التناص في شعر محمد بهجة الأثري
التناص في شعر محمد بهجة الأثري
عايد محسن السليمان
يختلط مصطلح التناصّ، وهو مصطلح ألسُني حديث، بمصطلحات كثيرة في النقد العربي القديم، كالتضمين والاقتباس والسرقة والمعارضة والمناقضة، وقد ظهر مصطلح التناص في كتابات جوليا كرستيفا، ثم وُضِع موضع التداول النقدي، فاستثمرته مدارس نقدية كثيرة، ولا يعنينا هنا دراسة تاريخ المصطلح والتأصيل له، وإنما نريد تطبيق هذا المصطلح على شعر العلّامة الكبير محمد بهجة الأثري، لأنه من الأعلام الذين يمّموا وجوههم شطر التراث العربي فاستحضروه في إنتاجهم الشعري.
وقد اغتنى شعر محمد بهجة الأثري بالتناص مع التراث، وأعاد إنتاج هذا التراث وتوظيفه بما يخدم غرضه الشعري لأن “الحساسية الخاصة تجاه التراث لا يمتلكها إلا الشاعر الموهوب الذي يميز ذاكرته الخيال النشط، وهو ما يعمل باستمرار على تحليل المواد المخزونة، وتركيبها على هيئة جديدة”([1]).
وسنقتصر في هذه الدراسة على شعر محمد بهجة الأثري في دمشق التي كتب فيها قصائد كثيرة، وتفاعل مع الأحداث التي تجري في الشام، وعبّر عن مواقفه ورؤاه في مناسبات عدة.
وإن قارئ شعر العلّامة محمد بهجة الأثري يستوقفه التعالق النصي الحاضر بقوة مع نصوص سابقة، ولما كان الإبداع الأدبي لا يأتي من فراغ، فكل نص جديد يبنى على أنقاض نص قديم، سواء أتم ذلك بصورة واعية من المبدع أم بصورة غير واعية، وجدنا التناص في شعر العلّامة الأثري يعيننا على كشف مضمرات النصوص، ويوضح لنا علاقة المبدع بما سبقه من إبداع، وقدرته على استثمار أفكاره لتتلاءم مع نصه الجديد. وهذا ما يجعلنا نتوقف عند أبرز أنواع التناص وأكثرها حضورًا في شعر العلّامة الأثري.
1– التناص مع القرآن الكريم:
يعدّ القرآن الكريم المصدر الأول للثقافة العربية الإسلامية، وقد تربّى العلّامة الأثري على هذه الثقافة على أيدي مشايخه وعلى رأسهم العلّامة الألوسي؛ ولذلك نجده يستحضر الكثير من الآيات والمفردات والمعاني الدينية في شعره، وقد أكثر من هذا في وصفه طبيعة دمشق الخلابة التي تغنّى بها كثيرًا في شعره، ويمكن التماس التناص الاقتباسي في وصف دمشق من خلال مستويات عدة: أولها جاء على مستوى الألفاظ؛ فقد وظّف كثيرًا من مفردات القرآن الكريم عند الحديث عن جمال دمشق وطبيعتها الآسرة، ويبدو ذلك واضحًا في توظيفه (الفردوس، رضوان، جنات عدن، ..) استمع إليه وهو يقول([2]):
والربوتان وإنّ حسنهما ما بان عن عيني وإن شردا
باب إلى الفردوس تحتهما رضوانُ شدّد حوله الرَّصَدا
وقوله في الشوق إلى طبيعة دمشق الآسرة حول نهر بردى([3]):
بنفسي من جنات عدن خمائلًا على بردى من نعمة الحسن تزهر
لقد اتخذ العلّامة الأثري من مفردات القرآن وتراكيبه في وصف الجنة -الذي لا يخطر على قلب بشر- سبيلًا للتعبير عن جمال طبيعة دمشق وروعتها، فقد جعلها تضارع الجنة جمالًا، وهذا دليل على إعجاب الشاعر بدمشق التي فتنته بسحر طبيعتها.
ويرى المتأمل أن الشاعر لم ينتزع مفردات القرآن من سياق المعنى الذي وردت فيه، بل وظفها في الدلالة على جمال البيئة والطبيعة وهي الدلالة الأصلية التي وردت في القرآن الكريم.
وأما المستوى الثاني من مستويات التناص في وصف دمشق فقد تمثل في استحضار عبارات وجمل قرآنية وتوظيفها في معنى يقارب السياق الذي وردت فيه، ومن ذلك قوله في قصيدة دمشق([4]):
هذه جِلَّقُ تبـارك ربي! “بلدٌ طيبٌ وربٌّ غفـورُ”
لا يكاد القارئ يتم قراءة هذا البيت حتى يستحضر قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ/15]. فالشاعر لم يتصرف في جزء الآية سوى التذكير (بلد طيب) ليستقيم له الوزن الشعري، وهذه المقاربة بين دمشق وسبأ تعمق الدلالة، وتمنح دمشق هبة إلهية وبركة ربانية من الجمال والبهاء والطيب كالتي منحها الله تعالى لسبأ.
وأما المستوى الثالث من مستويات التناص مع القرآن الكريم في شعر دمشق فهو استحضار المعاني الإسلامية، وقد تمثل ذلك في تفتيق صورة فنية بديعة بليغة الدلالة في قوله([5]):
بنو أميّةَ ما زالـوا كما خُلِقوا بنـو المكارم والآداب واللـينِ
أصبحْتُ فيهم تهاداني سراتهم كأنني مصحف في بيت ذي دينِ
زار العلّامة الأثري دمشق، فحلّ على قوم كرام تناوبوا على استضافته والترحيب به وإكرام منزلته، وها هو يشبه نفسه بالمصحف، ويصف أهل دمشق بأنهم أهل دين، فكما أن أهل بيت الدين يتناوبون على الاحتفاء بالمصحف، والاعتناء به، والتناوب على قراءته، كذلك الشاعر في أهل دمشق الذين أكرموا وفادته، واعتنوا به.
ولا يخفى على القارئ قدسية القرآن الكريم (المصحف) -الذي لا يمسه إلا المطهرون- عند المسلمين، مما يوحي بطهارة أهل دمشق ونقائهم إذ جعلهم الشاعر بيت الدين. وبهذا يمنح التناص مع القرآن الكريم النص مزيدًا من القوة والتأثير، وزيادة في الدلالة التي يكتسبها من قدسية هذا النص العظيم.
2- التناص مع الشعر العربي القديم:
يعدّ العلامة الأثري أحد أعلام المدرسة الاتباعية في الشعر الحديث، التي اتخذت من الشعر العربي القديم مثلًا أعلى يحتذى في الصياغة الفنية، فكثرت المعارضات الشعرية للنصوص الشامخة في الشعر العربي، ومن ذلك قصيدة العلامة الأثري (الثورة السورية) التي نظمها عام 1925 وهي من بواكير شعره، وقد برز فيها التناص واضحًا من خلال معارضته رائية أبي فراس الحمداني([6]):
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟
إذ يقول العلّامة الأثري في مطلع قصيدته (الثورة السورية)([7]):
دمشق! حماك الله. ما الحادث النُّكر سلمت. وفيم البغي راعك والغدر؟
يبدو التعالق واضحًا بين المطلعين من خلال البحر الواحد (الطويل) والقافية الموحدة، ومن خلال أسلوب الاستفهام الذي يثير دهشة القارئ في المطلع ويدفعه ليتابع القراءة بغية الكشف عن الإجابة.
والسؤال الذي يطرح ههنا: لماذا اختار الشاعر قصيدة أبي فراس ليعارضها دون غيرها؟
والحق أن المناسبة بين القصيدتين وطيدة، فالعلّامة الأثري نظم قصيدته عام (1925) إبّان وقوع دمشق أسيرة الاحتلال الفرنسي، وانتفاضة أهلها في وجه هذا الاحتلال وثورتهم عليه، ورفضهم الخضوع والاستسلام. وهذه المناسبة تشابه المناسبة التي قال أبو فراس فيها قصيدته عندما وقع أسيرًا في يد الروم، وهو يفتخر بعزَّته وكبريائه وهو في الأسر، والقصيدتان تضجان بروح الكبرياء والشموخ، وقد استلهم العلّامة الأثري كثيرًا من مفردات ومعاني قصيدة أبي فراس، ويبدو هذا واضحًا على مستوى المفردات في تطابق اثنتي عشرة قافية بين القصيدتين خُتمت بالمفردات نفسها، وهو ما يمثل قريبًا من نصف أبيات قصيدة العلّامة الأثري.
والتناص في القصيدة يتجاوز هذا التشاكل على مستوى المفردات ليصبح استثمارًا لعبارات وأشطر شعرية وتوظيفها في القصيدة وفق دلالتها الأصلية أو في دلالات جديدة تخدم غرض القصيدة.
فمما استخدمه العّلامة الأثري وفق دلالته الأصلية قوله([8]):
ومن كان قحطان أباه فإنّه “له الصدر دون العالمين أو القبر”
فهو يستحضر بيت أبي فراس في الفخر([9]):
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
والسياق واحد وهو الافتخار وإظهار العزة والكرامة، وهذا متفق بين دمشق وأبي فراس.
وربما اتخذ شطرًا فوظفه في دلالة جديدة، كقوله يحث أهل دمشق على الثورة وعدم الاكتفاء بالمعارضة القولية([10]):
ومن طلب استقلاله بلسانه كمن خطب الحسنا وما عنده مهر
وقد استثمر فيه قول أبي فراس([11]):
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
وكأنه يريد أن يحيل المتلقي إلى معنى بيت أبي فراس وهو تقديم الروح مهرًا للمعالي، وهو الذي يريده الشاعر من أهل دمشق، غير أن سياق بيت أبي فراس جاء في الفخر في حين جاء بيت العلامة الأثري في سياق اللوم والتقريع والحث على النهوض.
على أن العلامة الأثري يستقي أحيانًا من معاني أبي فراس، غير أنه يعيد صياغتها من روحه ونفسه فتصبح جديدة كل الجدة، وهذا هو التناص الامتصاصي الذي يعدّ من التناص الإيجابي القوي لأنه يقوم بإنتاج “أفكار قديمة بأسلوب جديد، فهو ثمرة نصوص سابقة، ولكنه ليس وحيد البنية وفقير الدلالات والإشارات”([12]) التي يمكن أن يلتمسها المتلقي في النصوص الجديدة، كقوله في مدح أهل دمشق الثائرين([13]):
هم قد أبوا ذل الحياة وآثروا على العيش موتًا طعمه أبدًا مُرُّ
فالشاعر يجري مقارنة بين حالين: الأولى قبول ذل الحياة والعيش الطيب، والثانية رفض الذل واختيار الموت الكريم. وهو ما عبر عنه أبو فراس في قوله([14]):
وقال أصيحابي: الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مرُّ
فالعلّامة الأثري استحضر المعنى دون الألفاظ، فليس بين البيتين تطابق في الألفاظ إلا في كلمة (مرُّ) في نهاية البيتين وهذا هو جوهر التناص الامتصاصي.
لقد وقف العلّامة الأثري أمام كثير من النصوص الشامخة في شعرنا القديم وأعاد إنتاجها واستثمارها بما يخدم غرضه الشعري، وما قصيدة أبي فراس إلا نموذج للتناص مع الشعر العربي القديم. ولا يعدم القارئ أمثلة أخرى إذا قرأ شعر العلامة الأثري.
3- التناص مع الشخصيات التراثية:
أكثر العلّامة الأثري في شعره من استحضار التاريخ والشخصيات التراثية التي تركت أثرًا واضحًا في مسيرة دمشق عبر القرون، وعندما أراد التأكيد على عروبة دمشق وحرية أبنائها استحضر شخصية (قحطان) الذي كان ابنه يعرب أول من عدل لسانه عن السريانية إلى العربية كما تذكر كثير من المصادر التاريخية، يقول([15]):
وأنَّ بني قحطان سادات نفسهم وموطنهم حرٌّ وملكهم حرُّ
ولا ريب أن الأثري يريد من هذا التناص الإشارة إلى عزة نفوس أهل دمشق وإلى ماضيهم المجيد الذي سطره جدهم قحطان، وهاهي دمشق تعيد سيرته الأولى.
والأثري يتغنّى كثيرًا بتاريخ دمشق ويستحضر رموز التاريخ الذي أقاموا دولهم على أرض دمشق، ويربط الماضي بالحاضر، وهو يقول([16]):
أدمشق يا أخت الضحى وهجًا ذهـبًا ويا رئد العــلى صَيَدا
غسّان أثّل فيك مملكة غنّى لها حسَّان واحتشدا
ملك عريـض شدّ أندلسًا بالسند محتشدًا ومتّحـدا
أعلت أميّـة فيـك رايته شـماء تحسـر ناضرًا رصدا
تابعْتِ طيبـة سنّة وهدى والخير ما سنَّته وامتهدا
أمُّ الخلافة أصل دوحـتها طابت وطـاب بها الورى رغـدا
يلخص العلّامة الأثري تاريخ دمشق في هذه الأبيات ويستحضر فيها الشخصيات التي لعبت دورًا في صناعة هذا التاريخ، والأماكن التي ارتبطت بهذه الأحداث، ولما كان التناص يعني أن “كل نص يقع في مفترق طرق نصوص عدة، فيكون في آن واحد إعادة قراءة لها، واحتدادًا وتكثيفًا ونقلًا وتعميقًا”([17]) نجد الشاعر يتحدث عن مملكة الغساسنة التي تغنى بها الشاعر حسان بن ثابت وامتدح ملوكها، ثم يتحدث عن دولة بني أمية في دمشق التي امتدت إلى الأندلس غربًا وإلى السند شرقًا، وهي تسير في ذلك على خطى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستحضار المكثف يعمق الدلالة التي يرمي إليها الشاعر من إشاعة مظاهر القوة والاعتزاز بهذا الماضي المجيد.
وقد أطال العلامة الأثري الوقوف في قصائده على تاريخ بني أمية في دمشق وامتدح خلفاءها وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مؤسس الخلافة الأموية الذي نسب دمشق إليه في قوله([18]):
معاويَّةٌ … لم تعرف الذلَّ ساعة فكيف على الذلِّ المكابر تصبرُ؟
قال الشاعر قصيدته بعد إضراب عام في دمشق دام أربعين يومًا رفضًا للاحتلال الفرنسي، وها هو ينسب دمشق في عزتها وكبريائها ورفضها الذل إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وهذا الاستحضار يربط الماضي بالحاضر ويؤكد على عروبة دمشق وإسلامها.
ويعود في مشهد آخر ليستحضر شخصية الخليفة الأموي مروان بن الحكم في قوله([19]):
يا دار مروانَ دام البشر مؤتلقًا على جبينك لمّاح التلاوين
ولعل الارتباط واضح بين الفرح الذي تعيشه دمشق حاضرًا والفرح والرخاء الذي كانت تعيشه في ظلال الخلافة الأموية في عهد مروان بن الحكم.
يتبين لنا مما تقدم أن استحضار الشخصيات التراثية جاء في سياق الفخر والاعتزاز وإظهار مشاعر الفرح والسرور، ولذلك جاء هذا الاستحضار معزّزًا التواصل الحضاري والأصالة العربية بين الماضي والحاضر.
ختامًا:
هذه أبرز مصادر التناص التي برزت في شعر العلامة الأثري في دمشق، وهي تبين لنا أصالة الشاعر وثراءه الفكري، الذي تمثل في استحضار القرآن الكريم التجارب الشعرية والشخصيات التراثية والتاريخية ومحاكاتها والاغتناء بها، وليس ذلك دليل عجز عن الإبداع، بل دليل وعي عميق وتقدير كبير لقيمة الموروث الثقافي، وضرورة الانطلاق منه والبناء عليه، وتقديم رؤية جديدة لموضوعاته الأصيلة.
([1]) مصطفى السعدني، التناص الشعري قراءة أخرى لقضية السرقات، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1991م، ص69
([2]) ديوان الأثري، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، ط1، 1990م، ج2/35
([5]) ديوان الأثري: ج1/303-304
([6]) ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق: سامي الدهان، بيروت، 1944م، ج2/209
([9]) ديوان أبي فراس الحمداني: ج2/214
([11]) ديوان أبي فراس الحمداني: ج2/214
([12]) حسين جمعة، المسبار في النقد الأدبي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص165
([14]) ديوان أبي فراس الحمداني: ج2/213
([16]) ديوان الأثري: ج2/37-40، الرئد: الترب وهو من ولد معك. الصيد: رفع الرأس كبرا. أثّل: أصّل.
([17]) التناص الشعري قراءة أخرى لقضية السرقات، ص8
اقرأ أيضًا: