خلف الباب (3-4)
خلف الباب (3-4)
زينب الأزبكي
المشهد الثالث:
حبٌّ نبيل
لم نفترق يومًا حتى كبر إخوتي وتزوجوا وغادروا القرية بعيدًا إلى صخب المدينة وأضوائها الساحرة..
وحصلتُ بشهادتي المتواضعة على فرصة عمل خارج البلد، حيث الوجوه الصفراء الغريبة وعجمة اللسان واللغة التي بدأتُ بفكّ رموزها قبل أشهر قليلة، أقف الآن أمام بابنا الخشبي الذي طالما جلست أقنع أبي لنغيّر لونه دون جدوى..
وأرى (ترمز الشاي) الذي طالما كان مردوده المادي يساعد أبي في مصروف البيت إنه لأخي (نبيل)..
آااه يا نبيل.. ولدتَ وأنت أصم وأبكم ولكنك كنت أكثرنا إحساسًا بالمسؤولية.. كنت نبيلًا حقّا..
اعتاد أن يستيقظ فجرًا ليعد الشاي ثمّ يفرغه بالترمز ويتوجه إلى الشارع العام ليبيع بابتسامة ناعسة أكوابا مليئة بالشاي عالي السكر نكاية بمرارة مايشعر به، كنت أنا الأصغر أراقبه وهو ينظر لـ(نظيرة) بائعة (الچرك) أو (السميط) الرقيقة ذات اليدين الصغيرتين، فترمقه بنظرة إنني أراك، ثم يجلسان بعد أن أنهكهما الرواح والمجيء مع السيارات والمارّة، وأرى شفاه (نظيرة) تتحرك ونبيل يصغي بانتباه ثم يضحكان وتارة أرى دموع نظيرة..
بعد أشهُر انقطعت نظيرة وظل نبيل يترقب مجيئها كل يوم دون جدوى، مرض نبيل وبدأ جسده يوهن شيئًا فشيئًا، ثم سمعتُ أن نظيرة تزوجت، وهنا أدركتُ أن نبيلًا عرف ذلك من قبل فانفطر قلبه.. لم نستطع علاج نبيل حتى أتاه الأجل.. افتقدت بعده كل الجمال والنبل في الحياة، بعدها ظللت أفكر بأي لغة كانت تتكلم هذه النضيرة نظيرة؟ وكيف كان أخي يفهمها؟ كيف كانا يتواصلان؟
ربما هناك لغة لم نكتشفها بعد، ولكنني أعرفها الآن، إنها لغة المعذبين بداخلهم، الباسمين لغيرهم.
علمت بعدها أن نبيل مات بجرعة زائدة من الإنصات واحتقان الكلام بداخله.
– – –
المشهد الرابع:
شطيرة برجر
عشرة أفراد وأمّ خلف هذا الباب، لم يترك لنا أبي إرثًا سوى راتبه التقاعدي وبتدبير أمّي وسياستها الاقتصادية نعيش باكتفاء.
صباحًا، خبز التنور الحار مع ما توفر من الجبن، وإن لم يتوفر فإن الخبز والشاي كان اللذيذ الغالب.
كان استيقاظ أمّي هو إعلان بداية اليوم، نشيطة وإن ظهر عليها تعب الأمس، باسمة الوجه وإن كانت هموم مصاريف أخي في الجامعة أنهكت تفكيرها، تمشي بكبرياء وإن أعلن الأقارب تخليهم عنها لزواجها الفاشل في قرية نائية.
لم تسمع يومًا بطعام يصل إلى الباب حين الطلب، أمّي بسيطة تعيش في زمن الطيبين، حيث كل شيء مصنوع باليد بعناء وتعب، ولن ترضى دون ذلك، وكانت نفوسنا التي تراودنا أن نطلب من المطعم -الذي لن تسمح أمي بدخول طعامه إلى البيت لاعتباراتها الاقتصادية والصحية الخاصة- لا تكفّ عن المراودة..
وكالمعتاد تصبّ أمّي حساء العدس الذي لا يشبه حساء إحداهن وأستطيع أن أعرفه من بين آلاف الأطباق لرائحته الزكية ولونه الأصفر الفاقع وهذا هو عشاء كل يوم!
قرّر أخي ودون علم أمّي وباتفاق معنا أن نطلب (شطائر البرجر) التي طالما تمنينا أن تكون عشاءً يوميًا بدلًا من العدس، وكانت الخطة أن نأكل من عشاء أمّي ما نسدّ به الرمق ثمّ حين تنام سيصل الطلب فنستمتع بالشطائر دون علمها.
أكملنا وجبة العشاء وبان على أمي النعاس والتعب وأوصتنا بترتيب المكان قبل النوم وذهبت وهي تخط برجليها الأرض من التعب.
وأخيرًا، شطائر البرجر بين أيدينا، أكلنا الشطائر كما لو أننا ننقض على فريسة! عجبًا ما بالنا!
وفي لحظة سعادة وانتشاء وما زلنا نمسك ببقايا البرجر وأكياسه، إذْ بأمّي تظهر..
عمّ الصمت المكان ولم ننبس ببنت شفه كأن على رؤسنا الطير!
“لا تنسَ يا أحمد دواء الضغط، لقد نفدت آخر حبة من أمس”.
هذا ما قالته أمي وذهبت إلى الفراش مرّة أخرى.
بدأنا نسأل بعضنا الآخر هل لاحظت أمي؟ هل عرفت ما كنا نأكل؟ هل.. هل..؟
صباحًا، وكالمعتاد بدأ الصباح باستيقاظ أمي وذهبنا كلّ إلى عمله ومرّت هذه الأيام دون ابتسامة مشرقة ولا نشاط يلاحظ وبعشاءات ليس لها طعم، لم يعد العدس يتميز بنكهة ولم يعد لونه يسرّ الناظرين.. وبدأ التعب يأخذ من أمّي مأخذه، وأخيرًا صارت طريحة الفراش حتى توفاها الله.
أعلم يا أمّي أنك درست فقه (يوسف) بالاقتصاد دون مدرسة، وستتفوقين على (مارثا ستيوارت) في تركيب الطعام وطهيه، وأعلم أنك أمهر من منال العالم، ولن تقصّري لو طلبنا منك عمل البرجر وأحضرنا لك الطريقة، لكننا للأسف استبدلناك بشطيرة!
كيف أخبرك يا أمّي أنني أشتاق لكل ما تصنعه يدك؟
آاه كم أشتاق لطبق العدس، هل عندكم مَن يعدّه مثل أمّي!؟
اقرأ أيضًا:
خلف الباب
الدرس الأول
3 تعليقات