حديث العراق
حديث العراق
حسان الحديثي
في مطار لندن:
كانت السماء تنذر بعاصفة ثلجية حين خرجت في الثامنة صباحًا يوم الرابع والعشرين من شهر يناير البارد لأستقل سيارة الأجرة التي ستقلني إلى المطار، كان جو لندن يومها مليئًا بنثيث كثيفٍ بارد جعلني أضع حقيبة السفر في صندوق السيارة بسرعة وأندس داخلها كصغار الثعالب حين تلج جحورها عند إحساسها بالخطر.
نعم كان الوقت مبكرًا للذهاب إلى المطار بطرقات شبه فارغة بسبب جائحة كورونا والتي جعلت الناس في سبات البيوت، ولكني خُلقت هكذا أعيش بقلق الخوف من التأخر عن الموعد لذا تجدني حريصًا أن أصل قبل الموعد دائمًا بل أهون على قلبي أن أصل قبل الموعد بساعة من التأخر عليه دقيقة.
كانت الساعة تشير إلى دقائق قليلة قبل التاسعة حين وصلت المطار وموعد رحلتي الواحدة بعد الظهر قائلًا لنفسي: لابأس بأربع ساعات من التسكع في أنحاء المطار ومَرافقه ومَطاعمه وأسواقه حتى يحين موعد الإقلاع، ولكن كل تلك التخيلات والأماني تكسرت على عتبات الواقع -كطبقة جليد تغطي بركة ماء تحت أقدام دب قطبي- حين دخلت صالة المغادرة فوجدتها فارغةً إلا من بعض عمال التنظيف وموظفي شركة الخطوط الجوية، صامتةً إلا من مكبرات الصوت التي تعلن كل دقيقة عن وجوب الالتزام بتعليمات السلامة ولبس الكمامات وتعقيم اليدين في مبنى شبه خالٍ من البشر مضافًا إليه طبع الإنكليز في الإلحاح والمبالغة بضرورة اتباع الأنظمة والتعليمات.
حين أكملت إجراءات المغادرة على كاونتر شركة الخطوط ثم كاونتر الجوازات وانتقلت إلى صالات الترانزيت أحسست بوحشة تكاد تأكلني لا ينقصها إلا عصافيرُ السياب الخالد وديدانه التي تأكل جثة الصمت في “منزل الأقنان” حين يقول:
ذوائبُ سدرةٍ غبراءَ تزحمها العصافيرُ
تعدّ خطى الزمان بسقسقات والمناقيرُ
كأفواه من الديدان تأكل جثة الصمتِ
وتملأ عالم الموتِ
نعم هذا الجمود المخيف في اكثر الأمكنة لغطًا كالمطارات يحتاج أن يُكسر، هذا الصمت الموحش يحتاج إلى ضجيج يفتته ويرسله إلى ما وراء العودة ولكن كل شي مؤجل في زمن كورونا.
هناك أمر غريب يحدث معي في كل سفر، فأنا لم أسافر يومًا ولم اأكب طائرةً أو قطارًا أو حتى حافلة إلا وكان السياب موجودًا معي يرافقني في رحلتي؛ أنشد بعض أشعاره وأردد مقاطع من قصائده، ولا يخلو الحال من بعض المطر، غير أني في هذه المرة ملت من السياب إلى سعدي يوسف لقصيدة أحبها وأجدها تلامس قلبي، كان قد كتبها سعدي في بعض أسفاره أظنه كان يومها في “فورتيسا/ لاتيفيا” فصرت أردد -وأنا أمشي في أروقة المطار- شيئًا منها:
سأرحلُ في قطارِ الفجرِ، شَعْري يموجُ وريـشُ قُـبَّعَتي رقيقُ
تناديني السماءُ لها بُروقٌ ويدفعُني السبيلُ بهِ عُروقُ
سأرحلُ… إنّ مُقتبَلِي الطريقُ سلامـــًا أيها الولدُ الطليقُ!
هناك أمرٌ غريب آخر يحدث معي كلما قرأت شيئًا للسياب ومحمود البريكان وسعدي يوسف شعرت أنهم إخوةٌ في الشعر، تسري فيهم الدماء الشعرية ذاتها وينتسبون إلى أب شعريٍّ واحد واتصالهم بوادي عبقر بنفس الشيطان الشعري، فهل من موافق لي؟
ولكن رغم كل ما تقدم لا أكتمكم لقد مرت الساعات الأربع بطيئةً ثقيلةً موحشةً في مبنى هائل المساحة لا يوجد فيه أكثر من مئة مسافر أو يزيدون قليلًا، هو بالضبط كملعب لكرة القدم يتسع لعشرات الآلاف وفيه مئة متفرج فقط هكذا بدت لي الصورة حينها، لا بأس قلت لنفسي معللًا فأنا إنسان أحب المطارات حتى وهي فارغة وأجد لها عزاءً في نفسي وأجد لها بعض الفلسفةً أيضًا، فأوقات الانتظار فيها -رغم كل شيء- لا تخلو من الأُنس ويملؤها الحماس ويلفّها الدفء وأجدها تختلف عن بقية أوقات الانتظار، فهي بين اثنين؛ مسافرٍ منها وزائرٍ لها؛ فأما المسافر فهو أحد اثنين؛ قادمٍ بشوق أو مغادرٍ بلوعة، وأما الزائر للمطار فهو بين حالين؛ متلهفٍ لعناق أو مضطربٍ لفراق.
وأرض المطار أرض طيبة لأنها مترعة بالحب ملآنة بالشوق والمودة، وإني أحسَبُ أن المطارات من أكثر الأماكن صدقًا للعواطف فمن لم يمسّه الشوق للقادمين لن يأتي لاستقبالهم ومن لم تُحرقْه جمرةُ فراق المغادرين لن يأتي لوداعهم.
والمطارات تحوي النقائض والتضاد؛ ففيها من البِشْرِ بقدر ما فيها من القَهْر وفيها من الغبطة والفرح ما يعادل الذي فيها الحزن والترَح.
وهي أيضًا أرضٌ ملأى بالدعاء، وفضاءٌ مكتظ بالرجاء، تحوي أفئدةً حاضرة العَبرة والخشوع، وعيونًا غزيرة الشجى والدموع، والناس فيها بين متأهب لركوب الفضاء أو هابط من أعالي السماء، ولو سئلتُ عن اسمٍ بديل للمطارات لأسميتها أرض الوداد فلو تبخرت عواطف الناس في المطارات لغام فضاؤها حُبًّا وشوقًا ولأمطرت سقوفها قلوبًا وأكبادًا وأفئدة.
غير أن حرارة الشوق والفراق التي كان يشعر بها ركّاب الطائرة يومها في داخل المبنى يعادله بردٌ جارف خارج المبنى سيما وقد بدأ للتو تساقط الثلج وبدأت الأرض تكتسي بالبياض مستدرجة العيون لمتعة النظر رأيت ذلك حين قام ثلة من المسافرين يمشون مسرعين باتجاه ألواح الزجاج العظيمة الحجوم الفاصلة بيننا وبين أرض المطار ومَدارجه ليروا أحد أجمل المناظر وأكثرها روعة وهي أن تنظر لمعالم البرد وتساقط الثلج من مكان دافئ، عندها تختلط فيك أحاسيس البرد والدفء والشوق والسفر وتشعر أنك محاصر بالبكاء من كل جانب، فنحن الغرباء تقوم بين عيوننا شاهدة شاخصة ويعلو بين جوانحنا ضريح دائم.
غير أن تساقط الثلج بعث في نفسي شيئًا من الريبة والخوف فإذا ازداد تساقطُه وغطى أجنحة الطائرة سيتأخر السفر حتى يزال الثلج من فوقها وهذا يأخذ وقتًا، وقد حدث معي قبل بضع سنين في مطار شارل ديغول في باريس حين غطى الثلج طائرتنا فلم تقلع إلا بعد أن أزيل الثلج عنها فتأخر الإقلاع يومها لأكثر من ساعتين.
لم يكسر شعور الخوف والترقب إلا مكبرات الصوت ذات الأصوات البائسة وهي تعلن أن علينا التوجه إلى بوابة المغادرة فقد حان موعد السفر فلملمت أشيائي ومشيت باتجاه بوابة المغادرة، لكن الغريب أن رواق الممشى من صالة الانتظار إلى بوابة الصعود إلى الطائرة طويلٌ جدًا وبلا مسوغ، لماذا يجعلون طائرتنا على أبعد بوابة؟ وليس من طائرة مغادرة غيرها في ذلك الصباح المنجمد؟ ليس ذلك فحسب ولكننا فوجئنا أن بوابة المغادرة لا تصلنا بباب الطائرة من خلال خراطيم المطار كما هو معلوم ومعروف بل نحتاج إلى الخروج والمشي إلى سلم الطائرة تحت الثلج وبمواجهة ريح عاصف، استاء الجميع وأنا منهم ولكن استياءنا لم يكن ليغير من حتمية الأمر شيئًا فالإذعان في هكذا حالات أمر لا مناص منه.
كانت مسافة المئة متر التي مشيناها من بوابة المغادرة إلى الطائرة طويلةً باردة متعبة فكانت نهاية وجودنا في مبنى المطار تليق بالساعات البطيئة التي قضيناها في وحشة هيكل مبنى فارغ لا يحده مدى ولا يملؤه صدى، ولكني بقيت أردد: “سلامًا أيها الولدُ الطليقُ” وأنا أصعد سلم الطائرة ثم وأنا أمشي في الممر الوسطي بين المقاعد باحثًا عن مكاني بين وجوه منقبةٍ بكمامات تخفي تحتها الجمال والغضب والحزن والفرح ولا يبدو منها غير عيون متسائلة ومستفهمة عما يحدث وإلى ماذا سيؤول إليه الحال، أما أنا فمستمر بترديد “سلامًا أيها الولدُ الطليقُ” حتى استويت جالسًا في مكاني المخصص ولم ينهِ ترديدي لبيت سعدي يوسف إلا صوت طقةِ حزام الأمان وأنا أربطه حولي لأتسمر على مقعدي مع شعور بأني لم أعد طليقًا بعدُ حتى حين…
إلى أربيل:
طالما وقفت متحيرًا أمام فكرة حزام الأمان في الطائرات فهو في حقيقته لا يحمي من الموت البتة، ولكنه يحمي راكب الطائرة -بعد أن يموت- من أن يكون شيئًا متحركًا في فضاء الطائرة التي ستصبح -عند تعرضها لحادث- كخلاط سيدات المطبخ الذي يفرم الأشياء ويحيلها إلى خليط لزج ويحيل الأشياء المعروفة إلى منكرة الشكل واللون والملمس، هذا لا ينفي أن الإحصائيات تضع الطائرات واسطةَ النقل الأكثر أمانًا بين وسائط النقل، ولكني في الحقيقة أرى وسائط النقل كلها أكثر أمانًا وثقةً من وسائط التواصل الاجتماعي.
بغضّ النظر عن كل ما تقدم، شخصيًا أحب لحظات إقلاع الطائرات وأشعر أنني لا أحتاج في تلك اللحظات إلا إلى ترك التفكير بأي شي والتفرغ للاسترخاء والتأمل بعظمة صنع الله لعقل الإنسان الذي أبدع كل هذا الإبداع. فهذه اللحظات -بالإضافة إلى مزيج الخوف والتوجس والسعادة الذي تبعثها في النفس- هي تغيير كونيٌّ لطبيعة الخلائق بل هي أشبه بلحظات اختراق الناموس، والناموسُ هو قانون الأشياء وشريعتها وطبيعتها في الخلق والتكوين والتأثير، فالإحراق هو ناموس النار والإغراق هو ناموس الماء وهكذا، وما نجاة إبراهيم من النار ومشي عيسى على الماء إلا معجزات عطّل بها الله طبيعة النار والماء في الإحراق والإغراق..
والطيران هو طبيعة الطيور وسبيلها في الانتقال وعندما يطير الإنسان أو يغوص في أعماق البحار والمحيطات فهو في الحقيقة يأخذ من الطيور والأسماك طبعها وطبيعتها وذلك كله كسر لناموس الحياة، ولو طار الإنسان في العهود القديمة لآمن به من حوله من البشر ولاعتبروا صُنعَه معجزةً من المعجزات لأنه أمر خارق لطبيعة الزمن والبيئة اللذين يعيش فيهما.
ولحظة إقلاع الطائرات فيها إحساس هائل الجمال فأنت -وان كنت حبيس أسطوانة طويلة يمتد في جنبيها جناحان عظيمان تخترق بهما الفضاء بسرعة عالية- إلا أنك -أيها الإنسان- استعرتَ من الطير طبيعته واخترقت بالعلم ناموسه الأزلي والأبدي، بل وتجاوزته في الارتفاع والعلو إلى طبقات لا يستطيع الطير بلوغها، فيا أيها المحلّقون في الطائرات تمتعوا بأوقات تحليقكم فإنها أوقات انتصار عظيمة للإنسان كسَر بها الناموسَ بالعلم.
كانت الرحلة التي دامت أربع ساعات ونصف من لندن إلى إسطنبول آمنةً هادئةً مستقرةً لم يشبْها اهتزاز ولا تأرجح، اللهم إلا ميلانٌ خفيفٌ عند الاستدارة واهتزاز لطيف في لحظات الهبوط والتي كنت قد وصفتها يومًا فقلت عن الطائرة لحظة هبوطها: إنها تجري على المدرج كالسهم وتلامس الأرض كمفلطح الحصى يُقذف به وجهُ الماء.
كان مطار إسطنبول على النقيض من مطار لندن في الضجيج والازدحام وكأن مَن فيه من البشر يعيشون خارج زمان كورونا؛ طائرات تهبط وطائرات تقلع ومسافرون قادمون من وجهات مختلفة وراحلون إلى وجهات مختلفة، لقد وقفت طويلًا أمام توصيف المطار؛ كيف وبماذا أشبهه فوجدت أنه أشبه بمبنى البريد الذي يستلم الرسائل والطرود من أنحاء مختلفة ليعود ويرسلها إلى أنحاء أخرى مختلفة لكن الاختلاف بين مكتب البريد والمطار أن البريد محطة اتصال للجمادات والمطارات محطة اتصال للجمادات والبشر على حد سواء.
الشيء المميز في مطار إسطنبول أنه عامر بالمطاعم والمقاهي التي تقدم الوجبات والأطباق التركية المحلية لا كبقية المطارات التي تقدم في غالبها الوجبات العالمية المنتشرة أو ما يسمى اصطلاحًا بـ”مطاعم الوجبات السريعة” وهذا أمر يحسب للأتراك في هذا الاختلاف الإيجابي، كما أن أروقته ومَرافقه ونواحيه قادرة على القضاء على أوقات الترانزيت والانتظار التي يعاني منها المسافر في بعض المطارات الأخرى ولا ننسَ أن إسطنبول تصل العالَم بمدن في آسيا وبلدان القوقاز كذلك بلدان آسيا الوسطى الممتدة من بحر قزوين غربًا حتى الصين ومنغوليا شرقًا، ومن أفغانستان جنوبًا حتى السوفيت وجمهورياته المنحلة شمالًا. وهذه الرقعة الجغرافية لم نطّلع عليها جيدًا وعلى طبيعة سكانها كاطلاعنا على جغرافية وطبيعة أفريقيا وأوروبا وأمريكا بالإضافة إلى جغرافية الشرق الأوسط والعالم العربي لأجل ذلك ترى في مطار إسطنبول من الناس والأجناس ما لا تراه في مطارات العالم الأخرى. ولأجل ذلك أيضًا انقضت الساعات الأربع بلا ضجر أو ملل لتنطلق بنا طائرة أخرى إلى الجنوب الشرقي، إلى أرض الحضارة الأقدم والأخصب والأعرق، إلى أرض التضاد والمفارقات والعجائب إلى الأرض الأكثر حظًا في هبوط الأنبياء والأسوأ حظًا في سفك دماء الأولياء، الأرض التي انطلق منها قانون العدل لتعيش تحت وطأة الظلم والاستغلال، الأرض التي انبثقت منها حروف الكلام والحساب والأرقام لتتأخر عن ركب العلم والمعرفة، الأرض التي أنجبت العلماء والأطباء ليسافر أهلها إلى بلاد الهند والترك للتطبب وطلب الدواء والشفاء… إنها أرض العجائب والمتغيرات حقًا إنها أرض ما بين النهرين.
أقلعت الطائرة المتوجهة بنا إلى مطار أربيل الساعة الحادية عشر والنصف ليلًا وكانت رحلة آمنة هي الأخرى ولم ينغص عليَّ متعة التحليق سوى مضيّف الطائرة الذي اتخذني هدفًا له؛ كلما نزلتْ كمامتي قليلًا من على أنفي اقتنصني من بعيد وجاء مسرعًا ليطلب مني لبسها بشكل صحيح بحيث تغطي الأنف والفم، لقد أثار حفيظتي بتركيزه عليَّ دون بقية المسافرين فلم يكن أمامي إلا الاحتيال عليه حين ملأت كوبي ذا النصف لتر والحافظ للحرارة -والذي أحمله معي دائمًا- ملأته بالشاي وأزحت كمامتي كليًا لأتمتع بارتشافه حسوة بعد حسوة على ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم وكلما طلب مني ذلك المضيّف لبس كمامتي تعذّرت له بشرب الشاي، ساعتان ونصف من المضايقة والإغاظة المتبادلة بيني وبينه حتى حطّت بنا الطائرة في مطار أربيل عاصمة كردستان العراق.
أربيل مدينة في شمال العراق ذات أغلبية كردية والشعب الكردي يمثلون جزءًا أصيلًا من شعب العراق كما أن هناك تمازجًا وتزاوجًا قديمًا بين العرب والكرد وتشابهًا في بعض الطباع ونظام المعيشة والحياة، تغيَّر بعضها في السنين الأخيرة وبقي الأغلب كما هو، وأربيل هي المدينة الأكثر تنظيمًا وترتيبًا وأمانًا بين مدن العراق وقد نأت بنفسها عن المشاكل في مدن العراق الأخرى وهذه الأسباب جعلت السياحة والاستثمار والإقامة فيها هدفًا لكثير من العراقيين لذا لا يجد العراقي اختلافًا من حيث الطبيعة والحياة إلا اليسير الذي تفرضه عادات وتقاليد الشعب الكردي فيها.
كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا من يوم الخامس والعشرين من شهر يناير حين هبطت الطائرة وكان المطار هادئًا ودافئًا وفارغًا أيضًا إلا من مسافري الرحلة التي وصلتُ عليها للتوّ ويبدو كل شي في المطار مرتبًا وجميلًا ولم تفُت إلا دقائق لأنهي إجراءات الوصول واستلام حقائبي ليكون وجه صديقٍ لي أوّل وجه ألاقيه في المطار بعد ست سنوات لم أره فيها، كل شيء فيه كما هو؛ طبعُه ولطفُه ووجهُه الضاحك سوى بعض الشعرات البيضاء التي نبتت بسالفتيه الفاحمتين…
لم تكن نهاية الرحلة في أربيل، فصديقي الجميل هذا كان قد جهّز لي سيارةً تقلّني مباشرة من أربيل إلى العاصمة بغداد، فلم أكن أريد التأخر كثيرًا في أربيل إلا قدر ما أجبرني عليه صاحبي لشراء خط تلفون والتزود ببعض قناني الماء ولفيفات لسد جوع الطريق وإعادة ملء كوبي الأنيق بالشاي العراقي المعطر بالهيل من أحد مقاهي الأحياء الشعبية في أربيل، كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف حين بدأت رحلة جديدة ولكن برًّا هذه المرة إلى بغداد، انطلقَ بي سائقي فجرًا إلى الجنوب فعاودتُ ترديد أبيات سعدي يوسف:
سلامًا أيها الولدُ الطليقُ حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ
ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقًا وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ
سلامًا أيها الولَــدُ الطليقُ
اقرأ أيضًا: