المؤرخ المحقق والأديب المدقق
(5)
المؤرخ المحقق والأديب المدقق
رياض المختار
هبني لسانك كي يجود بياني إذْ شُلَّ مِن هَول الـمُصاب لِساني
إنها لَساعةُ الأحزان، عندما يُفقد منَّا أعزُّ إنسان، تُشلُّ اليد ويعجز اللسان، وتُكسر الأقلام وتُشتت الأذهان..
لقد فُجِع العراق وألـمَّت به نكبة كبيرة بفقد العلامة الكبير صاحب التصانيف النافعة والتحقيقات الجامعة البروفسور عماد عبد السلام رؤوف الذي بذل جهودًا فائقة في سبيل الحفاظ على التاريخ.
ومن الواجب علينا إحياء وتمجيد هذا الأثر الرائع النافع الذي تركه خدمة للعراق والعراقيين، وإن ذكرى العلامة ستبقى عالقة في أذهاننا، وما قدَّمه على مدى أكثر من خمسين سنة.
ذكراك والأحزان عمّت نفوسنا وليس على الموت المحتم نعتبُ
سقاك إلهُ الكون طلًا ووابلًا سحابًا على مثواك للحشر يسكبُ
رحلَ عنَّا المؤرخ المحقق والأديب المدقق صاحب الأخلاق الحميدة والآداب الغزيرة، كتب الكثير بخطه، وهو الذي تولى فهرسة المكتبة القادرية في خمس مجلدات.
شاء ربك أن يحكم حكمه فيختطفه الموت من بين طلابه ومريديه ومن بين أهله وذويه؛ فرحماك يا رب بعماد عبد السلام رؤوف الذي كان مدافعًا عن التاريخ والعروبة.
كان العلامة -رحمه الله- أنموذجًا ومثالًا في البحث والمطالعة، منطويًا على كتبه وبحوثه، يتنقل منذ عقود بين خزائن الكتب الخاصة والعامة، باحثًا عن مخطوطٍ أو كراسٍ أو كُنّاش ليخدم به تاريخ العراق، وأول ما ابتدأ به: كتاب مدارس بغداد في العصر العباسي، الذي ألفه وهو بعمر السادسة عشر -كما حدثني شخصيًا- وقال: (كتبته بعمر السادسة عشر والتقيت شيخ المؤرخين عباس العزاوي وأشاد بكتابي وحثني على الاستمرار).
كان فقيدنا عالـمًا بالتاريخ، وبالأخص التاريخ الحديث، مهتمًا به ومقومًا له، وما أعلمُ أحدًا في زماننا اهتم بهذه الفترة أكثر منه، فقد أخرج كثيرًا من المخطوطات وحققها، وكان يتصل بالأحفاد ليحصل على مخطوطات الأجداد، ويعكف على تحقيقها والتوسع في إفادتها.
قلت له مرة: (إن تحقيقاتك دكتور هي كتاب في داخل كتاب)، فكان لا يترك صغيرة ولا شاردة في المخطوط إلا ويبينها أو يوضحها.
وكانت كتبه تطير في الآفاق شهرة، ولم يستطع أحد أن يستدرك على تحقيقاته، بل يستدرك هو على غيره.
ومن تحقيقاته المشهورة: كتاب حديقة الزوراء، وكتاب تاريخ الأسر العلمية في بغداد، وكتب مساجد بغداد، وبيوتات بغداد للسهروردي، الذي حدثني عن هذا الكتاب أنه كان يحققه في أيام الحرب سنة 1991م والصواريخ والقذائف في سماء بغداد، وهو على ضوء الشمعة.
ومما يميزه أيضًا أنه كثيرًا ما يحصل على مخطوطات بدون عنوان، فيضع لها عنوانًا مناسبًا، وحدثني مرة عن اختيار العنوان قال: (في التصنيف قاعدة تسمى شرط العنوان إما موافقة للمضمون أو تتجاوزه أو تقل عنه، وعلى المصنف أن يوافق بينها).
ومن تآليفه القيمة: كتاب التاريخ والمؤرخون في العصر العثماني، الذي حدثني عنه قال: (بدأت بهذا الكتاب أول الأمر في الثمانينات، بثلاثمئة صفحة، وما زلت أضيف حتى بلغ الآن حدود الثمانمئة صفحة) وابتسم بعدها.
وليس إسهماه في التأليف والتحقيق فحسب، بل كان يُشارك في مقالات وبرامج إعلامية، ولا يتردد، وغايته الحفاظ على التاريخ، وبيان الصواب.
وكان الدكتور مشاركًا مع نخبة من الكبار في تصنيف كتاب: حضارة العراق، في ثلاثة عشر مجلدًا، وسألته عن هذا الكتاب فقال: (كتاب نافع وأنصح به).
أود أن أذكر أمرًا لطيفًا حدثني به الدكتور عماد -رحمهُ الله- قال: (كنت في البصرة لحضور ندوة عن التاريخ والأنساب، وكان أحدهم يلقي كلمة عن النسب وقال: “هذا النسب… صحيح، وقد أكده الدكتور عماد عبد السلام رؤوف، ووافق عليه”)، يقول الدكتور عماد: (والكلام كذب، ولم أوافق على النسب، ولا أعرف الرجل حتى، وانتظرت حتى انتهى، وأخذته جانبًا وقلت له: هل الدكتور عماد مَن وافق على هذا النسب؟ فقال: نعم. فقلت: وهل رأيت الدكتور عماد؟ فقال: نعم، يقول الدكتور عماد فضحكتُ وقلتُ له: أنا الدكتور عماد عبد السلام رؤوف! قال: فهرب من أمامي ولم أره أبدًا).
وأخيرًا أقول: كان الدكتور جمَّاعًا للكتب والمخطوطات منذ صغره، لا يفلت منه كتاب أو مجلة، وسألته يومًا عن خزانته فقال: (فيها أكثر من عشرين ألف مجلد)، وعنده من نوادر المخطوطات القديمة بخطوط مؤلفيها، إضافة إلى مقتنيات شخصية كثيرة، وكان قد رفدني بكثير من المعلومات عن أصحاب الخزائن ومآلات خزائنهم من مشاهداته الشخصية، حيث اطلع على خزانة العزاوي وكوركيس عواد وميخائيل عواد وصالح العلي وعبد الرزاق الحسني وكثير منها.
وهذه الخزانة الكبيرة العامرة نسأل الله أن تبقى محفوظة متاحة للطلبة والباحثين، وأن لا تختفي حال أُخيَّاتها وتذهب هنا وهناك وتصبح أثرًا بعد عين.
رحمك الله وغفر لك بما قدمت وأفدت، وستبقى مؤلفاتك وتحقيقاتك بإذن الله من جيل إلى آخر.
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات