العدد السادسمقالات
أخر الأخبار

الاضطرار إلى العلم في زمن الجوائح!

الاضطرار إلى العلم في زمن الجوائح!

 

د. ياسين نزال*

مِن المعلوم أنّ الأمم لا تتسيَّد إلّا بالعلمِ الذي يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، فلذلك أكّد شرعُنا الإسلامي على أهمية تعلّم العلم النافع، واتقاء شرّ العلم الضار، لأنّ العلم النافع هو الذي يقود العامل به إلى التقوى وفعل الخيرات وصلاح دنياه وآخرته. ولا شكّ مِن أنّ أشرف العلوم في حياة الأمم -أفرادًا ومجتمعاتٍ- العلمُ النبويّ الشّريف، فبه يتمكن المرء من تحقيق الغاية الأسمى من وجوده -قبل مماته- وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له على مراده -تعالى- لا على مراد أهل الأهواء أوما يسمى- بأصحاب الأجندات الخفية الذين يُظهرون لك -في النهار- الودّ والحبّ وفي الليل ينسجون شراكهم والناس بين نائم وقائم وتال للقرآن!

…ولـمّا كان شأن العلم النبوي ذا أهمية كبرى في حياة العبد –ليعمل وبسدّد ويقارب- رغّب الشرع في طلبه، بل أوجبه فيما تقام به الفرائض كالوضوء والصلاة والصوم، وكذلك فيما يصلح التوحيد والعقائد بشكل عمليٍّ.

ولكنَّ هذا الزمان بمشاكله وإشكالاته أظهرَ لنا مدى زُهدِ النّاس في طلب العلم الشرعي (الأساسي) وفي تعلّم ما تدعو إليه الحاجة للنجاة. وهو ملحظ نستطيع رؤيَته بالنظر إلى أحوال المسلمين اليوم، وكذا بإمعان النظر في طبيعة سؤالاتهم لأهل الفتيا والاختصاص؛ فمثلاً طالبُ العلم صار اليوم يُنعتُ بأوصافٍ دنيئة تُشعركَ أنّ مجتمعه قدْ وضعه في أدنى الدرجات(!) كأنّ به ارتكب خطأ فظيعًا بالتحاقه بسير الأنبياء والمرسلين وسلوكه جادة العلم والتعليم، مع أنّ الجميع غير جاهل أنّ “العلمَ” هو السبيل الأوحد لنهوض الأمم وأنّ “الأخلاق” هو وَقود بَقائها! وأمّا عن طبيعة السؤالات المتكررة وأعدادها القادمة من الناس إلى المفتين فحدِّث عنها ولا حرج! فأكثرها لا يحتاج إلى كبير عناء لمعرفتها وحفظها ولا سيما إذا ما تعلق الأمر بأوجب الواجبات كالصلاة الواسعة الانتشار والصوم والأعمال التي تتكرر ليل نهار.

بينما انظر إلى الفارق الكبير لَمّا ضربت العالمَ جائحةٌ صحيّة، فانظر كيف اضّطُر الجميع –كبارًا وصغارًا عوامًا وخواصًا- لإنقاذ النفس- إلى بدل الجهود على مدار الثواني والساعات والأيام والليالي لتوعية أنفسهم وتوعية غيرهم وذلك بتعلّم سبل الوقاية من هذا الوباء وإيجاد العلاج، وهو أمر محمود مطلوب لا مرية فيه.

فالذي أقصده أن الناس لما أُلجئوا -اضطرارًا- إلى تعلّم شيء مَا مِن أمور الدّنيا لم يتهاونوا في ذلك البتة، بل بلغ الشأن بمعاتبة من لا يهتمّ، بل ومعاقبته بعقوبات ملزمة شديدة. بينما إذا تعلق الأمر بفرائض الدين وتطبيق شعائره وتحقيق متطلبات الإيمان والتوحيد ونشر الأخلاق الفاضلة وحراسة المجتمع المسلم فلا تعثر على ذاك النّفَس الشديد الحريص ولا ذاك الاجتهاد، ولا تلك الهمّة لا في التّعلم ولا في التعليم ولا الحرص لإنقاذ النّفس من خسران أبديٍّ إلا من قِلّة قليلة جدًّا جدًّا لا تكاد تُرى!

فلماذا يا ترى؟

ألئن تعلّم الصّلاة وأحكامها مثلا غير مهِمّة؟ أمْ أنّ تعلّم العقيدة الصافية والتوحيد ومتطلباته وتحقيق معنى “لا إله إلا الله محمد رسول الله” على أرض الواقع استحال غيرَ ضروري في نظرِ الفرد والمجتمع على حدّ السواء؟!

أم أنّ…أم أنّ…! والأسئلة كثيرة…

ولستُ أقصد هنا مقارنة أهمية المسألتين مسألة “التعلم للوقاية من جوائح الدنيا والاستعداد لها”، ومسألة “التعلم للوقاية من أهوال الآخرة والاستعداد لها”، ولستُ أيضا أقصد بيان أثر عدم الالتزام بمتطلبات الأمرين، إنّما أردتُ -في هذه العجالة- توضيحَ أمرٍ غاية في الأهمية وهو أنّ النّاس بعوامهم وخواصهم، بفقيرهم وغنيهم، بعالمهم وجاهلهم،… بدون استثناء قد أثبتوا لأنفسهم ولغيرهم -بما أظهروه وقتَ الجائحة- أنّ لهم القدرة العقلية والمادية والأخلاقية الجميلة على احترام العلم النبويّ واحترام أهله وحراسة ثوابته والاعتزاز به وهي شهادة على النفس أيضًا.

ومن جهة أخرى أظهروا كذلك القدرة الفائقة على إمكانية تعلّم أحكامه وتعليمها لغيرهم في فترة وجيزة، بل وعلى إمكانية مداومة التنبيه –وقت الغفلة- مِن الجميع وإلى الجميع لإنقاذ النفس وإنقاذ الغير مِنَ الخسران الأبدي الذي لا يحتمل فرصًا ثانية، ولا يقبل شفاعة نسب ولا حسب!

ولكنْ…وللأسف! في زمن التطور الماديّ المحض والانبهار بالتقدم العلمي، وفي زمن الصّراعات الفردية والجماعية على السّرابٍ أُخّرَ تعظيم الدين وشعائره، فأُخّر الاهتمام بتعلّمه، فتأخرت بذلك الاستجابة للأوامر والنواهي و التحلي بالأخلاق الفاضلة، وتأخرت كذلك أشياء وأشياء بعضها من صلب الدّين، فآل الحال إلى ما نحن عليه اليوم… والأمر ليس يفتقر مزيدَ تفصيل ولا تمثيلٍ… ولا مفرّج إلا الله!

ويبقى السّؤال الجوهري بعد ما كشفتْ لنا الجوائح الصّحيّة عن قدرات الأفراد والمجتمعات الفائقة على تعلم الشرع ونشره وإمكانية الإلزام بما أوجبه الله ورسوله: هل سنُراجع -في الوقت المناسب- أعذارَنا التي كنا -ولا زلنا- نتعلق بها لتسويغ الجهل وشدة التقصير في كلّ ما هو مرتبط بالنجاة في الآخرة؟!

نرجو ذلك من الله فالخير لا ينعدم في هذه الأمة…

فاللهم اهدنا إلى سواء السبيل!

د. ياسين نزال

(كاتب وباحث، من الأردن)


اقرأ أيضًا:

لماذا الموصل مدينة العلم والعلماء؟

مقومات التعليم.. الطالب والمعلم والمنهاج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى