في ذكرى العلامة عبد الرحمن الحجي
في ذكرى العلامة عبد الرحمن الحجي
أ.د. قيس بن محمد آل الشيخ مبارك·
لقد عرفتُ أستاذنا القدير، العلامة الجليل الدكتور عبد الرحمن بن علي الحجي -رحمه الله-، ربما سنة أربعِمئةٍ وألف، حين اشتريت كتابه ”التاريخ الأندلسي“ وكنت للتَّوِّ انتهيت من قراءة “الحلل السندسية” لشكيب أرسلان.
وكنتُ معجبًا بالحلل السندسية، غير أن إعجابي بالتاريخ الأندلسي كان ذا معنًى آخر، فلم أجد فيما قرأتُ مَن كَتَب بهذه اللغة، فقد كان دقيقًا في تصوير الوقائع، حيث يصف الواقعةَ بدقة عالية، ويشير إلى ما يحتفُّ بها من أحداث، مما يسبقها أو يلحقها، ويذكر أسبابها ومقدماتها، ويشير إلى تداعي العلماء والصلحاء، ويذكر كيف كان العلماء في المقدمة، ليكونوا قدوةً لغيرهم.
وكان -رحمه الله- يعرض أقوال المؤرخين ويقارن بينها، وكأنها ماثلة بين عينيه، ثم يستخرج الصواب فيما يظهر له، بأمانة علمية، فرغم أنه لايُخفي ما يُكنُّه في نفسه مِن عاطفةٍ جيَّاشةٍ، غير أنه لا يعدل عن الحقيقة.
وكانت لغة الكتاب لغةً عربية فصيحة، وعباراتٍ رائقة، وأسلوبٍ رصين واللغةُ أداةُ التعبير والتصوير، فهي وعاءُ الفكرة، فما أحوج المؤرخ إلى دراسة اللغة العربية، ليُحسن الكتابة بها، فإن المؤرخ كغيره من المختصين في علوم التربية والاجتماع وغيرها، إذا لم يُحسن التعبير، فقد يُفسد المعنى، و(قد) -هنا- للتكثير.
وبعد سنوات من قراءتي لهذا الكتاب، كنت في زيارة لمدينة الشارقة، فاتصلتُ بأستاذي التَّقيِّ النَّقيِّ الشيخ حمد رقيط -حفظه الله وبعين عنايته تولاه-، أطلب زيارته، فرحَّب بي، وحين ذهبتُ إليه، فوجئتُ بالدكتور عبد الرحمن الحجي عنده، وكان معهما رجلٌ ثالث من السودان، حيث جرى حديثٌ طويل بيني وبين الدكتور عبد الرحمن، وأني أعرفه منذ زمن، وتحدثنا حول الأندلس وأخبارها، فوجدتُه بحرَ علمٍ يُعَبُّ عُبابه، وسألته -رحمه الله- عن بعض ما أشكلَ عليَّ في تاريخ الأندلس، فطربَ جدًا، وكان سعيدًا أنْ رأى فيَّ مَن يعرف كيف تؤكل كتف الاستدلال، مسرورًا برؤية من يشاركه همَّه، فصار المجلس لي وله.
وقد كان -رحمه الله- ذا همٍّ كبير، وكنت أرى ذلك في حديثه، وأتذكر قول جدِّي لأمِّي، وخال والدي، الشيخ عبد العزيز بن حمد المبارك:
وأَتعبُ نفسٍ نفسُ حرٍّ تعشَّقَتْ *** جسامَ المعالي وَهْيَ ذاتُ يدٍ صِفْرِ
وقد أبلغني يومها أنه عازم على الانتقال والاستقرار في الأندلس، وأنه سيتفرغ للتاريخ الأندلسي، وأخبرني أنه فوجئ أنه لا يمرَّ به نهارٌ، إلا ويكتشف بالأندلس أثرًا، وفهمت منه أنه اختار المقام في قرطبة، لكن لا أدري ما الذي جعله يستبدلها بمدريد.
وأخبرني يومها أنه ينوي إصدار نشرة يسميها ”البُذور“ ينشر فيها أحوال الأندلس وأخبارها، وبعد صدورها، أرسل إلي عددًا منها، واستمر التواصل بعدها بيني وبينه، ولقيته مرة أخرى في أبو ظبي، وبعدها صار التواصل عبر الهاتف فقط، حيث كان يعيش في الغربة، والغربة ليست عيبًا يعابُ به، وإنما العيب على أمَّةٍ لمْ يجد فيها مثلُه مستقرًا، فضلًا عن أن تستفيد من علمه وتدعمه في جهوده، ورحم الله القاضي أبا محمد، عبد الوهَّاب بن نصر البغدادي حيث يقول:
وكم قائلٍ: لو كان وُدُّك صادقًا … لبغدادَ لم ترحل، وكان جوابيا:
يقيم الرجالُ الموسرون بأرضهم … وترمي النَّوَى بالمقترين المراميا
وقد كان آخرُ لقاءٍ لي معه في شقَّته البسيطة في مدريد، يوم الأحد السادس عشر من شهر الله المحرم ١٤٤١هـ، الموافق ١٥ سبتمبر ٢٠١٩م، برفقة الشيخ الداعية الدكتور عبد الله بن أسامة السَّيِّد الدوماني الحسني.
وكان لقاءً قصيرًا جدًا، لأني رأيته متعبًا، ومعه ابنُه النجيب أيمن، الذي فرَّغ نفسه لخدمة أبيه في الغربة، فقد كان الدكتور عبد الرحمن بعيدًا عن زوجه وابنتيه، فهنَّ يُقِمْنَ في أبو ظبي، وقد طلبتُ منه في هذا اللقاء بحثه المعنون بـ: ”انتشار الإسلام في الأندلس“ والذي لخص فيه حقيقة الفتح الأندلسي، بقوله: (إزالة الحواجز مِنْ أمام الشعوب لتختار -حسب قناعتها ورغبتها وتوجهها، دون عوامل أخرى- بعد أن يَتَعَرَّفَ أهلُها على الإسلام، لذلك كان فتحًا إنسانيًا، وبدايةً لحدَثٍ حضاريٍّ فريد لإسبانيا وأوروبا، ثم للعالَم) فبادر بإرساله إليّ بالبريد الآلي بكل سرور.
وقد كان لقائي معه لقاءَ مودّعٍ، فخرجت من عنده والألم يعتصرني، أني لا أملك له شيئًا، فقد كنت أظنُّ أني لن ألقاه بعدها إلا في جنة الخلد -إن شاء الله تعالى-.
ورحم الله عبيد الله بن الحسين حين قال:
من لم يَذُقْ فُرقةَ الأحبابِ ثمَّ يَرَى *** آثارَهم بعدهم لم يَدْرِ ما الـحُزْنُ
وإذا كان مكانه بيننا كبيرًا، وكان فَقْدُه علينا أليمًا، وعلى أهله وأولاده ومحبيه، فإن عزاءَنا فيه، أنه في خير، وإلى خير، وليس لنا إلا ما يُرضي ربَّنا، الصبر والدعاء، فهو إلى الدعاء أحوج منه إلى الثناء.
وقد ذكر العلماء أن في التعزية ثلاثة أشياء:
أحدها: تسلية أهل الميِّت وحضُّهم على الصبر والرضا بالمقدور.
الثاني: الدُّعاءُ للمَيِّتِ وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ والاسْتِغْفارُ لَهُ.
الثالث: الدُّعاءُ لأهل الميِّت بالثَّواب وحُسْن العُقبى والمَآب.
وإن مِن التقوى ومِن أداء الفرائض أن نقول عند المصائب: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فَثِقُوا يا أهله ويا أحبابه بِاللَّهِ وارْجُوه؛ فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَاب، وإن في الله عزاءً من كلِّ مصيبة، وخَلَفًا من كلِّ ميِّت، وعوضًا من كلِّ فائت.
الهوامش:
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات