مع الدكتور الحجي ذكريات ومواقف
مع الدكتور الحجي: ذكريات ومواقف
الدكتور عبد الرحمن علي الحجي -رحمه الله- قامةٌ من قامات المختصين بالتاريخ الأندلسي، فرَض نفسه على هذه السَّاحة بمؤلفاته التي غطت جوانب مهمة في هذا الاختصاص، ثم رسَّخ هذا المفهوم بحضوره على الساحة التي استجدَّت أخيرًا، وهي وسائل التواصل الاجتماعي، فاقترب كثيرًا من قرائه والمهتمين بالأندلس فكرًا وحضارة، وهو ما عجز عنه آخرون ربما لهم الإسهام نفسه في المجال نفسه، بالإضافة إلى وجوده على أرض الأندلس الذي منحه حضورُا وقبولًا أكثر، لا سيَّما وقد عزَّز ذلك بجولاته في نواحي الأندلس والكتابة من أرض الحدث معززًا حديثه بالصّوَر الحية.
بدأت علاقتي بالدكتور الحجي -رحمه الله- مع بداية اهتماماتي الأندلسيَّة، وتوطدت عندما اخترت موضوعي للماجستير عن دولة بني جهور بقرطبة (422هـ ـ1031م/462هـ ـ 1070م) التي قامت على أنقاض الدولة الأموية([1])، فقرأتُ كتابه: التاريخ الأندلسي من الفتح حتى السقوط، وسمعتُ من بعض الزملاء الذين درَّسهم في جامعة الملك سعود بالرياض عن فضله وعلمه وتعاونه مع الطلاب الباحثين، ومع رحلة البحث والتنقيب لجمع المادة العلمية في بداية الألفية الخامسة عشر الهجرية/ الثمانينات الميلادية، اتجه نظري مع زميل عزيز كان يبحث هو الآخر عن دولة بني ذي النون في طليطلة إلى دولة الإمارات حيث يقيم الدكتور الحجي في مدينة العين ويحاضر في جامعتها، لتوجيهنا وإرشادنا فيما يخدم موضوعنا، وفعلًا كان اللقاء ممتعًا، فقد استقبلنا بالترحاب وأرشدنا إلى مظان بغيتنا وما يخدم موضوعنا، وظلَّ أثر هذه الشخصية عالقًا بالذهن، مما جعلني أتابع إصداراته وما يجود به قلمه، وتتابعت رحلاتي مع الزميل المذكور إلى القاهرة والإسكندرية وقابلنا خلالها أقطاب هذا التخصص أمثال: عبد العزيز سالم، والعبادي، ومؤنس، ومحمد عبد الله عنان، رحمهم الله جميعًا.
لكن كانت المفاجأة عندما تسلمتُ إدارة المركز الثقافي الإسلامي بمدريد (1997-2004م) -بعد سنين طويلة من اللقاء الأول، وبعد حصولي على الدكتوراه من جامعة غرناطة- باستئذان الدكتور الحجي للدخول عليَّ في مكتبي، فرحبتُ به أيما ترحيب، وأفادني أنه استقرَّ بمدريد بعد انتهاء تعاقده مع جامعة العين، وأنه متفرغ لبحوثه ودراساته، استمرت لقاءاتنا بعدها نتدارس بعضًا من القضايا الأندلسية، لكني لمستُ منه سوء أحواله المادية، وعند سؤاله عن ريع كتبه التي ينشرها وهي كثيرة، أجاب بأنَّ المردود ضئيل، فدور النشر تنشر كتبه وتطبع من ورائه دون مردود يذكر حسب منطوقه.
توالت لقاءاتي به وفتحتُ معه موضوعات عدة منها: تحقيقه لأحد أجزاء مقتبس ابن حيان، وحقيقة ما يقوله عنه إميليو جارثيا جومث Emelio Garcia Gomez بأنه سطا على المخطوط الذي كان يعمل على تحقيقه، وذلك في مقدمة نشره لهذا الجزء باللغة الإسبانية([2])؛ فروى لي القصة بأنه كان يتردد على مدريد أثناء كتابة رسالته للدكتوراه التي كانت عن “العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأوروبا الغربية([3])” في بريطانيا، وعندما وجد هذه المخطوطة القيمة([4]) التي لم تنشر بعد أراد تصويرها، فأفاده المسؤول بأنه لا يسمح له بذلك، ممَّا حدا به للتردد على المكتبة ونسخها كتابةً([5])، ثم عمل على تحقيقها وعرضها على إحسان عباس الذي راجعها ونسقها وقام بنشرها.
تكررت الزيارات والمواضيع المطروحة، فطرح عليَّ مشروعًا يريد له الدعم، وهو إصدار مجلة تهتم بالدراسات التاريخية والأندلسية بشكلٍ خاص، إلا أني حاولتُ ثنيه عن المضي بهذا المشروع إشفاقًا عليه، لأنَّه يحتاج لمصاريف عالية والعائد ضئيل، والناس اتجهت إلى الإنترنت وما يقدمه من وجبات خفيفة وسريعة ومجانية، لكنه لم يأبه لكلامي، فقد وضع الموضوع برأسه وقرر تنفيذه، وبعد غيبة ليست بالطويلة تفاجأتُ به وهو يحمل أورقًا في يده..
- خيرًا أستاذنا الكريم؟
- هذه مسودة العدد الأول من المجلة، وقد أسميتها “البذور” وأريد منك المشاركة في تحريرها وشراء أعدادٍ منها لمكتبة المركز.
فعرفتُ أنَّ الرجل ماضٍ بالمشروع لكنه يحتاج إلى التمويل ولا يريد أن يطلب، وفعلًا اشتريتُ منها أعدادًا نقدتُه ثمنها (مرفق صورة لها ولمحتواها) ولا أدري هل صدرت بشكل نهائي أم لا؟ لكني لا أظن ذلك، لأنَّ التَّسويق في الخارج صعب، والجالية في إسبانيا متواضعة الإمكانيات، إلا إذا أصدرها في بلدٍ عربي كلبنان مثلًا.
غلاف مسودة المجلة
محتويات العدد
الصفحة الأولى من مقدمة العدد
وفي أحد الأيام كنتُ منغمسًا في العمل اليومي الذي تتطلبه إدارة المركز، وإذا به يدخل عليَّ مرتبكًا على غير عادته، فرحبتُ به وأخذته بالحديث لأعرف ما وراءه، فقال لي بلا مقدِّمات: لقد قررتُ بيع مكتبتي!! وبما أني أشاركه الاهتمام البحثي والعلمي والارتباط بالكتب والمكتبات، فقد أحسستُ بشعورٍ غريب، كيف لا؟ وهي مكتبتي التي نظمتُها وجمعتُ شواردها ونوادرها على مدى سنين مديدة وأعتبرها بمكانة أولادي، ولا أظن صاحبي بأقلَّ مني حبًّا وارتباطًا بمكتبته، وبخاصةٍ أنه ما زال يلجأ إليها ويستشيرها فيما يحرِّر ويكتب من بحوث؛ حاولتُ أن أثنيه عن قراره بعد أن عرفتُ أنَّ الدافع هو مسيس الحاجة، وقلتُ له لعلَّ الأمور تتيسَّر قبل أن تتخذ هذا القرار، وكان في نيَّتي أن أبحث له عمَّا يسدُّ حاجته وتبقى له مكتبته، لكنه أصرَّ على قراره رافضًا أيّ مساعدة وملحًّا على بيعها، وبما أني على معرفةٍ بها وبما تحويه من نفائس، وبخاصة مطبوعات مراكز البحوث الإسبانية التي نفدت من السوق، فقد وافقتُ على شرائها رغم الثمن الباهض الذي طلبه فيها، فمكتبة المركز كانت فقيرة وتحتاج إلى تعزيز محتوياتها خاصة التاريخية منها، ومكتبتي الخاصة بحاجةٍ إلى بعض نفائسها لا سيَّما الإسبانيَّة منها. وعند استلامها من شقته في أحد أحياء مدريد، ظهرت عليه علامات التأثر وكأنه يودِّع عزيزًا، فطلب مني استثناء بعض محتوياتها التي كنتُ أطمحُ في اقتنائها، لكني وافقتُ على طلبه إدراكًا مني لما تختلجه نفسه من مشاعر الفقد، ولعلمي بحاجته الماسة لمثلها.
كانت حواراتنا تدور حول قضايا كثيرة منها مسائل أندلسية محلّ اختلاف، نتَّفق أحيانًا ونختلف في أخرى، فمثلًا: لماذا اعتمد التَّفسير الديني لدوافع أحداث ومجريات التاريخ الأندلسي في كتابه: التاريخ الأندلسي؟ فمع تسليمي له بصحَّة هذا التفسير في البداية ومع النخبة الأولى من جيل الفتح الأندلسي الذين كانت نواياهم صافية ودوافعهم سليمة، لكن جيل الخلَف شابت نواياهم دوافع أخرى امتزجت فيها الأنانية والشعوبية تارةً والقبلية والإقليمية في أخرى. كما دار الحديث حول قضيَّة تاريخية أندلسيَّة أخرى، وهي مَنْ فتح الشمال الشرقي لإسبانيا أهو طارق أم موسى؟ فهو -رحمه الله- يرى أنه موسى، بينما ما توصّلتُ إليه في بحثي عن فتح الأندلس، هو أنهما تقاسما المهمَّة: طارق اتجه بمن معه إلى الشمال الشرقي وموسى أخذ منحى الشمال الغربي (مرفق صورة جانب من هذه المحادثة في مراسلة خاصة بتويتر).
ظلت الاتصالات بعد أن غادرتُ مدريد لكنها كانت في نطاق السَّلام والمعايدات، وقليل ما تتناول الجوانب العلميَّة، إلا أنه طلب مني في أحد اتصالاته بحثًا لي عن: “دور يوليان في فتح الأندلس” الذي أرجعته إلى فرضيَّة إسلامه([6])، وكان لنا نقاشٌ قبل ذلك في هذا الموضوع.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه، وبارك الله جهود ( مجلة روى ) في التَّعريف بهذا العلَم الفذّ ونشر محامده، فجزاكم الله خير الجزاء.
من مؤلفات الدكتور الحجي -رحمه الله-
_______________
الهوامش:
([1]) وقد طبعتُه أخيرًا بعنوان: حكومة الإنقاذ في قرطبة بعد انهيار الدولة الأموية: دولة الجَهاورة، الرياض 2017م.
([2]) نشره بعنوان:El califato de Córdoba en el “Muqtabis” de Ibn Hayyān Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II، por ʿĪsā Ibn Ahmad al-Rāzī (360-364 H. = 971-975 J. C.) / traducción de un ms. árabe de la Real Academia de la Historia por Emilio García Gómez، Madrid 1967.
([3]) نشر أصل الرسالة باللغة الإنجليزية، لكنه ترجم أخيرًا ونشر بعنوان: العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المدة الأموية، أبو ظبي 2004م.
([4]) كان أصل هذه المخطوطة في الجزائر بحوزة ورثة سيدي حمودة بقسنطينة، وقد نسخها المستعرب الإسباني فرانثيسكو كوديرا Francisco Codera وأودعها مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد.
([5]) ذكر في مقدمة هذا الجزء الذي حققه من المقتبس بأنه نسخَه بعد الاستئذان، وبمساعدة أحد أمناء المكتبة خوسيه لوبث دي تورو Jose Lopez de Toro انظر: المقتبس في أخبار بلد الأندلس، تحقيق: عبد الرحمن علي الحجي، ط. دار الثقافة بيروت 1965م، ص18.
([6]) نشرتُه في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1996م، وهذا رابطه لمن يريد الاطلاع عليه: يوليان وفتح الأندلس: عرض جديد لقضية قديمة https://docdro.id/8jb3sAx ومطروح في صفحة الإهداء بموقعي على الإنترنت.
_____________
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات