سهرة مع نجيب محفوظ
سهرة مع نجيب محفوظ
كان الأستاذ نجيب محفوظ قد رفض الذهاب إلى مجلس الأستاذ محمود شاكر وقال: “أخاف على لغتي، فمنذ ذهاب يحيى حقّي إلى شاكر غزَت أسلوبه المجازات والعبارات الفخمة، فأنا أحاول أن أحمي لغتي الخاصة من التأثّر به”؛ وعندما رأى شاكر نجيب محفوظ قال له: “يا واد يا نجيب إنت قرّبت من الكتابة بالفصحى”.
لعلك لا تعرف يا صديقي أنّ في مصرَ قرار جمهوريٌ يُلزم بالإفصاح عن الأسماء ثلاثيةً (الشخص ووالده وجده)، وقد خُولف هذا القرار لأوّل مرة عندما أصدر جمال عبد الناصر قرارًا بتعيين نجيب محفوظ رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة للسينما، كان نجيب محفوظ وقتها علامة مسجَّلة “ماركة” وليس مواطنًا عاديًا.
كان محفوظ الشخصية العامة الوحيدة التي نعرف لها برنامجًا يوميًا منتظمًا ومضبوطًا بالثانية، وعُرف عنه دقّته في المواعيد، حتى كان أصدقاؤه يلقبونه الرجل الساعة..
جمال الغيطاني الذي كان في مرحلة من المراحل يصطحب معه الأديب الراحل في السيارة للذهاب إلى مكان الْتقائهم اليومي قال: “في السادسة إلا خمس دقائق أنتظر، في السادسة تمامًا يخرج من باب العمارة” ويقصد أنه اعتاد على دقة مواعيد نجيب محفوظ.
ودقته في مواعيده طالت حتى أمتع ساعات الأنس مع أصدقائه إذ إنه -بحسب الغيطاني- “يُمضي في المقهى ساعتين بالضبط” ثم يغادر إلى منزله كعادته.
أسبوعه كان يبدأ بالسبت: يوم الأسرة، ثم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء: يمارس فيها الكتابة والقراءة في ساعات محدَّدة، ثم الخميس والجمعة للتنزه ولقاء الأصحاب.
في سنة ١٩٨٠م أُجري حوار صحفي جمَع محفوظ وتوفيق الحكيم مع الأولى على الثانوية العامة [وبالمناسبة كان ترتيب محفوظ في البكالوريا رقم ٢٣ على القِطر!]، سألَ محفوظ الطالبة عن طموحها المستقبلي؟ أجابت بأنها ستدرُس الآداب لأنها تودّ أن تحترف الكتابة، وكانت نصيحتُه لها بأن تُراجع الفكرة وأن تطوّرها إلى فنٍّ مصوَّر، فالمستقبل للصورة أكثر من الحروف، والتلفزيون جاء مناسبًا للجيل الحالي، لأنهم من حيث التعليم استيعابهم أقل، ومن حيث الثقافة معدومو الثقافة تقريبًا. كذا قال، وهو محقٌ بالتأكيد.
كان مبدأ الأديب الكبير محفوظ: “ابعد عن الشر وغني له” فابتعد عن السياسة الصريحة مع أنني أزعم أنَّ كلَّ ما مرَّ من تاريخٍ عاشه نجيب محفوظ أو شخصيّات عاصرَها هيَ في كتبه ورواياته، ولكنّه كان لا يصرِّح.
رأى نجيب محفوظ بعينيه أيام ثورة يوليو إغلاق جريدة “المقطم” ومجلة “الكتاب” ومجلة “الملايين” و”الثقافة” و”الرسالة”، واعتقالات بالجملة، وإلغاء الدستور، وحَلّ الأحزاب، ومصادرة أموالها، وحَلّ نقابتَي المحامين والصحفيين، وطرد أكثر من أربعمئة وخمسين أستاذًا من التدريس بالجامعات، ويكتب مصطفى أمين مقالاً بعنوان “سر الضباط التسعة” فيتم منعنشر بقية المقالات، مع أن عبد الناصر كان هو من وراء المعلومات، شهد محفوظ وقتها التوحّد بين مصر والحاكم، كما لم ينفكّ يومًا، وهو الأمر الذي يجعل أي كلمة تقال من قبيل الخيانة لله وللوطن.
كل هذا يجعلك لا تندهش من إجابته عن اتصال حسني مبارك به بعد تسلمه جائزة نوبل قائلًا: “اتصال مبارك نوبل أخرى”!
ولم ينجُ في حقبة عبد الناصر من المثقفين إلا هو وصلاح جاهين.
كان محفوظ يخاف بشدة من أن تُقرأ روايته “أولاد حارتنا” على النحو الصحيح، وأن يَفهم القوم إسقاطاته، فقد كان المحتوى سياسيًا بالدرجة الأولى، لكنه حمدَ الله أن جنحوا به إلى قراءة أخرى ظلّت تطارده ثلاثين عامًا حتى استقرّ ذلك الخنجر الملعون في رقبته، ولكن لا تظن أنّ النظام لم يستجوب نجيب أو يسأله عن مراده في “بين القصرين” و”أولاد حارتنا”، ويكفيك أن تعرف أن صلاح نصر بنفسه قام باستجوابه في إحدى هذه المرَّات.
“أولاد حارتنا” لعلك سمعتَ عنها كثيرًا، كانت باب رزقٍ كبير، فقد دفعت له جريدة “الأهرام” ألف جنيه لتنشرها مسلسلة، ثم أخذ عليها فيما بعد مليون جنيه “جائزة نوبل” وقليلٌ هم مَن قرؤوها… وقليلٌ مَن فَهِموا نجيب محفوظ.
محمد إبراهيم شحاتة
اقرأ أيضًا:
تعليق واحد