من أوثقها وأقدمها، فضبط النص عليها، بتقييد الفروق المهمة بين النسخ، وتخريج الأحاديث والآثار تخريجا متوسطا مستوفى مع الكلام عليها صحة وضعفا، وعزو الأشعار… إلخ” [ص: ٦]

ثم كُتبت مقدمة طويلة في قرابة المئة صفحة، ذُكر فيها تعريف بصاحب الكتاب، وبمحمد بن إسحاق وكتابه -أيضا-، وبالمجهود الذي قامت به لجنة التحقيق، وبوصف المخطوطات المعتمدة، وبالطبعات السابقة، وبما يلزم من تعريف، والحق أنها دراسة موعبة وارفة.

ولكن حين اطلعت على الجزء المخصص للطبعات السابقة حصل عندي شك في جدية هذا التحقيق؛ إذ لم تذكر لجنة التحقيق هنا طبعة الأستاذ عادل مرشد والدكتور همام سعيد الصادرة عن دار الفاروق/عمّان(!)، وهذا ما دعا إلى كتابة هذه الورقة النقدية التي سيكون النقد فيها على ضوء الشروط التي وضعتها لجنة التحقيق لطبعة إقليد المعرفة في مقدمتها.

 

*العمل الجماعي في التحقيق:

في ثنايا اطلاعي على أعمال بعض المشتغلين بصنعة التحقيق، أو قراءة المخطوطات، أو إعادة نسخ الكتب ونشرها -سمها ما شئت مع فارق الدلالة بين هذه المصطلحات-؛ أجد أن بدعة العمل الجماعي قد ظهرت بكثرة، ولا يخفى على عاقل أن دوافع هذه الأعمال إما أن تكون مادية، أو أن تكون لجهل في علم من العلوم كعلم الحديث وتخريجه، أو علم النحو أو علم الصرف -وهما علمان مظلومان- أو غير هذه الأسباب التي لا تخفى على من له نظر، ولا أقول أن العمل الجماعي مستحيل، بل إنه وارد حتى عند القدامى الذين يعدون من أساطين هذه الصنعة، مثل الإمام اليونيني حين كان يعرض صحيح البخاري على ابن مالك النحوي، فهذه الحالة كان عبء العلم والعمل يوزع؛ حتى تتضافر الجهود؛ ليكون العمل على أكمل وجه ممكن، وهذا كله يكون مع اكتمال الملكة عند الطرفين وعدم جهل الواحد منهما بفن الآخر؛ ولكن كما يقال: “تفكير عقلين خير من تفكير عقل”، أما الحاصل في واقعنا عند أغلب المحققين اليوم أن يتجشم واحد من الفريق عناء العمل كله أو الجزء الأكبر منه، ومع ذلك تتم كتابة أسماء أناس على الطرة لا ندري ما هو مدى عملها في الكتاب، وماذا عمل كل واحد على وجه الدقة؟ فحين كتب الدكتور علي العمران أسماء أساتذة ومشايخ -مع احترامي وتقديري لهم- كان الأولى أن يكتب على الطرة الخارجية للكتاب: “تحقيق مجموعة من الباحثين”، ثم يُذكر داخل الكتاب -ولو على سبيل العجلة- عمل كل واحد بدقة؛ حتى يعرف وجه الإتقان ومكمنه عند كل واحد من الفريق، وكذا وجه الإخفاق، وبهذا تتمايز الجهود ويعطى كل ذي حق حقه.

ثم إذا كانت مقابلة النسخ مشتركة، والتدقيق اللغوي يقوم به أناس، والمراجعة العلمية لآخرين، وتخريج الحديث لزيد، وتحقيق القراءات لبكر، فأي عمل هذا الذي ينسب إلى شخص واحد؟! أليس سبيل الطعن في مصداقية هذا العمل يقوى مع هذه القرائن؟! الجواب -في ظني-: بلى يقوى.

وقد حصل هذا الخلل أيضًا في طبعة الكتاب التي سبقت طبعة إقليد المعرفة، أقصد طبعة دار الفاروق، فلو أن العمل قام على أساس تقسيم الأشغال بين الأستاذين، لكان أفضال؛ إذ بهذه الطريقة يُعرف جهد كل واحد منهما، و يدفع أي شك قد يساور الباحث في مصداقية نسبة العمل.

 

*الاتكاء على المطبوع في تحقيق المخطوط:

وهذه القضية قد زلت بها الأقدام وعمّت بها البلوى في هذه الصنعة، فإن إعادة تحقيق الكتاب التي اجتهد عليها علماء محققون في تفاصيل العلوم يعد هدرًا لجهودهم، ومن أمثلة ذلك الطبعة الصادرة عن دار الفكر في تحقيق كتاب “دلائل الإعجاز” للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد حقق هذا الكتاب من كان عليمًا بالصنعة النقدية البلاغية، وهو الأستاذ محمود محمد شاكر، فلو اعترض علي معترض قائلًا: إن الكتاب قد حققه الشيخ محمد رشيد رضا قبل شاكر، لماذا لم تعترض على شاكر أيضًا؟! قلت: إن شاكرًا استوفى جميع الضوابط التي تدعو أو تسمح بإعادة نشر الكتاب، وسأذكر هذه الشروط قريبًا، ومن هذه الأعمال -أيضًا- ما كان من إعادة نشر كتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي، فكل الذين جاؤوا من بعد الأستاذين محمد دراز ومحمد الخضر حسين كانوا عالة عليهما؛ والسبب في ذلك أن الأستاذ دراز عالم في الأصول وفي اللغة وفي الفلسفة، فأين ستجد قراءة للمخطوط كقراءته؟! بل إن من بعده كان يفخر أنه يضع تعليقاته وتحشياته على الكتاب، وليس من نظر وقرأ في المخطوط مباشرة كمن استعان عليه بمطبوع، وهذا يهون إذا رأينا بعض من نشر كتاب “الاعتصام” –للإمام نفسه- بعد محمد رشيد رضا واعتمد على الأستاذ رضا اعتمادًا كبيرًا ولم يعز له ذلك الاعتماد!

وما حصل مع كتاب “إعلام الموقعين” للإمام ابن القيم بعد عناية وتحقيق العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد لا يختلف كثيرًا عن الكتب التي سبق ذكرها.

فهذه النشرات المتتالية لكتب قد قام عليها جهابذة كبار، تشكك في علميّة ومصداقيّة هذا الناشر، وتجعل الظن يذهب غالبًا إما لحب الشهرة، أو لمكتسبات ماليّة، والله أعلم بالنوايا.

أقول يجب أن تدرك عدة أمور في هذه الصنعة وتراعى من الناحية العلمية ومن الناحية الأخلاقية الدينية:

أولًا: لا ينبغي إعادة نشر الكتب المحققة إلا إذا وجد بحق داعي إعادة النشر، مثل أن يجد المحقق اللاحق نسخة خطية بخط المؤلف لم يعرض لها المحقق السابق، أو أن يجد نسخة تغير نص المطبوع، أو يكون المحقق السابق رديء القراءة، وهذا لا يكون إلا من الجهل، والقصة التي حصلت للأستاذ محمود محمد شاكر مع طبعة ليدن “لطبقات فحول الشعراء” نموذج تطبيقي لسوء قراءة غالب المستشرقين -فقد كانت قراءة “هِلْ” سيئة؛ لعجمته وعدم تمكنه من فن النقد الأدبي العربي-، أو أن يكون دافع إعادة النشر هو تكميل النقص وتصويب الخطأ كما حصل مع “مسند الإمام أحمد” إذ الشيخ أحمد شاكر لم يكمل المسند، فقام الشيخ شعيب الأرنؤوط والشيخ عادل مرشد ومجموعة من الباحثين بتكميل الكتاب وتصويب الخلل والاحتشاد الجبار لهذا العمل -خصوصًا أنهم من أهل الصّنعة الحديثية الراسخين فيها-، أو أن يكون الكتاب قد فقد فقدًا نهائيًا، ومع هذا فإننا نجد من الناس من تحلى بأخلاق نزيهة مثل الأستاذ محمد زهير بن ناصر الناصر وما عمله من تصوير “لصحيح البخاري”، فلم ينسب لنفسه تحقيقًا أو تعليقًا، وإنما قدّم بمقدّمة وافية ماتعة باتعة للكتاب وأبقاه على ما كان عليه في الطبعة البولاقيّة، وأنا والله لا أعرف صفحة وجه الرجل، إلا أني لمست في عمله الصدق، ولا أزكي على الله أحدا.

ثانيًا: إنّ التّحقيق العلمي للنص لا يكون بنفخ الكتاب وإثقال الهوامش بتعليقات لا تنفع الباحث، أو بعزو لكتب لا داعي لها، فالأصل أن يكون التعليق على نصوص الكتاب الأصلية مما يخدم الكتاب والباحث خدمة مباشرة ورئيسة، وألا تكون من التعليقات التي يحصلها الباحث من الكتب الأخرى بسهولة، فنجد أن العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد -مثلا- يعلق على كتبه تعليقات نفيسة لا تخرج النص الأصلي عن مقصده، ونجد غيره من المحققين الجدد تكون تعليقاتهم على شكل:

“صدق رحمه الله”، “وأنا أقول بمثل قوله”، “هذا في زمانهم فكيف في زماننا؟!”، “وقد رأيت في تلك البلاد أعاجيب كثيرة” وغير هذه التعليقات السخيفة –حقيقة-، والتي لا تفيد الباحث بشيء، ولسان حال هذا المحقق يقول: “أنا وريث محمد بن إسماعيل البخاري”، أو “أنا مجدد هذا الفن”، أو “أنا العالم”!

ومن الأخطاء التي تزيد عدد أوراق الكتاب: إضافة كتاب إليه على شكل:

“كتاب كذا” ويليه “كتاب كذا” أو “معه كتاب كذا وكتاب كذا”…إلخ حتى يصير الكتاب الذي يقع في خمسين صفحة= مجلدين ضخمين أو ما يقارب المجلدين، وهذا يدعو إلى الشك في أخلاق هذا المحقق، وينم عن غايات مالية لا تعود على الأمة بنفع، ولو كان هذا المحقق صادقًا مع نفسه لنشر بحثًا يبين فيه إيجابيات الطبعة الفلانية وسلبيات الطبعة الفلانية، وهذا العمل أقصد كتابة الأبحاث والدراسات مما لا يقوم به إلا الأقوياء من طلبة العلم؛ لما فيه من عناء، ولما يتطلبه من ذكاء، وهو أيضا من دواعي التواضع وعدم التكبر.

ثالثًا: يجب على من أراد الدخول في ميدان قراءة المخطوطات وتحقيقها؛ أن يكون ملما إلماما قويا في علوم الوسائل من: نحو، وصرف، وبلاغة، وعروض، وقافية، وأصول فقه، وأن يكون صاحب خبرة واسعة بمدارس المحققين؛ حتى يتمكن من قراءة هذا المخطوط، ثم يجب عليه أن لا يدخل في تحقيق مخطوط لفن لا يتقنه، فنجد مثلا بعض الذين لا يعرفون نظما من شعر يدخلون في ميدان تحقيق كتب الأدب! أو أن بعضهم يظن نفسه ممسكا بناصية الحكم على الأحاديث، وهو في الواقع مقلد لأحكام غيره، وهذا فيه من الخلل العلمي ما لا يجهله من له أدنى ثقافة في هذه الصنعة.

رابعا: بعض الذين يعيدون نشر الكتب لا يذكرون الفوائد التي استفادوها من المحققين الأصليين، وهذا ما يزيد العمل قبحًا، وهي عادة ضارة لا تجدها إلا عند من يحقق بواسطة المطبوع الذي سبقه، ولا تجدها عند طحاطيح هذا الفن مثل: الأستاذ محمود محمد شاكر، فلو رجعت إلى تحقيقه “لطبقات فحول الشعراء” لوجدته يقول كثيرا: “أفادنيها ولدي الأستاذ محمود محمد الطناحي” أو “دلني أخي محمود محمد الطناحي”، وانظر مثلا فهرس الاستدراكات على “طبقات فحول الشعراء” (ص: 982، 983، 986، 990) وغيرها مما ذكر فيها أصدقاءه وتلاميذه، ومشايخه كالراجكوتي مثلا،

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم   إن التشبه بالكرام فلاحُ.

 

*التعليق على طبعات سيرة ابن هشام عند لجنة الدكتور علي العمران:

ذكرت لجنة تحقيق سيرة ابن هشام الصادرة عن “إقليد المعرفة/الرياض” كلامًا على طبعات الكتاب السابقة، والحاصل أنهم لم يستوفوا الحديث عن جميع الطبعات السابقة، فقد أغفلت هذه اللجنة الحديث عن طبعة دار الفاروق، والتي نشرت في السوق لأول مرة في شهر صفر لعام 1444 للهجرة، الموافق: أيلول لعام 2022 للميلاد، والغريب أن نشرة الدكتور علي العمران كانت في عام 1446 للهجرة، الموافق 2024 للميلاد، في حين كانت المقدمة التي كتبها الدكتور علي العمران على الكتاب في ربيع الآخر لعام 1444 للهجرة، ومن المعروف عن الدكتور علي العمران أنه من أشدّ المهتمين والعارفين بما ينزل في السوق من مطبوعات، ومع ذلك لم يشر إلى طبعة دار الفاروق، ولو إشارة سريعة!

أما بخصوص تعليق اللجنة على طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد وطبعة مصطفى السقا وشريكيه؛ فقد كان تعليقًا مرتجفًا غير متزن؛ لعدم فهم منهج الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وأظهروه كأنه مجرد مدقق لغوي يحسن إعراب الكلمات والجمل، والحق أنه من فرادى الذين يحسنون قراءة المخطوط، ويبرعون في توجيه ألفاظه؛ وذلك لأنه من الإتقان العلمي بمكان، فالرجل ممسك بناصية علوم الآلة، والعمل الذي قام به تعجز عنه مؤسسات معرفية، فهو وحده من يقابل ومن يخرّج ومن يدقق، ويقوم بأعباء التحقيق وثقله وحده.

لقد ذكر الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد منهجه في مقدمة عمله على السيرة، وذكرت لجنة التحقيق ذلك -أيضًا-، ولكن فرق بين ذكر المنهج وفهم المنهج، فقد قال: “وكان أهم ما صنعته في المقابلة الأخيرة أنني قارنت بعض نسخ الكتاب ببعض، فما وجدته من خلاف: فإن كان بزيادة كلمة أو أكثر وكان إثبات هذه الزيادة لا يغير الأسلوب أثبتُّ هذه الزيادات بين قوسين معقوفين هكذا [ ]، وإن كانت الزيادة تغير الأسلوب تركتها ونبهت عليها في التعليقات، وإن كان الاختلاف بتغيير لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة أُثبت أقرب اللفظين إلى المعنى المراد، ونبهت على النسخة الأخرى في الشروح والتعليقات…” [تحقيق محيي الدين عبد الحميد، ص21].

فمن الواضح وضوح الشمس أن العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد أراد أن يقدم قراءة صحيحة تخلو من الاضطراب والتصحيف، وأن تكون بعيدة عن كل ما يشوش الباحث والقارئ من ذكر الاختلافات بين النّسخ، والتي في الغالب تكون اختلافات ساذجة ويسيرة، وغالبًا هي من عمل النساخ لا من اختلاف الروايات في الكتاب.

والواقع أن العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد تنبه لأهمية هذه القضية إلا أنه لم يثبتها في كتابه، واعتذر عن ذلك قائلا: “ولكم كنت أرجو أن يكون من عملي الذي قمت به لخدمة الكتاب؛ المقارنة بين رواياته المختلفة، وبحثها من الجهة العلمية، وبيان إمكان ثبوتها أو تعذره، ولكني لم أجد من وقتي ما أستطيع أن أؤدي فيه هذا العمل الجليل…” [تحقيق محيي الدين عبد الحميد، ص21-22].

فنجد أن الشيخ كان يقظًا جدًا لهذه المسألة، وهو الخبير النحرير في هذا الميدان، فهو قادر تماما على التمييز بين مقارنة النسخ ومقارنة الروايات، وفي المقابل نجد أن لجنة التحقيق لم تخرج في عملها عن هذا النطاق الذي تحدث عنه الشيخ محيي الدين عبد الحميد، أقصد أنهم لم يجددوا شيئا سوى وضع الفروق بين النسخ التي انتخبوها.

ثم إن من الأدلة على عدم معرفتهم بمنهج الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد؛ عيبهم عليه عدم تسمية النسخ التي اعتمدها في تحقيقه [انظر المقدمة، ص77]، وهذا المنهج عند الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد منهج مطّرد في جميع أعماله النحوية والأدبية والحديثية وغيرها، فهو كان يسعى إلى إخراج الكتاب من عالم المخطوطات إلى المطبوعات على منهج القدماء من محققي الإسلام والأمة الإسلامية، وحُق له إذ هو اللغوي البارع والناقد الحصيف والإمام العالم، ثم إن تسمية النسخ أو عدم تسميتها لا يهم كثيرا عند محققي العلم، فهذا مثلا كتاب “دلائل الإعجاز” من الذي يجرؤ على تحقيقه بعد الأستاذ محمود محمد شاكر، ويكون بحشمة عمله، ودقة قراءته؟!

ثم إن اللجنة في المقارنة التي عقدتها بين طبعة الشيخ محيي الدين عبد الحميد وطبعة الأستاذ السقا؛ ذكرت أن التحقيقين “عنيا عناية كبيرة بخدمة النص من الجانب اللغوي [مع تفضيلهم لعمل الشيخ محيي الدين عبد الحميد]، والتاريخي، وتقاربًا في التعليق على النص: بشرح الغريب، وتحديد بعض الأماكن، والكلام على بعض الأسماء والأنساب، ونحو ذلك…” [مقدمة اللجنة، ص78].

وعابت اللجنة أمرين على النشرتين في صلب العمل، أولهما: إغفال جانب التخريج للأحاديث النبوية، وثانيهما: عدم التوثيق الكامل للنقول من المصادر بالجزء والصفحة، مع اعتراف اللجنة للشيخ محيي الدين عبد الحميد بأنه كان يفعل ذلك.

إلا أن اللجنة نفسها سقطت فيما هو أشد وعورة في ميدان البحث العلمي الحديث، وهو عدم ذكرهم لثبت المصادر والمراجع، مما يجعل العمل عرضة للشك في استقلاله العلمي، ويرشح أنه كان عالة على غيره في العمل، وهذا على العكس تمامًا من طبعة دار الفروق؛ فإنه قد ذكر جميع المصادر اللغوية والتاريخية والفقهية التي استعان بها في عمله، مع ذكر جميع المعلومات الخاصة بهذا المصدر، وهذا ينم عن مدى الجهد المبذول في نشرته، أما قضية الفهارس الفرعية في نشرة اللجنة فهو عمل طيب مفيد للباحث، ولكنه عمل فني، ولا علاقة له بالدقة العلمية للعمل، والغريب أن اللجنة جعلت مثل هذه الفهارس من المعايير التي تتمايز بها الأعمال! فقد حكموا بأفضلية عمل السقا وصاحبيه على عمل الشيخ محيي الدين عبد الحميد في هذه النقطة، أي: كثرة الفهارس، وهذه ليست من النقاط التي يحكم عليها في جودة العمل، إنما هي من الخدمات التي تقدم للباحث من المحقق.

أما بخصوص قضية تخريج الأحاديث عند اللجنة القائمة على تحقيق الكتاب فسأتكلم عنها قريبا، ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها هي الأسئلة التي نتجت من نصهم الآتي: “الطبعتان نفع الله بهما نفعا كبيرا على مدار أكثر من ثمانين سنة، إلا أن نسخة السقا وصاحبيه أوسع انتشارا وأكثر وجودا، وقد نفعنا الله بالطبعتين جميعا، وانتفاعنا بطبعة الشيخ محيي الدين أكثر، خاصة في الجانب اللغوي وضبط الأشعار، فجزى الله المحققين لهاتين الطبعتين خير الجزاء، وجعل عملهم في موازين حسناتهم، ورحمهم رحمة واسعة.

وقد خرجت حديثا عدة طبعات، وفيها جهود طيبة، تتفاوت من طبعة لأخرى، لكن لا ترقى أي منها إلى مستوى هاتين الطبعتين” [المقدمة، ص80].

كتبت اللجنة هذا النص تحت عنوان: “طبعات الكتاب السابقة”، والغريب أن العنوان لهذا الجزء من الدراسةكان فضفاضًا؛ فهم لم يعرضوا جميع الطبعات دراسة ونقدًا، فكان الأولى لهم أن يعنونوا هذا الجزء بعنوان يوافق ما فيه على وجه الدقة، إذ الأبحاث العلمية اليوم تقتضي هذا الشرط، وبمعنى آخر أن لا يكون العنوان فضفاضًا، بل إن علماء الإسلام قديمًا كانوا أسياد هذا المنهج القويم، فتجد أن الكتاب عندهم قد يصل عنوانه إلى نحو من ثلاثة أسطر، والغاية من هذا ليس طلب الإطناب والأسجاع ولا المفاخرة، وإنما محاولة التدليل على محتويات الكتاب بكل دقة، وبلا إغراب على المتلقي، فلو كان العنوان: “مقارنة بين طبعة السقا وطبعة محمد محيي الدين عبد الحميد” أو نحو هذا العنوان؛ فهذا أضبط.

وليت أن اللجنة تعرضت لدراسة الطبعتين دراسة وافية، ولكن الحاصل أن دراستهم كانت متلجلجة، فلم يبينوا المنهج المتبع في كلا العملين، بل تعرضوا لهما بلمز مبطن حين قالوا: “الشيخ محيي الدين لم يسمِّ أصوله التي اعتمدها في إخراج الكتاب، بل أطلق أنه راجع نسخًا كثيرة، والسقا وصاحباه صرحوا أنهم اعتمدوا ثمانية أصول -أربع مخطوطات، وأربع مطبوعات- وأعطوا كل أصل منها رمزا، ويكثر في نسخة محيي الدين وجود الكلمات أو الجمل بين قوسين دون تنبيه، ولا شك أن عمل السقا وصاحبيه أوثق وأدق” [المقدمة، ص77-78].

فلم نجد اللجنة أبانت عن منهج الشيخ محيي الدين عبد الحميد في التحقيق، ولم يعتذروا له عن عدم تسمية النسخ التي اعتمدها، وهذا لعدم معرفتهم منهجه، ثم لم نجدهم تعاملون مع نسخة السقا وصاحبيه بصراحة أكثر، فلا يمكن تسجيل اعتمادهم على نسخ مطبوع على أنها مثلبة في عملهم؛ حيث أنهم بينوا هذه المطبوعات التي رجعوا إليها، ولم يلفقوا عملهم بها، ثم إن المطبوعات التي اعتمدوها هي في واقعها ثمينة؛ لأنها في غالب الأحيان تعتمد على نَسْخ المخطوط لا على تحقيقه، وهذا واقع في أغلب الكتب العربية الصادرة عن المستشرقين وعن الطبعات القديمة لمطبعة بولاق، إلا أن طبعات بولاق تكون أكثر تدقيقًا في الغالب الأعم.

والطبعات التي اعتمدوها قديمة، فهي إما أن تكون نسخًا عن مخطوط حرفًا بحرف، كما هو عمل غالب المستشرقين وهذا منهجهم أصلًا، وإما أن يكون القائم عليها باحثًا يجيد النحو والصرف واللغة وقرءة المخطوط على الأقل، كما هو حاصل في الطبعات الصادرة عن مطبعة بولاق، والمطبوعات التي اعتمدها السقا وصاحباه تعد بمثابة فروع يرتكز عليها ويعتمد عليها بقوة إلى جانب المخطوطات؛ للأسباب التي ذكرتها آنفا، وهذه المطبوعات التي اعتمدتها طبعة السقا وصاحبيه هي:

1-النسخة المطبوعة بمدينة جوتنجن بألمانيا سنة 1276ه-1862م، وقد اعتمد ناشرها المستشرق هنري فرينند فستنفلد (ت 1899م) على نسخة السهيلي المخطوطة التي أخذها عن أستاذه أبي بكر بن العربي الإشبيلي.

2-النسخة المطبوعة في بولاق سنة 1259ه.

3-النسخة المطبوعة على هامش الروض الأنف في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1332ه-1914م.

4-النسخة المطبوعة في مصر بالمطبعة الخيرية سنة 1329ه.

والحق أن هذه المطبوعات وهذه القراءات من أولى ما يعتمد عليه بعد المخطوطات بل إن بعضها يعد مخطوطا من الدرجة الثانية، أقصد أنه نَسخٌ وليس تحقيقا.

أما انتقادهم لطبعة الشيخ محيي الدين عبد الحميد بأنه يضع جملًا بين قوسين دون تنبيه، فيُحمل على ما قرره الشيخ من منهجه في المقدمة، حين قال: “فإن كان بزيادة كلمة أو أكثر وكان إثبات هذه الزيادة لا يغير الأسلوب أثبت هذه الزيادات بين قوسين معقوفين هكذا [ ]…” [مقدمة محيي الدين عبد الحميد، ص21]، أو يحمل على الخطأ الطباعي إن لم يشذ الكلام عن سياقه.

ولكن اللجنة وقعت في تناقض عجيب، لا أدري أهو سبق في اللسان أم إطلاق لعبارات فضفاضة، ويكمن هذا التناقض في قولهم: “ولا شك أن عمل السقا وصاحبيه أوثق وأدق” [المقدمة، ص78]، ثم قالوا في فقرة تليها: “…والذي يظهر أن عمل الشيخ محيي الدين أدق وأنفع” [المقدمة، ص78].

ثم قالوا: “…وقد نفعنا الله بالطبعتين جميعا، وانتفعنا بطبعة الشيخ محيي الدين أكثر، خاصة في الجانب اللغوي وضبط الأشعار” [المقدمة، ص80].

فقد وصفت اللجنة الطبعتين بصيعة التفضيل (أفعل)، فلا تدري أي الطبعتين أدق برأي اللجنة؟!

ثم إن كان العمل مميزا إلى هذه الدرجة في كلتا الطبعتين، فما داعي إعادة نشر الكتاب إذن؟! خصوصا أن اللجنة لم تضف جديدا كما سيأتي.

وقد وصفت اللجنة هاتين الطبعتين بعظيم الجهد في ضبط النص والتعليق عليه، وفهرسة المحتوى والتقديم له، وعابت فيهما إغفال تخريج الأحاديث النبوية، على الرغم من أن اللجنة لم تفِ بهذا الشرط أيضا.

إلى هنا أنهي حديثي عن مقدمة اللجنة، وأبدأ مقارنتها مع طبعة دار الفاروق.

 

*انتخاب المخطوطات في كلتا الطبعتين

 طبعة شركة إقليد المعرفة بإشراف الدكتور علي العمران:

اعتمدت هذه الطبعة على ست نسخ خطية، انتخبت من ثمانين نسخة، وهي:

1-نسخة مكتبة فيض الله أفندي بتركيا رقم (1466)، وإسنادها من طريق أبي طاهر السِّلفي (ت 576ه)، إذن فهذه النسخة من القرن السادس، وهي ناقصة غير تامة، وقد رمزوا لها بـ: (ف).

2-نسخة مكتبة آيا صوفيا بمجمع السليمانية بتركيا، تحت رقم (3237)، تاريخ نسخها: صباح الأربعاء العاشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمئة([1]) أي: في القرن الثامن الهجري، وهذه النسخة قد اعتمدتها طبعة الفاروق، ورمز لها بـ: (ص).

3-نسخة المكتبة السّليمية بتركيا تحت رقم (4696)، وتاريخ نسخها في شهور سنة ثلاث وأربعين وسبعمئة، أي في الثامن القرن الهجري، وهي نسخة تامة، وناسخها محمد بن شاكر الشافعي (ت 753ه)، ورمزوا لها بـ: (س).

4-نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة تحت رقم عام (93556)، ورقم خاص (9329)، وكان الفراغ منها في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبعمئة، أي في القرن الثامن، وناسخها أحمد بن محمد بن أحمد النصيبي الشافعي (ت 764ه)، وهي نسخة تامةن ورمزوا لها بـ: (أ).

5-نسخة مكتبة طرخان والدة سلطان بمجمع السليمانية بتركيا، تحت رقم (241)، وكان الفراغ من نسخها في اليوم الثالث من شهر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبعمئة، أي في القرن الثامن، وهي نسخة تامة، وناسخها محمد بن عبد الغني بن يحيى الحنبلي الحراني (ت 778ه)، وقد اعتمدتها طبعة الفاروق، ورمزوا لها بـ: (ط).

6-نسخة مكتبة فيض الله أفندي بتركيا، تحت رقم (1467)، وتاريخ نسخها كان في يوم السبت الثاني والعشرين من شهر شوال المبارك سنة سبع وعشرين وثمانمئة، أي في القرن التاسع، وناسخها محمد بن الحسن بن علي البدراني (ت 837ه)، وهي نسخة تامة، ورمزوا لها بـ: (ب).

ومن الملاحظ أن غالب النسخ المعتمدة كانت في القرن الثامن، وواحدة في القرن التاسع، وواحدة في القرن السادس، وهي أقدمها، ونسختان منها كانتا من النسخ التي اعتمدتها طبعة الفاروق كما سيأتي معنا.

 

طبعة دار الفاروق بتحقيق الأستاذ عادل مرشد والدكتور همام سعيد:

وهي طبعة مقابلة على اثنتي عشرة نسخة خطية، ست نسخ منها تامة، وست أجزاء متفرقة، وكتب على طرة هذه الطبعة أنها من تحقيق عادل مرشد المقدسي و د. همام سعيد، وأنا قد بينت رأيي في هذه القضية، وأرى أن من الصواب تبيين عمل كل واحد منهما.

قُدِّم الكتاب بمقدمة علمية لا إسهاب فيها ولا ثرثرة، فكانت المقدمة في ثلاث وعشرين صفحة مكثفة في طرح المعلومات حول الكتاب، فأتت مقدمة منهجية تُحُدِّث فيها عن أولية الرواية والتأليف في السيرة، وذكر المصادر الأولى لعلم المغازي والسير، ثم الفرق بين فن المغازي والسير، وفن السير عن طريق دراسة مقارنة علمية، وبعد أن تُرجم لابن إسحاق وبين مكانته العلمية؛ تُرجم لراويته، وأقصد زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي، وبيّنت مكانته العلمية، ثم تُرجم لابن هشام بأسلوب علمي يسير وفق أصول الصنعة الحديثية.

وهنا نقطة نجدها عند أغلب الباحثين والمحققين، وهي الترجمة المسهبة الطويلة لعلم من الأعلام، وهذه من الأخطاء المنهجية في البحث، والأصل أن يكون المنهج في هذه القضية أن يترجم للأعلام وفق تخصصاتهم، فلا يتناول اللغوي كما الفيلسوف كما  المحدّث، ولا تكون الترجمة سردًا غيريًا لسيرة العالم الذي كُتب عنه، وهو المنهج المتبع في الأبحاث الرصينة.

وقد بين المحققان المنهج المتّبع في التحقيق، ولم يتعرضا للحديث عن الطبعات السابقة؛ إذ إن حالها معروف عند المشتغلين بأحوال الطبعات وعند الكتبيين وعند الباحثين، والحقيقة أن عمل هذه الطّبعة في الكتاب قد صدَّق مقدمتها، فلم تشبَّع المقدمة بما ليس في الكتاب، فكان من عملها الضبط المتقن للنص، وشرح الألفاظ وعزوها إلى مصادرها اللغوية والأدبية بما يغني عن الشروح، فقد وضِّحت جميع العبارات المبهمة، وخرِّجت جميع الأحاديث والآثار المذكورة في السيرة، تخريجا علميا مميزا، بين منهج المحدثين ومنهج المؤرخين، فقد تنبه المحققان لهذه القضية ونبها عليها حيث قالا: “حرصنا في هذا التحقيق لكتاب السيرة أن نخرِّج الأحاديث والآثار المذكورة في هذه السيرة من كتب السنة الأخرى، سواء كانت هذه الأحاديث قولية أم فعلية، كما حرصنا على تمييز صحيحها من ضعيفها، وما كان منها مرفوعا إلى النبي ﷺ صراحة أو حكما؛ دققنا النظر فيه، وقد التزمنا في ذلك منهج المحدثين، أما ما كان من أخبار السيرة الأخرى مما سبيله السرد التاريخي؛ فقد حرصنا على تخريج هذه الأخبار والإشارة إلى مصادرها من كتب الحديث والتاريخ، دون التزام منهج المحدثين في ذلك، واكتفينا بوصف السند بقولنا: مرسل أو معضل أو منقطع” [المقدمة، ص30].

وقد نبه المحققان على كثير من العلل والأوهام التي وقع فيها ابن إسحاق في الروايات التي من طريقه، بل إنهما تعرضا للأوهام التي وقع فيها ابن إسحاق ولم ينبه عليها كثير من الشراح للسيرة كما ذكرا في المقدمة، ومثال ذلك قصة هجرة أبي موسى الأشعري من مكة إلى الحبشة [انظر 1/384]، ولم تذكر طبعة إقليد المعرفة  شيئا عن هذه القصة، ثم تحدثت طبعة الفاروق عن حادثة الإفك وعلقت عليها [انظر 3/394]، ولم تعلق طبعة إقليد المعرفة شيئا على هذا الخبر [انظر طبعة إقليد المعرفة، 3/385]، وغير هذه الأخبار التي وهم فيها ابن إسحاق وكان الأولى أن يعلق عليها.

كما حرصت طبعة الفروق على مناقشة ابن إسحاق في تاريخ الغزوات والسرايا وعدد المقاتلين فيها، وهذا لم تفعله طبعة “إقليد المعرفة”، واهتمت بتحرير المواقع الجغرافية، وتحديد أماكنها الحالية مستعينة بأهم المصادر في هذا الشأن.

والحقيقة أن عمل المحققين في طبعة الفاروق عمل جبار يُخجِل كثيرا من أعمال المؤسسات، إذ مثل هذا الجهد المؤسسي لا يقوم به إلا من اعتكف ردحًا طويلًا من الزمن في محراب التراث، فقرأ في حديثه ولغته وأصوله وأدبه وتفسيره.

أما النسخ التي اعتمدتها طبعة الفاروق فهي:

1-نسخة السلطانة ترهان/طرهان – المكتبة السليمانية بتركيا، وقد تقدم الحديث عنها، وقد رمز لها بـ: (ت).

2-نسخة بني جامع – المكتبة السليمانية بتركيا تحت رقم (856)، وهي نسخة كاملة، واسم الناسخ عمر بن أبي بكر بن يوسف بن يحيى، وفرغ من نسخها في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 600 للهجرة، ورمز لها بـ: (ي).

3-نسخة آيا صوفيا – المكتبة السليمانية، وقد سبق الحديث عنها، ورمز لها بـ: (ص) أيضا.

4-النسخة الغربية، وهي نسخة مصورة من مكتبة المدينة المنورة، وعليها خاتم مكتبة الأوسكوريال، وهي نسخة كاملة، والظاهر أنها نسخت في القرن السادس الهجري، فقد أثبت صاحبها إسناده بها عن نجبة بن يحيى بن خلف بن نجبة الرعيني، وهذا إمام مقرئ توفي سنة 591ه، ورمز لها بـ: (غ)، وهذه النسخة لم تكن ضمن النسخ الثمانين التي وقفت عليها اللجنة.

5-نسخة المكتبة المركزية في وزارة الأوقاف المصرية، رقم (1821)، وهي نسخة ناقصة، تبدأ من أول السيرة وتنتهي بغزوة بني سُليم بعد بدر، الناسخ وتاريخ النسخ مجهولان، ورمز لها بـ: (ق1).

6-نسخة المكتبة المركزية بوزارة الأوقاف المصرية، رقم (1936)، وهي منقولة عن نسخة منقولة عن نسخة بخط الوزير أبي القاسم الحسين بن علي الكاتب ابن المغربي، المكتوبة سنة 397ه، وهي نسخة ناقصة، وهذا الجزء الثالث من النسخة، ويبدأ من آخر الخندق وينتهي بآخر الكتاب، واسم الناسخ الحسين ابن قاضي أذرعات الشافعي، فرغ من نسخها سنة 813ه، ورمز لها بـ: (ق2).

7-نسخة المكتبة الوطنية بباريس برقم (6496)، وهي نسخة ناقصة، وهذا الجزء الأخير منها، ويبدأ من: “ما قيل من الشعر في الخندق” إلى آخر الكتاب، وهو ربع الكتاب الأخير، واسم الناسخ سليمان بن عمر بن كيكلدي، فرغ من نسخها سنة 822ه، ذكر مالكها وهو علي بن محمد الفقّاعي (ت917ه) -وهو شيخ حنفي من أهل اللغة والنحو-؛ أنه قرأها مرات عديدة، وفي آخرها حاشية نصها: “بلغ مقابلة وضبطا وتحريرا على نسخ محررة معتمدة مقروءة”، وهي نسخة متقنة يكثر على حواشيها تقييد الألفاظ، ونقل شروحها عن غير واحد من أهل العلم، كابن الأثير والنووي وغيرهما، وقد رمز لها بـ: (ط).

8-نسخة الجامع الأزهر، رواق الشوام، رقم (68)، وهي نسخة ناقصة، إلا أنها مضبوطة ومتقنة، وناسخها محمد بن أحمد بن أحمد المقدسي الشافعي المقرئ، وفرغ منها سنة 852ه، والناسخ من أهل العلم، ورمز لها بـ: (ز).

9-نسخة مكتبة مراد ملا بتركيا رقم (1433 و1434)، وهي نسخة تامة في مجلدين، وهي منسوخة سنة 815ه، وناسخها محمد بن محمد بن عبد المنعم الأنصاري البعلبكي، ورمز لها بـ: (م).

10-نسخة مكتبة كوبريلي بتركيا، من مجموعة فاضل أحمد باشا، وهي نسخة ناقصة، وهذا الجزء الثاني منها، من غزوة أحد إلى آخر الكتاب، وهي منسوخة سنة 705ه، وناسخها محمد بن محمد البلبيسي، ورمز لها بـ: (ف).

11-نسخة مكتبة شهيد علي – المكتبة السليمانية، رقم (1892)، وهي نسخة كاملة، منسوخة سنة 956ه، ولم يذكر الناسخ اسمه، ورمز لها بـ: (ش1).

12- نسخة مكتبة شهيد علي (الثانية)، رقم (1891)، وهي نسخة ناقصة، ولم يذكر الناسخ اسمه،وهي نسخة متقنة ومقابلة ومصححة، ورمز لها بـ: (ش2).

والحقيقة أن النسخ التي اعتمدتها طبعة الفاروق هي نسخ نفيسة، وغالب نُسّاخها من أهل العلم والمعرفة باللغة والنحو؛ فكانت نسخا مضبوطة.

وقد ختمت الطبعة بثبت المصادر والمراجع، ولم يعمل فهارس تفصيلية، إلا أن طبعة “إقليد المعرفة” قد عملت فهارس تفصيلية، ولم تكتب ثبت المصادر والمراجع، وكما قلت فإن الفهارس عمل فني تشكر عليه الأعمال العلمية، إلا أنها في درجة دون درجة إثبات المصادر والمراجع؛ إذ إن ثبت المصادر هو الأهم في الأبحاث العلمية، وليس الأعمال الفنية.

 

*مقارنة عملية بين جهود الطبعتين:

انتخبت في هذه المقارنة فصلًا عشوائيًا؛ للإبانة عن مدى الجهد الفعلي المبذول في كلتا الطبعتين، فكان الفصل الذي اخترته: “أمر حدوث الرّجوم وإنذار الكهان برسول الله ﷺ”.

ومكان هذه الحادثة في طبعة “دار الفاروق”: (1/227)، أما في طبعة “إقليد المعرفة”: (1/404)، وأنا أقارن هنا شرح الألفاظ وتخريج الآثار، ولم أتطرق إلى ما كثر من إحالات للخلاف بين النسخ عند طبعة “إقليد المعرفة”، مما لا أراه بالغ الأهمية عند الباحثين.

 

العنوان: أمر حدوث الرّجوم وإنذار الكهان برسول الله ﷺ

دار الفاروق: “في (ش1) و(ق1): (إخبار الكهان من العرب والأحبار من يهود والرهبان من النصارى)”.

إقليد المعرفة: “قوله: (أمر حدوث الرّجوم وإنذار الكهان برسول الله ﷺ) ليس في (أ)، وفي (ف): (أخبار الكهان من العرب والأحبار من يهود والرهبان من النصارى)، وفي (ط): (أمر حدوث الرجوم) والمثبت في (ص، س)، حاشية (ف)”.

نَص: فلما سمعت الجن القرآن… (فَيَلبِسَ)

دار الفاروق: “في (ي): (فيلتبس) وكلاهما بمعنى، أي: يختلط”.

إقليد المعرفة: “في (ف، أ): (فيلتبس) إلا أنه ضبط آخره بالضم والفتح في (ف). والمثبت من (ص، س، ط)، حاشية (ف) وعليه خ، حاشية (أ) وعليه خ. وضبط في (ط) بضم الياء وفتح اللام وكسر الباء مع التشديد. وفي حاشية (أ) بضم الياء وسكون اللام وفتح الباء. والضبط المثبت بفتح الياء وسكون اللام وكسر الباء من (ص، س)”.

نص: قول الرّؤبة بن العجاج في أرجوزته: إذا تستبي الهيّامة المرهَّقا

دار الفاروق: “في “ديوان رؤبة” بعناية وليم البروسي (ص109)، “وشرحه” لعالم لغوي مجهول (1/137): الهيّابة، بالباء وهو تحريف، والصواب أنه بالميم، كما في “السيرة” هنا، وقال أبو ذر الخشني في “إملائه على السيرة” (ص67): (الهيامة: الكثير الهيام). قلنا: وهو الذي يولع ويهيم بالنساء عشقا، وتستبي: تأسِر، يعني أن النساء يأسرن ويأخذن عقل السفيه فيولع بهن ويطيش عقله”.

إقليد المعرفة: “في “ديوان الرؤبة”: (الهيابة)، وقوله: تستبي: أي تذهب بعقله، والهيامة: الكثير الهيام، وأصل الهيام: داء يصيب الإبل فتشتد حرارة أجوافها فلا تروى من الماء إذا شربت، ومنه قوله تعالى: {فَشَـٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِیمِ} [الواقعة: 55] “غريب السير” (1/150)”.

 

وفي أرجوزة لرؤبة يصف حمير وحش: بصبصن واقشعررن من خوف الرّهق 

دار الفاروق: “في “الديوان” (ص108)، و”شرحه” (1/56): الزَّهق: بالزاي، وفسره بالهلاك. وبصبصن: أي حرّكن أذنابهن. واقشعررن: أي اضطربن وتحرّكن. وهو بهذا يصف حمرا وردت الماء لتشرب، لكنها لا تشعر بالأمان من صائد أو مفترس فتضطرب وتحرك أذنابها”.

إقليد المعرفة: “بصبصن واقشعررن من خوف الرهق: معناه حركن أذنابهن. “غريب السير” (1/150)”.

 

في الخبر الذي رواه ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة

دار الفاروق: “يعقوب بن عتبة هذا ثقفي وهو من أتباع التابعين، فخبره هذا معضل، وخالفه الشعبي -فيما رواه ابن عبد البر في “الدرر في اختصار المغازي والسير” (ص34-35)- فذكر أن الذي أتوه هو عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وخبر الشعبي هذا مرسل لم يسنده. قوله: معالم النجوم: أي النجوم المشهورة.

والأنواء: جمع نَوْء، وهي منازل النجوم في السماء. انظر كتاب “الأنواء في مواسم العرب” لابن قتيبة (ص6-7)”.

إقليد المعرفة: الحقيقة أن اللجنة لم تعلق شيئا على الخبر، ولم تذكر إلا ما يتعلق بفروق النُّسخ، ولكنها علقت على عبارة: “وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا” فقالت: “يروى بالباء والنون، فمن رواه بالنون فمعناه: أدهاها رأيا، من النكر -بفتح النون- وهو الدهاء، ومن رواه بالباء فمعناه: أبعدها ابتداء لرأي لم يسبق إليه، من البكور في الشيء، وهو أوله. “غريب السير” (1/150)”.

 

حديث: “ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به؟”

دار الفاروق: “حديث صحيح، ابن إسحاق لم يصرح بسماعه فيه من الزهري في رواية ابن هشام عن زياد البكائي، لكن أخرجه البخاري في “خلق أفعال العباد” (487) عن عمرو بن زرارة عن زياد، فصرح فيه بسماع ابن إسحاق من الزهري. وعمرو بن زرارة أحد الثقات الأثبات.

وقد توبع ابن إسحاق فيه، فقد أخرجه بنحوه أحمد (1882) و(1883)، ومسلم (2229)، والترمذي (3224)، والنسائي في “الكبرى” (11208) من طرق عن الزهري، به”.

ثم علقت على الطريق التي تلي هذا الخبر: عن ابن إسحاق من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن علي بن الحسين بن علي، فقال: “هذا إسناد ضعيف، عمرو بن أبي جعفر لم نتبيَّنه، وابن أبي لبيبة -ويقال: ابن لبيبة- ضعيف، لكن الحديث صحيح كما تقدم”.

إقليد المعرفة: “رواه البخاري في “خلق أفعال العباد” (379)، ومسلم في “صحيحه” (2229) من طريق الزهري مختصرا”.

ثم قالت: “ومحمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، ويقال: ابن أبي لبيبة، ويقال: لبيبة أمه، وأبو لبيبة أبوه. ترجمته في “تهذيب الكمال” (25/620)”.

 

خبر العجل الذي صاح: يا ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله

دار الفاروق: “خبر صحيح، وهذا إسناد ضعيف؛ لإبهام شيخ ابن إسحاق، ثم إن عبد الله بن كعب هذا من صغار التابعين لم يدرك زمن عمر، فهو مرسل، لكن روي هذا الخبر بنحوه من وجه آخر صحيح عن عمر. فقد أخرجه البخاري (3866) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله قال: “ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل…” وذكره.

أما طريق ابن إسحاق، فقد أخرجه أيضا ابن بشكوال في “غوامض الأسماء المبهمة” (2/720) من طريق عبد الملك بن هشام.

وقد روي أن هذا الرجل صاحب القصة مع عمر هو سواد بن قارب، من أوجه لا يصح منها شيء، انظر “مستدرك الحاكم” (6703) والتعليق عليه بتحقيق عادل مرشد ورفاقه”.

تعليق اللجنة: لم تعلق اللجنة على هذا الخبر شيئا، واكتفت بتبيان الفوارق بين النسخ، وخرجت البيتين اللذين رواهما ابن إسحاق تعليقا على الخبر.

 

*خاتمة

بعد دراستي للطبعتين ونظري في جهود العملين خلصت إلى نتيجة، مفادها أن طبعة دار الفاروق هي -بحق- طبعة في غاية الجودة والإتقان، ويظهر من عملها أنه قد بُذل فيها جهد مضاعف، حتى أن طبعتها فاقت طبعة الشيخ العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد من ناحية تخريج الآثار والأخبار، وحتى في الجانب اللغوي فقد أغنت عن كثرة الرجوع إلى الشروح ببسطها المعاني والألفاظ الغامضة، وإبانتها عن معاني الأمثال والأشعار المتداولة، ولا أطعن -لا قدر الله- في جهد الدكتور علي العمران ولجنته، فهم أهل صنعة، لكن الدراسة النقدية تُرفع فيها التكلفات والاعتبارات، والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر والمراجع:

سيرة  ابن هشام، عبد الملك بن هشام، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.

سيرة ابن هشام، عبد الملك بن هشام، ت: عادل مرشد و د. همام سعيد، دار الفاروق، عمّان، ط2، 1445/2024.

سيرة ابن هشام، عبد الملك بن هشام، ت: حسين بن عكاشة، شركة إقليد المعرفة، الرياض، ط1، 1446/2024.

طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلّام الجمحي، ت: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط2، 1974.

برنامج طبقات فحول الشعراء، محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1980.

([1]) وهي نسخة تامة غير أن ناسخها لم يسمَّ، وقد أخطأت اللجنة في قراءة هذا التاريخ فقرؤوه “إحدى وتسعين وستمئة”، وهذا الناسخ المجهول يتضح من خلال المخطوط أنه لا يهمز في كتابته، فالراجح عندي أن قراءة طبعة الفاروق هي الأصوب.

 

* سامح عثمان: باحث وكاتب ومحقق، من الأردن.

___________________________________________________________________________________________

اقرأ أيضًا:

قصة كتاب

لو أنّها تقرع هذا الباب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى