المنهج الأدبي للعلامة محمد بهجة الأثريّ
المنهج الأدبي للعلامة محمد بهجة الأثريّ
د. عماد خليفة الدايني
العلامة المصلح محمد بهجة الأثريّ -رحمه الله- كاتبٌ فذٌّ بليغٌ فصيح، وخطيبٌ مُفوَّه، وشاعرٌ فحل مجيد، من الطراز الأول، وهو ناثر بارع متمكن، وعند مطالعة نتاجه الأدبي من نثر وشعر نجد فيه ثروة فكرية عظيمة هائلة، ومثال يحتذى للشعراء والأدباء في الأدب الإسلامي المتزن الملتزم، والأدب العربي المحافظ بصورة عامة، فاستطاع العلامة محمد بهجة الأثريّ أن يرسم لنفسه طابعًا يميّزه في شعره، وأدبه، وعلمه، فقد سخر إمكاناته العلمية والأدبية لنصرة الإسلام والعروبة، وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والأدبية، إلا أنَّ النشاط الأدبي كان أبرز الميادين الّتي جاهد من خلالها العلامة الأثريّ -رحمه الله- وكافح في سبيل نصرة فكرته.
وإنَّ مما يؤسف له أشد الأسف أنَّ كثيرا من المصادر التي تناولت الأدب الإسلامي المعاصر لم تذكر العلامة الأثري، ولم تشر إليه ولا إشارة، وكان حقه أن يكون في مقدمة القوم، وعلى رأس القائمة، وينبغي أن لا تخلو مناهج التعليم من أدبه في مراحله جميعا، فإن قصيدة واحدة مما كتب تعادل جميع أنجز غيره بل تفوقه، ويقوم منهجه الأدبي بشعره ونثره على مرتكزات أساسية وسنتناول فيما يأتي طرفا منه ليتضح لنا منهجه الأدبي:
المطلب الأول: نثره:
نذكر الآن بعضًا من نثره الفني، لنقف على منهج هذا العَلـَم العراقي المصلح والداعية والعالم المربي، فإنَّه على مستوى نثره قد أجاد وأفاد، وكان مدرسة في الإصلاح، وبناء الدولة الناجحة، والأجيال المتعلمة المتفتحة، ومن أبرز قضايا منهجه في النثر:
- نصرة الإسلام بعقيدته الصحيحة الصافية، ومنهجه القويم السلفي الأثري:
يقول الدكتور محمود جواد المشهداني: ” آمن العلامة الأثريّ – رحمه الله – بالإسلام إيمانًا صادقًا، ونبذ ما سواه من المبادئ والأفكار الأخرى، ولم يُعرف عنهُ أنه أنضم إلى حزبٍ من الأحزابِ السياسية، كما انه لم يؤازر حزبًا أو جماعة في شعره ونثره، وإنما وجه كل امكاناته إلى محاسن الإسلام، والعروبية، والعربية “، فمما أجاد فيه وأفاد في نصرة الإسلام، والانتصار للعقيدة الصافية النقية السنية السلفية الأثرية ما جاء ترجمته لشيخه ومعلمه علامة العراق العلامة السيد شهاب الدين أبو المعالي محمود شكري الآلوسي الحسيني: ” ثم ما لبث الألوسي أن أصحر عن انحيازه في جرأة وقوة إلى الحركة السنية السلفية، مع مقاومة الدولة العثمانيـة الصوفيــة لهذه الحركة الإصلاحيــة بكل قواها الرجعية، واستعلن وقوفه إلى جانبها بكتابه (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان) الذي فرغ من تأليفه في غرة ذي الحجة سنة ١٣٠٦ هـ وطبع بالهند سنة ١٣٠٩ هـ.. “.
وقال الأثري عنه أيضا: ” ومن يطالع كتابه (الآية الكبرى) يرى عبارات قوية تزعزع أساس الباطل، وتحدث دويًّا بوجهه، لكنها مبنية على أساس علمي رصين “.
ونعيش الآن مع نصوص من نثر العلامة محمد بهجة الأثريّ – رحمه الله – لنتعرَّف من خلالها على منهجه الأدبي، وما يؤمن به، فهو يقول: ” يقول المحرومون عِلْمَ ما عَمِلَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والجاهلون بتاريخ الإسلام: ” الثورة الفرنسية الّتي هدّت (البستيل) هي الّتي منحت الإنسان الحرية والحياة “.ونقول: أسألوا الدهر عن ثورة المسلمين بعد ما ثار بهم ” ابن عبد الله ” على ألف بستيل وبستيل من سجون العقل والوجدان، وخرافات الكهنة وكهنة الخرافات.
ويقولون: بسمارك ونابليون وجان دارك …ونقول: أبو بكر والفاروق وذو النورين وعليّ وخالد وخديجة وحفصة وعائشة وأسماء وفاطمة والخنساء وألوف من الرجال والنساء.
ويقولون: مدنية القرن العشرين للميلاد. ونقول: مدنية القرن الأول للهجرة: مدنية القرآن، ومدنية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي الأولى والأخيرة في تاريخ الإنسان من الأزل إلى الأبد، وإن كابر المكابرون.
ويقولون: اختراعات الحضارة الغربية، ونقول: جسم من غير روح، ووحشية من غير رحمة، غازاتٌ خانقة، والآت مدمرات، وتوثّب إنسانٌ على إنسان، وأمة على أمة من أجل البطن، وظلم القوي للضعيف في غير هوادة ولا رحمة!
ويقولون: شرائع أثينا وروما وباريس، وأمثال هذه الواوات من لعنات الغرب. ونقول، ويقول معنا الدهر: الإسلام ثمّ الإسلام ” إنَّ الدين عند الله الإسلام” ويقولون: ذكرى الجندي المجهول، ونقول: ذكرى منقذ العالم محمد ” صلى الله عليه وسلم ” ويقولون: القانون، ونقول: كتاب الله “.
ومن نثره في نصرة الإسلام، والانتصار للعقيدة الصافية النقية الأثرية ما جاء في مقدمة رسالته “محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد” قال: “فقد دعتني رئاسة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لأشارك في هذا الأسبوع المحمودة مقاصده، مشكورة على حسن الظنّ، فتذكرت نبأ أمير مشرقي كان مولعا بالكتب سمع بكتاب ألفه أديب في الأندلس، استحسنه الأدباء وقرظوه، فتاقت نفسه إليه، فلما حصل في يده لم يجد فيه ما لا يعرفه، فأطبق عليه دفتيه، وقال: ” هذه بضاعتنا ردت إلينا “!
- فقلت في نفسي: ليت شعري ما الذي حدا بالقوم أن يدعوني إلى أمر هم أهله، ومنهم يقتبس الحديث عنه؟ فما عسى أن أحمل إليهم من شيء يعلمون من ظاهره وخافيه، ومن موارده ومصادره ما لا أعلمه؟ أآخذ بضاعتهم وأردّها إليهم؟ أأخلف نخيل هجر، فأحمل إليها تمرا من العراق؟
- وهتف بي هاتف من النفس يقول: أن لا، ليس الرأي ما تراه، فإنّ القوم كما تعرفهم أذكى من أن يذهب ذلك عنهم، وليس بنخيل هجر إخلاف، إنّهم إنما دعوك لتسمع منهم فتتعلم.
- فقلت له: إنّ هذا لهو حق اليقين، وإنه لجميل!
- فقال: وإذا نطقت لتُسمع ما عندك فجُرت أو أخطأت سدّدوك.
- فقلت: وإن هذا والله لأجمل .
- فعزمت، ولبيت، ولساني يخاطب نفسي بما قال أبو العلاء ([1]):
خُذِي رَأيِي وحَسبُكِ ذاكَ مِنِّي علـى ما فِيَّ مِن عِوَجٍ وَأَمْت ِ
وَمَاذا يَبتَغِي الجُلساءُ عِندي أَرادُوا مَنطِقِي وَأَرَدتُ صَمتِيْ
- وإن رجيت إذ أنطق بالذي دعيت له أن لا أجامل فيُغضَى على أمْتٍ كان الصمت يسرّه”([2]).
- حبه للعروبة وانتصاره للعربية:
قال العلامة محمد بهجة الأثري رحمه الله في حبه للغة العربي وتعلقه بها: ” لقد عشقت اللغة العربية؛ لأنها المكون الأول للثقافة، فاللغة هي الوعاء الذي يحمل الفكر والعقيدة، ويحمل الفلسفة والسياسة، والمدرسة التي انتميت إليها العربية الإسلامية كانت خير معبر عن هذا التفاعل بين هذه اللغة وجميع شؤون الناس “.
- الرد على الشعوبية:
مما أجاد فيه وأفاد في نصرة العربية والرّد على الشعوبية وفضح أكاذيبها، وذلك في مواضع كثيرة في أدبه، نثرًا وشعرًا، ولعلَّ مساجلته لأحمد حسن الزّيات على صفحات البلاد، والرّد على الفرية الشّعوبية القائلة بعلاقة الشاعر وضّاح بالرفيعة النسب والحسب أم البنين الأموية.
وللعلامة الأثريّ – رحمه الله – كتاب مخطوط بعنوان (الرّد على الشعوبية) وهو نقض لكتاب المثالب لابن الكلبي.
وقال الباحث حميد المطبعي عن جهود العلامة الأثريّ – رحمه الله – في التصدي للحركة الشعوبية: ” وله في هذه الحركة فيما بعد العشرينات نقود ومعارك حارب فيها هذه الحركة ودعاتها والدائرين في فلكها “.
وقال الكاتب الإسلامي أنور الجندي الّذي حضر مؤتمر ” الدراسات العربية ” في الجامعة الامريكية في بيروت (عام: 1951م) وكان العلامة محمد بهجة الأثريّ – رحمه الله – قد اصطفته الجامعة في عداد أربعة أعلام لمشاركتها في محاضراته، وطلبت إليه أن يُحاضر في موضوع الاتجاهات الحديثة في الإسلام، يقول الجندي: ” هذا واحدٌ من هذه المجموعة الّتي قاومت الغزو الفكري، والتغريب، والشعوبية، دون توقفٍ في حملاتها الضارية على اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي.
- قضايا الأمة:
من أهم قضايا الأمة في هذا العصر هي القضية الفلسطينية، والتي شغلت الأمة جميعا، وشغلت العلامة الأثري رحمه الله كثيرا، وأخذت أغلب جهده، وساعات حياته، فقال رحمه الله: ” فلسطين التي كانت مركز التطاحن بين قوتي الشرق والغرب، وكان مصابها الفادح باعثا لأمم الإسلام من عرب وأكراد وتركمان على اتحاد كلمتها، قد عادت لها اليوم محنة أمسها الدابر، في مختلف شؤونها وأحوالها، وإن محنتها هي محنة هذا الشرق العربي الإسلامي، تتلاقى عند همومه، وتتذامر من أجلها شعوبه “.
المطلب الثاني: شعره:
لقد بدأ العلامة محمد بهجة الأثريّ – رحمه الله – بقرض الشعر منذ صباه، ومعينه في ذلك دراسته للغة العربية واهتمامه بالوقوف على أسرارها، وما تطلبه ذلك من العكوف على دراسة الشعر الجاهلي والغوص في أغواره، واستفتاح مغاليقه، ثمّ بعد ذلك دراسة الشعر العربي في مختلف عصوره وعلى تعاقب دوله، على تطاول الأيام حتى شعراء النهضة الحديثة كل ذلك أعانه على حسن استعمال ملكة الشعر، وعلى إبراز مواهبه الفنية في صور تدعوا إلى الإعجاب فجاء شعره قوي محكم، متين الأسباب، يجمع بين قوة التعبير ودقة التصوير، ومتابعة ما جد من فنون الشعر، من تطور مع المحافظة على أصول هذا الفن العريقة، والإمساك بأوتار الشعر في أزهى عصوره وأبهى مَجالـِيه ([3])، وإذا ما وازنا شعره بشعر الفحول، وجدناه يضاهيه، فإنَّه شعر عالٍ من الطراز الأول، وله قصائد حقها أن تكون من المعلقات، فإنه متميز بجزالة اللفظ، وقوّة الصياغة وبراعة التعبير، وإبداع النسج وإحكام القوافي، وطرافة المعاني، مع توافر الغنائية وانسجام القصيدة بيتا بعد بيت إلى جانب تنوع الأغراض والمقاصد والاتجاهات، مع المحافظة على قواعد الشعر العربي الأصيل ([4])، وكان القدماء إذا أرادوا أن يذموا شعر شاعر قالوا: ” هذا شعر العلماء “، وهو صحيح إلى حد ما ([5])، فالعالم قد يشغله علمه وبحثه عن الإبحار في الخيال وولوج بحر العواطف، فيكون علمه في خط متقاطع مع جودة شعره، لكن هذا ليس قاعدة مضطردة، ولا لازم لجودة شعر كل عالم وإبداعه، فقد برع عندنا علماء في شعرهم كما برعوا في علمهم كما هو الحال عند الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعند مطالعة شعر العلامة محمد بهجة الأثريّ – رحمه الله -، نجده ” شعرا متألق القسمات، فتان الرواء، يتيه بأبراد موشاة بأروع الصور، تحس معها صنعة من يتذوق الجمال، ويحسن اختيار الألفاظ، وتشتم وأنت تقرأه شذا الريحان، وعبق النرجس، وأريج الياسمين ” ([6])، فالأستاذ الأثريّ – رحمه الله – لم تذهب سعة علمه وتبحره بنضارة شعره ورونقه، ولم يكن علمه متقاطعا مع إبداعه الشعري كما حدث لآخرين، بل سارا في خطين متوازيين يكمل أحدهما الآخر، فما زال أدبه عموما وشعره بالأخص، ميدانا خصبا للدارسين، ومنهلا عذبا للمتذوقين، فلو أخذنا مطلع قصيدته العصماء ” نبي الرحمة ” ([7]):
إذا اعتاد همس القول في الحق شاعر فإني غير الجهر لم أتعود
بحسبي أني في اعتقادي مسلم وأني بخير الخلق بالخُلق مهتدي
وماضرني إن فاتني هدي مذهبٍ إذا كان هديي بالنبيّ محمَّدِ
لوجدنا أنّه يفصح عن غاية طرفه من الأدب، ومرمى عصاه من الشّعر وعلوم لغة القرآن فالعلامة الأثريّ – رحمه الله – هو أحد شيوخ الأدب العربيّ الإسلاميّ، والقوّامين على اللغة العربية، ومن أبرز شعراء العراق والأمّة، محقّق ثبت، ومؤلّف واسع الاطّلاع، ملتزم في أدبه وحياته بإسلامه، وهو في شعره ونثره بليغٌ مشرق الديباجة، وأهمّ ما يمثل لنا مذهبه في الشعر ونظرته إلى المضمون الشعري هي قصيدته “الشعر والصدق” وهي([8]):
ذرِ الشعرَ أملاه الهوى وتَذَبْذَبَا وإن نفث السحرَ الحلالَ وطرَّبَا
ونشَّر كالطاووس وشيًا مزوقًا وغنَّى وطرَّى واستمال وشبَّبا
هو الزيف لا يذهبْ بلبِّك فخرُه تفاخَرَ لما عن هوى الصدق نَكَّبا
يغطي به ذل المديح مشرِّقًا بسفسافه حينًا، وحينًا مغرِّبا
ثم يقول فيها ([9]):
وصُبَّت أهاضيب المخازي مُلِثَّةً على شاعر ينحو المديح تكسبا
تخايل عُجبًا بالقوافي ونفسه وكان له أولى بأن يتحدَّبا!
ودع عنك من أضفى عليه ثناءه فما اجتمع الشِّبهان إلا ليكسِبا
ويقول فيها ([10]):
ولا تشغلوا بالشعر بالكذب مصحبًا وروموا سموَّ الشأن بالصدق مذهبا
والشعر عنده تعبير عمّا يكنّه الوجدان الحيّ للشاعر، من تعاطف عظيم مع هذا الفنّ العريق، والسموّ به إلى حيث يضعه في أرفع مكانة، فقد قال في مطلع قصيدته ” الشعر كما أراه ” والتي تبلغ ثمانية وعشرين بيتا ([11]):
الشعر ما روى النفـوس معينه وجرت برقراق الشعور عيونه
وصفَت كلألاء الضياء حروفه وأزهت بوضاء البيان متونـه
مـتألق القسمات فتـان الرؤا يزهو صِبا الفصحى الطريرَ رصينه
حرّ المذاهب لا يشوب أصوله كـدر ولا واهي اللغات يشينه
ابن الحقيـقة والحقيقة نهجـه والصدق في أرب الحياة خدينه
وأما عن منهجه في الأدب، فقد نافح عن العقيدة الصحيحة الصافية، والمنهج الأثري، وذم التقليد والتعصب، ودعا إلى العلم الصحيح، ونبذ الخرافات والبدع، وتجاوب مع قضايا الأمّة الإسلاميّة وشعوبها فكان بطبيعته ثائرًا على الاستعمار وعملائهِ، فتجد في شعره صدى للأحداث الجسام التي ألمّت بالأمة.
وسنقف عند كل واحدة من هذه المنهجيات والأغراض الشعرية:
- العقيدة الإسلامية:
وهي التي تمثل الإسلام الصحيح المنقى من شوائب الجاهلية وظلمات الجهل، وعوالق البدع والخرافات، فهو اختار أن يكون أثريا قلبا وقالبا، وذلك يتضح جليا في شعره في القضايا الدينية، كما في قصيدته ” أنوار وتجليات ” ([12]):
ربِّ حارتْ في كُنهك الأفكارُ كلما فكَّرت عراها انبهارُ
كيف تسمو إلى اكتناهك خلق هن عن فهم خلقهنَّ قصارُ
بهرتها هذي الطبيعة والحُســـ ــــــنُ وهذي الآيات والأنوارُ
كيف فاضت وكيف نارت ومن أيـ ــــنَ استفاض الإبداع والإبتكارُ
وقف العقل دونها بهداه وهداه تنور واعتبارُ
إن تكن لا تُرى فآيُك شَفَّت عنك جهرا كما يشِفُّ النهارُ
ذو الحِجا يشهدُ التجلي في الكو نِ ويُضْحي في قلبه الإسفارُ
قد تنورت من جلالك ربي فوق ما أفصحت به الأسفارُ
رب أنت الغني وحدك والخلــــــ ـــــقُ عيال بهم إليك افتقارُ
لك وجهت يا إلهي وجهي ولأنوار وجهك الإكبارُ
وكذلك قصيدته ” على فم المارد ” افتتحها بقوله ([13]):
يَا نُوْحُ قُمْ دَارَتْ بِنَا الأَزْمَانُ عُبِدَ الْهَوَى وَتَجدَّدَ الطُّوْفانُ
إنّ هذا المطلع بهذه النبرة العالية والصوت المرتفع بحرف النداء ” يا ” يدلّ على أنّ هذه القصيدة تحمل أمرا عظيما، ثمّ يوضّح لنا طرفا من هذا الأمر وهو المنادى نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام- وظهور الكفر وتجدّد الطوفان.
- مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أولى المدائح النبوية أهمية في شعره، خاصة في نشاطات جمعية الشبان المسلمين، وفي المناسبات التاريخية المتعددة، وديوانه يزخر بقسم منه خاص بالمدائح النبوية، أسماه ” نبويات ” فيها غرر من قصائد الأدب العربي، وإني كنت أقول في كل موطن يُسأل فيه عن الرثاء: لقد قال حسان رضي الله عنه بيتا جمع فيه محاسن الرثاء، ولم يترك منه شيئا إذ قال ([14]):
وما فقد الماضون مثل محمَّد ولا مثله حتَّى القيامة يفقدُ
حتى قرأت قول العلامة الأثري في المديح النبوي، فوجدته هو الاخر قد سبق إلى مدح لم يلحق به غيره، إذ قال:
نظرتُ إلى الأجيالِ من نسل آدمٍ فَلم أرَ إنسانًا كمثل مُحَمَّدِ
وذلك في قصيدته” نبي الرحمة ” ومطلعها ([15]):
هو الحب يغريني بمدح محمدِ فتغشى جناني أيُّ هيبة سيدِ
وكم من فتىً يهتز للشعر يقتضي بيانيَ انشاد القريض المخلَّدِ
يُشرِّفني أنِّي أقولُ مديحَه وإنِّي بما قد سنَّ للناس مقتدِ
ولكنَّني فيما أُحاولُ عاجزٌ وان كان لي بِكْرُ القريضِ المُقلَّدِ
وإنِّي لو فُقتُ الأنام فصاحةً لما جئت مما يستحق بمُثمَدِ
أبى لي اقتداري مَظهَرَ العجزِ في الذي أحاولُ إلا في مناقب أحمدِ
نظرتُ إلى الأجيالِ من نسل آدمٍ فَلم أرَ إنسانًا كمثل مُحَمَّدِ
له سيرةٌ ما الروض في رونق الضح يقارب منها صفحةً ذاتَ مَشهدِ
تَمورُ بزاهي الحُسنِ حتى كأنَّها تُشِعُّ لسارِ الليلِ أضواء فَرقَدِ
وقال في قصيدة ” إنك لعلى خلقٍ عظيم “([16]):
لِمنِ السنا متألقًا أنواره تتضرمُ
الكون من إشراقه متلألئٌ متبسمُ
وعوالم الأملاء في أفراحها تترنَّمُ
لآلاء وجه محمد وبَهاؤه والمَيسمُ
ألقى على الدنيا الروا ء وطاب منه المغنمُ
زالت به البؤسى وحلت في الحياة الأنعُمُ
هو صفوةُ الحنفاء بل أسناهُمُ والأكرمُ
- حبه للعروبة وانتصاره للعربية:
وقد سلك في هذا منهجا مستقيما ينسجم مع عقيدته الإسلامية السلفية الأثرية، فإن عروبيته تقوم في الأساس على العروبة شرط أن لا تختلط بعلمانية، أو ماركسية، أو تعصب قومي يرفضه الإسلام ويسمه من أمر الجاهلية، ويرتكز فكره العروبي على الإسلام شرط أن لا يختلط بشعوبية لخناء تبغض العرب ولا ترى لهم فضلًا، وبالطبع على العربية لغة القرآن وأمُّ اللغات الّتي تمثل حلقة الوصل بين الإسلام والعروبة، وكفانا دلالة على ذلك أن خص هذه اللغة الجليلة بقصائد منها قصيدته النفيسة: لغة القرآن التي يقول فيها ([17]):
أأمّ لغَـات العالَـمِين بلاغـة وطِـيب مذاق واخـتلاف طُـعُـوم
بيانك أم ماء من الخلد كوثر تَـرَقْـرق عـذبًـا أم رحيـق كروم
سَـقـى كُـلَّ لَمَّـاح البيان زلاله مصفى وروى طبع كل حكيم
وبلغ من تمجيده لغة القرآن الكريم وتتيمه بها أن ختم قصيدته بفدائه لها بنفسه وبكل عزيز لديه:
فدى لك يا روح الجمال وسِـرَّه لغات الورى من حادث وقديم
ولو سامني دهري بحبك لافتدت هـواك حـياتي حـسبة ونعيمي
وقال في قصيدة ” نشيد العرب: الأمة. الوطن. العالم. الرسالة”([18]):
سَلِمتِ على الدهر يا أمَّتي حَيِيتِ مؤَبَّدة الوَحدةِ
تُناغيكِ في الأمنِ والغبطةِ رؤى السعد والمجد والعزةِ
مهنَّأة في ظلال السيوف مباعدةً من دواعي الحُتُوفِ
تحوطك في كل أرض زُخُوفٌ وتحميك نارٌ وبأسٌ مَخوفُ
سَلِمتِ وعِشتِ وعاش الحمى عزيزَ الأُروضِ منيع السما
يطاول بالعزِّ الأنجما وتحرسه من بنيه الدما
وقال في قصيدة ” أمتي العز والعلا ” ([19]):
أين لا أين امتي في العوالم؟ أمة العز والعلا والعزائم؟
أين مني؟ وثوبها حرر الخلـــــ ــــق وسلطانها أزال المظالم؟
أين ذاك الجلال والملك والزهـــ ـــو وعز الورى وصون المحارم
ما أرى اليوم موطنًا مستباحًا ورعايا تسام شبه السوائم
يعبث الواغلون فيه اعتسافًا عبث الدود بالعظام الرمائم
- الرّد على الشعوبية:
أخذت الشعوبيّة تحارب العروبة بمختلف الأسلحة، أو مختلف الحيل والأحابيل، ولكنّ حيويّة اللغة – ومعها حيويّة التاريخ العريق – هما الحارس القوي الأمين الذي تقاصرت عنه تلك الحيل وتلك الجهود، فبقيت النهضة على حصانتها المنيعة بين العاملين على هدمها وتعويقها عامدين لرغبتهم في الهدم، أو غير عامدين لعجزهم عن النهوض بمطالب الفنّ الصحيح ([20]).
ومن يتتبّع شعر العلامة الأثريّ – رحمه الله – ودواوينه يجدها طافحةً بالغيرة على العرب والإسلام الرد على من ينتقص شأنهم أو يزدري مقامهم وفضلهم، يقول الدكتور محمود عبدالله الجادر في هذا الصدد: يرتبط الإسلام ارتباطًا عضويًا في وعي الشّاعر بالعروبة، فهو لا ينفصل عنها وهي لا تنفصل عنه…، حتى إنّه ليضع الانتماء العربي معادلًا للتوحيد في لمحة خفية يوازن فيها بين الشرك والإيمان في قوله:
فإمــّا عُصَبُ الشِّرْكِ وإمــّا أمَّـةُ العربِ
فالّذي توحي به المعادلة أن تكون ” أمة التوحيد ” بإزاء ” عُصَب الشرك “، ولكنّ عُمق ارتباط العروبة بالإسلام في وعي الشّاعر أتاح له أن يتجاوز منطقية المعادلة اللفظيّة إلى استبدال ” أمّة العرب ” بـ” أمّة التوحيد “، وكأنّهما تعبيران مترادفان.
وتمتزج العروبة والإسلام امتزاجًا مفترضًا في قناعة الشاعر…، ومن عمق الحس العروبي التاريخي، ينبثق إيمان الشاعر بضرورة تحول الواقع الذي هو كائن إلى الواقع الذي ينبغي أن يكون، فوحدة الامة العربية لا تقوم على آصرة الدم وحدها، وإنّما تبقى العقيدة شاهدها الأبدي ومحرك أجيالها إلى تجاوز كل حالات التمزق والقهر.
ومن هنا كان للشاعر أن يقرر قناعته بأنّ الوحدة العربية لا تقوم إلا على الرُّكنين المتلازمين:
ألا فأسلكوها وحدةً عربيةً لها من هدى الإسلامِ روحٌ ومظهرُ
وكذلك قوله في قصيدة ” المغرب العربي.. وطن الجمال وأمة الجلال “:
متّى أرى الوحدة الكبرى تحوطُ لها هذي الجلالةَ والأقداسَ والعَقَدا
وأينَ لي مدَّةٌ أحْيا بها فــــأرى بعضًا يشـــدُّ لِبعْضٍ آخرٍ عَضُدا
- قضايا الأمة:
لقد وقف وقفة عز وشموخ مع قضايا الأمة العادلة، والدفاع عن حقوقه المسلوبة والمغتصبة، ومجد انتصاراتها، وبطولاتها، فجادت لنا قريحته بقصائده الخرائد المطوّلات حربية، والملاحم جهادية في الانتصار لقضايا الأمّة العادلة، وفي مقدّمتها أحداث فلسطين، ثمّ جهاد الجزائر، ثمّ القادسيّة الثانية، والتي واكب أحداثها وقد جاوز الثامنين، ولم يكن تقدم السن عارضا أمام قريحته الشعرية المجيدة، وقلمه السيال في الانتصار للحق، قال في ” معلقة النصر العزيز والفتح المبين ” التي بلغت مائة وسبعة وثمانين بيتا، والشاعر قد شارف التسعين من عمره، فقال مستهلا ([21]):
عِشْ ظَافِرًا وَلَكَ الْعَلْيَاءُ وَالْقِمَمُ وَأَنْتَ بَيْنَ الشُّعُوْبِ الْمُفْرَدُ الْعَلَمُ
عَال ٍعَلَى الأَرْضِ وَالأَعْدَاءُ خَافِضَةٌ بَاق ٍ عَلَى الدَّهْرِ وَالأَعْدَاءُ قَدْ هُزِمُوْاْ
وَالْعِزُّ عِزُّكَ مَوْهُوْبًا وَمُحْتَشِمًا وَالنَّصْرُ نَصْرُكَ مَعْقُوْدًا بِهِ السَّلَمُ
ويختمها بقوله ([22]):
لَيْتَ الأُلَى يُسْعِرُوْنَ الْحَرْبَ مِنْ ضَلَفٍ يُشْفَوْنَ مِنْ خَبَثِ الأَرْوَاحِ لَيْتَهُمُ
وَلَيْـتَ بَـرْدِ ظِلالِ السَّلَمِ لَو نَـفَعَـتْ لَــيْــتٌ يُنْدِيْ حَيَاةَ الْخَلْقِ كُـلِّـهِـمُ
- الأخلاق الفاضلة:
لقد أخذت الدعوة إلى الأخلاق النبيلة الفاضلة مساحة من أدب العلامة محمد بهجة الأثري رحمه الله، فكان يحضُّ عليها، ويدعو إلى التمسك بها، ويبين فضلها في أشعاره، ومن ذلك قوله([23]):
مَنْ لِيْ بِإِنْسانٍ إِذَا كَرَّمْتُهُ يَزَعُ الأَذَى وَيَكُفُّ سُمَّ لُعَابِهِ ([24])
وَإِذَا مَحَضْتُ لَه النَّصِيْحَةَ لَمْ يَرِمْ أَنْفًا وَيَخْلِطْ سُمَّهُ فِيْ صَابِهِ ([25])
وَإِذَا أَدَرْتُ لَهُ الْحَدِيْثَ مُرَوَّقًا سَاغَ الزُّلالَ الْعَذْبَ مِنْ أَكْوَابِهِ ([26])
وَاسْتَكْرَم الإِحْسَانَ عِندَ خِطَابِهِ فَجَفَا إِسَاءَةَ لَفْظِهِ بِجَوَابِهِ
الْخَلْقُ تَمْشِيْ يَا حَبِيْبُ كَمَا تَرَى بِالْخُلْقِ مَنْكُوْصًا عَلَى أَعْقَابِهِ
بِالْخَيْرِ أَطْمَعَكَ الزَّمَانُ وَقَدْ مضَى وَالْيَوْمَ نَخْشَى الشَّرَّ أَنْ نُجْزَى بِهِ
جَانَبْتُ دَاعِيَةَ التَّشاؤُمِ لَمْ أَقُلْ فَنَدًا وَلا خِلافَ الْهُدَى وَصَوَابِهِ ([27])
لا ضَيْرَ لِيْ مِمَّا بَلَوْتُ وَإِنْ يَكُنْ أَدْمَى الْفُؤَادَ بِظُفْرِهِ وَبِنَابِهِ
أَجْرِيْ بِأَخْلاقِيْ عَلَى أَعْرَاقِهَا وَسَجِيَّةُ الإِنْسَانَ مِنْ أَنْسَابِهِ
وَلَئِنْ أَسَاءَتْنِيْ التَّجَارُبُ إِنَّنِيْ سَأَظِلُّ أَحْسِنُ بِالْفِعَالِ النَّابِهِ
وَأُوَاصِلُ الشِّيَمَ الْكَرَائِمَ عَادَةً وَهَوىً عَلَى لُؤْمِ الزَّمَانِ وَعَابِهِ
كَالْغَيْثِ يُمْطِرُ مُجْدِبًا أوْ مُخْضِبَا يَجْرِيْ عَلَى دَأْبِ الْكِرَامِ وَدَابِهِ ([28])
أَسْقِيْ غِرَاسَ الْخَيْرِ نَوْءَ شَمَائِلِيْ وَأُجِدَّ زَهْوَ ثِمَارِهِ وَرِطَابِهِ ([29])
لِيَتُثَّ فِيْ الدُّنْيَا شَذَا أَعْرَافِهِ وَيُذِيْقَ هَذَا النَّاسَ عَذْبَ شَرَابِهِ ([30])
مَا الْعُمْرُ إِلا مَا أَفَادَكَ طَيِّبًا وَحَبَوْتَ أَطْيَبَهُ وَسِرَّ لُبَابِهِ ([31])
إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرْدًا فَخَالِسْ عِطْرَهُ وَانْفَحْ حَوَالَيْكَ الْوَرَى بِمَلَابِهِ ([32])
وكذلك قوله لابنته زينب في قصيدته الرائعة “لِمَ تُشنَأُ الأنثى” ([33]):
يَا بِنْتَ خَيْرَ الأُمَّهَا تِ فِيْ مَعَالِيَ الْحَسَبِ
أَلْقِيْ لَهَا عَلَى الزَّمَا نِ طَاعَةَ الْمُؤَدَّبِ
وَاْسْتَمِعِيْ لِنُصْحِهَا تَلْقَيْ كَرِيْمَ الرَّغَبِ ([34])
وأَكْثِرِيْ الْبِرَّ بِهَا فَالْبِرُّ خَيْرُ مَكْسَبِ
تَحَبَّبِيْ إِلَى “سَنَا” وَ”زَاهِرٍ” تَحَبَّبِيْ
وَجَامِلِيْ “نُهَىْ” بِمَا تَقْضِيْ حُقُوْقُ النَّسَبِ
إِيَّاكِ وَالتَّفْكِيْرَ إلَّا فِيْ رَفِيْعِ الرُّتَبِ
مِنَ الْعَفَافِ وَالْحَيَا ءِ وَالْعُلَىْ وَالْحَسَبِ
مَزَالِقُ الدَّهْرِ كَثِيْـ ـــرَاتٌ شَدِيْدَاتُ الْعَطَبِ ([35])
بِالدِّيْنِ فَاْسْتَهْدِيْ الْهُدَىْ وَاْسْتَرْشِدِيْ بِالْأَدَبِ
وكذلك قوله في : قصيدته “الشعر والصدق” إذ يقول فيها ([36]):
وصُبَّت أهاضيب المخازي مُلِثَّةً على شاعر ينحو المديح تكسبا
تخايل عُجبًا بالقوافي ونفسه وكان له أولى بأن يتحدَّبا!
ودع عنك من أضفى عليه ثناءه فما اجتمع الشِّبهان إلا ليكسِبا
- وصف الطبيعة والجمال من منظور إسلامي:
تمثِّل الطبيعة عند العلامة محمد بهجة الأثري رحمه الله أصفى ينابيع الشعر التي تستهوي النفوس وتستولي على مشاعر الإنسان عندما يشاهد روائع آياتها، وبدائع صورها، فيقف على أسرار الوجود حين يستغرق في تأملاته في مظاهر الكون، ويرى آثار رحمة الله وإبداعه، وقدرته في خلقه بعيدا عن التأثر بماديات الحياة، فيهتدي بعميق نظراته إلى أسرار الجمال؛ وهو في وصفه للطبيعة وتأثره بمشاهدها كالمصور البارع، يستلهم وحيها الساحر في مجاليه وألوانه، فيخطه شعرا رائقا، وأدبا رفيعا، يفيض رقة وقوة وإبداعا، ومن الشواهد على ذلك تسويغه شدة تأمله فيما يرى من آثار خلق الله سبحانه وتعالى من قصيدة مناجاة له يناجي فيها الباري تبارك وتعالى وهي ثمانية عشر بيتا افتتحها بقوله ([37]):
قلبي بغيرك لم يرف شغافه يا رب فاجنب حبي الأخطارا
عن كل وجه قد صرفت عبادتي وعبدت وجهك وحده مختارا
لا أأتلي فيما خلقت تأملا لأراك ثَم مع الخفاء جهارا
أأعطيتني بصرا يشاهد روعة وبصيرة تجلو سناك بِدارا
وهكذا يستمر في معاني التأمر والتصور الإسلامي لما خلق الله عز وجل في هذا الكون والحياة، حتى يختم قصيدته بقوله([38]):
فنيتْ بأنوار الجلال سريرتي شـوقا وتسـبيحا له وسِرارا
لله سبح في السماوات العـلى والأرض ما يبدو وما يتوارى
وكذلك قصيدته ” دمشق ” التي أنشدها في صيف عام: 1937م والتي يقول فيها ([39]):
مَـن عذيـرٌ من الهوى ومجير فـضح الشوق ما أجن الضمير
أنا في قـبضة الجـمال فخَـود تسـتبيـني وروضـة وغديـر
هـذه جـلّـق تـبارك ربـي بلـد طـيـب ورب غـفـور
الهوى والهواء والجدول الـرقــ ـــراق والروض والسنا والحور
حيثما تغتدي فـروض أريـض عنبري الـشذا ومـاء نمـيـر
ثم ينتقل إلى أكثر من ذلك في نقلة أدق وأبرع في وصف جمال المرأة متعبدا ذاكرا الله عز وجل في خلقه الإنسان في أحسن تقويم ([40])، فيقول فيها ([41]):
كـرم الله وجـه كـل نوار صانها الطهر والحياء الوقور
ليَ من هيكل الجمال المعاني يجتليها قلبي ويذكو الشعـور
فهو يصف وصفا بديعا لنسائها وجمالهن وما يصيب العقول من تعلقها بهن إلى أن يصل تعبده لله وذكره لربه خالق هذا الجمال.
ومن هذا الباب وصفه الدقيق لمظاهر كثيرة من مظاهر الكون ممثلة في الإنسان وما يبدعه الله U من الخلق في مختلف الصور، ويطول بنا المقام إذا أتينا بأمثلة لما صاغه قلمه البليغ في هذا الباب، وأكتفي بالإشارة هنا إلى وصفه المفرق في ديوانه لمختلف الأشياء فمن ذلك وصفه لفيضان دجلة عام: 1954م في قصيدته “بغداد على فم المارد، ووصفه لجمال المرأة في قصيدة “دمشق في ذكرى الجلاء”، ووصفه الدرويش في قصيدة “الدرويش”، ووصف القمر الصناعي، والغنية الأندلسية، ووصف الطائرة التي أقلته إلى باريس، وغير ذلك كثير، وشمل هذا الباب أوصافا معنوية تتصل بالنفوس اتصالا مباشرا كوصفه حضارة العرب، وصوت بلبلَي النيل في قصيدتي “ساج النيل” و”غناء أرواح”.
وهو في كل هذا الوصف إنما في حدود التصور الإسلامي، فلا يكفيه أن يتذوق الجمال ويصف الطبيعة والإنسان الذي خلقه الله في احسن تقويم.
الخاتمة:
الحمد لله الذي أنعم عليّ وتفضل أنْ مكّنني من إنجاز هذا البحث “العلامة محمد بهجة الأثري ومنهجه في الأدب” فما كان عليّ بعد ذلك إلا أن أسجّل أهمّ ما توصّلَتْ إليه الدراسة من نتائج وهي:
- العلامة الأثري رحمه الله كاتب وناثر مجيد، وخطيب مفوه، فهو في النثر لا يقل براعة عن الشعر، وإن كان جانب النثر لم يوف حقه من الدراسة.
- العلامة الأثري رحمه الله فاق شعره شعر كثير من الشعراء، وغن شعره ليضاهي شعر الفحول الأوائل، ولم يقلل من شعره سعة علمه.
- العلامة الأثري رحمه الله مثال يحتذى في الأدب الإسلامي، سواء في التصور، أو في الالتزام، أو الموضوعات، فهو في رأس قائمة الأدباء الإسلاميين وهو المقدم فيهم.
- اهتمَّ شعر العلامة الأثري -رحمه الله- بقضايا الدين والأمة، والإنسان والوطن، وهو في كل ذلك ملتزم أشد الالتزام بمنهجه الإسلامي الأثري.
- أخذت اللغة العربية، ومدح الفصحى، ومواجهة الشعوبية جانبًا كبيرًا من شعر العلامة الأثري -رحمه الله-.
- إن الدارسين للأدب بصورة خاصة والمجتمع بصورة عامة بحاجة ضرورية إلى الاهتمام بأدب العلامة الأثري -رحمه الله-، ودراسته، واعتماده في المناهج الدراسية.
وفي الختام نسأل الله ربَّنا جلّ وعلا أن يتقبّل منَّا، ويوفِّقنا فيما أردنا، ويزيدنا من فضله، وما كان من صواب فيما قدَّمت فمن الله تعالى وحده وله الحمد والمنَّة والنعمة والفضل، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأسأله سبحانه أن يرحم العلامة محمد بهجة الأثري ووالديه وأهله، وأن يجعلهم أهل بيت مباركين، وأن يخلف لهم في عقبهم خيرا، إنه نِعم مسؤول وهو أرحم الراحمين.
([1]) شرح اللزوميات، أبو العلاء المعري: 1 : 274 .
([2]) محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد، تأليف محمد بهجة الأثري، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، عام: 1424 هـ: 3 – 5 .
([3]) ينظر: ديوان محمد بهجة الأثريّ: 1 / 7 – 8 .
([4]) ينظر: المصدر نفسه: 1 / 10 .
([5]) ينظر: عَرار نجد قراءة في شعر عبد الله العثيمين، د. أحمد مطلوب: 7، منشورات المجمع العلمي العراقي، عام: 1430 – 2009م.
([13]) ديوان ملاحم وأزهار: 295 . قالها في وصف فيضان نهر دجلة في عام: (1373 هـ – الموافق نيسان 1954 مـ) وكان أعظم فيضان تعرضت له بغداد قبل إنشاء سدّ الثرثار العظيم.
([14]) ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه: 64.
([17]) المصدر نفسه: 1 / 19 – 20 .
([20]) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد، الطبعة الثانية، كانون الثاني، عام: 2006 مـ، بإشراف داليا محمد إبراهيم: 10.
([21]) ديوان الأثريّ: 1 / 508 .
([22]) ديوان الأثريّ: 1 / 534 .
([23]) ديوان الأثريّ: 405 – 406 .
([24]) يزع: يكف ويمنع. ينظر: المصدر نفسه: 405 .
([25]) محضت: أخلصت. الصاب: المرّ، ويطلق على شجر مرّ له عصارة بالغة المرارة. ينظر: المصدر نفسه: 387 .
([26]) المروَّق: المصفَّى. ينظر: ديوان ملاحم وأزهار: 406 .
([27]) الفند: الكذب والباطل. ينظر: المصدر نفسه: 406 .
([28]) الداب: الدأب وهو العادة، سهلت همزته. ينظر: المصدر نفسه: 406 .
([29]) النوء: المطر. أجدّ: أحدث. الزهو: النضارة وحسن المنظر. ينظر: المصدر نفسه: 406 .
([30]) يتثّ: ينشر، ويذيع. أعرافه: روائحه الطيبة. ينظر: المصدر نفسه: 406.
([31]) حبوت: أعطيت. ينظر: المصدر نفسه: 406 .
([32]) الملاب: نوع من الطيب. ينظر: المصدر نفسه: 406 .
([33]) ديوان ملاحم وأزهار: 387.
([34]) الرغب: مصدر رغب في الشيء إذا أراده. ينظر: المصدر نفسه: 387 .
([35]) العطب: الهلاك. ينظر: المصدر نفسه: 387 .
([40]) ينظر: ديوان الأثريّ: 1 / 17 – 18 .
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات