مَرَاقِصُ المَرَاقِس
أوِ القِرَاءَةُ الثَّانِية التَّأثِيلِيَّة لحَيَاةِ المَلِكِ امرئِ القَيْس الكِنْدِيّ وشِعْرِهِ
مولاي المهدي الإدريسي
تقديم ومدخل عام:
– هذه مراقص المراقس محاضرة تأصيليّة ماتعة في تأثيل أحداث حياة الملك الضِّلِّيل امرئ القيس؛ جاءت استجابةً لنداء الروح والعقل والقلب لخدمة الأمة الإسلامية المجيدة التي تعيش لحظات صعبة وظروفا عصيبة كان وراءها طاعون كورونا الذي نقرؤه من منظور قوله تعالى {لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11]. وانطلاقًا من مقاصد هذه الآية الكريمة رفعتُ القلم لخطّ هذه المحاضرة العلمية في صورة مدخل عام لدراسة الأدب العربي، وفق تصوّر عميق واستقراء لأهم ما يتصل بموضوع الشاعر، أهديه لطلبة كلية اللغة العربية بمراكش خاصة ولكل طلبتنا في ربوع المملكة والعالم العربي عامة.
من أجل ذلك، واستجابةً لاقتراح عميد كلية اللغة بمراكش، الحفيل الدكتور أحمد قادم حفظه الله، وسيرًا على منهج مؤسستنا العالمية الرائدة ابن تاشفين للدراسات والبحوث والإبداع برئاسة إمامها المفوّه الحصيف الفحيل فضيلة الدكتور عادل رفوش بارك الله لنا فيه، والذي يحرص أن يخرج هذا العمل وغيره على أكمل وجه وأتمّ صورة. جيّشتُ طاقاتي واستدعيتُ جهودي العلميّة ليسيل يراع كتابتي اليوم عن شاعرٍ قيل فيه الكثير وكُتِب عنه الكثير وسالت أمداد في شرح شعره وفَسْرِ قصائده وتأصيل وقائع أحداث حياته، وذلك بمنهج جديد وأسلوب علميّ قشيب يمازج بين الرَّصانة المعرفية وتوخِّي الدقة من غير تطويل مُمِل ولا اختصار مُخِل.
ولقد حرصت جهد الحريص على منهج الاجتباء في الكتابة؛ أقرأ العديد من الكتب والمقالات والأقوال العلمية عن الشاعر، أختصر إشكالاتها اختصارا، وأعتصر قضاياها اعتصارا، وأقدّم للقارئ والطالب الكريم زُبدة ما يجب عليه أن يعرفه في المسألة، حتى إذا ضمّ إلى معرفته التي اكتسبها فهما وتحليلا مقصدِيًّا لكل أبواب وفصول المحاضرة، يكون بذلك حصّل من عُمَدِها علما غزيرا ليس فقط فيما يخص الشاعر وما يدور في فلكه، بل في ضبط الأعلام التي يلحن في قراءتها الكثيرون.
ولقد خصّصنا لذلك ملاحظ تقويميّة ذات منهج معياريّ في الكشف عن مكمن الداء وبيان موطن الدّواء. كما قمنا بسوق أُمّات الكتب التي يجب ألا تخلو منها خزانة طالب علم، سواء الطَّريف منها والتَّليد، وفي التّحميضات المفيدة على منهج الكتابات الكُشكولية مما له وثيق الصلة بالموضوع المُناقَش، مما يتفكَّهُ به القارئ الكريم وينشرحُ له فؤاده، ويمكِّنُه من أن يفتحَ صُوًى تكون له بمنزلة معالم للطريق في طلبه للعلم حتى لا يتيه هدفه ولا يضل سعيه في متاهات البحث ومزالقه، وكُوًى في شكل نوافذ تفتحها له تلكم القضايا الإشكالية المطروحة لسبر معالم قضايا أخرى ذات الوشيجة المتَّصلة بالموضوع.
كما سيجد القارئ الكريم استدراكاتي على بعض العلماء والمُحقّقين في بعض شروحهم، توخَّيت فيهابحِسٍّ نقدي، بما وسِعه جهدي، منهجَ الاستقراء للمادة العلميّة، فتكونَ للدّارس تلكم الوقفات وأخواتها من استدراكات موَفِّقات للمنهج السليم في دراسة الأدب العربي مُؤَصَّلا ومُؤَثَّلا.
ولقد قسّمت هذا العمل الفني إلى أبواب وفصول، تحت كل باب أو فصل ملحظ توثيقي هو سندهما المعرفي، يرجى النظر فيه من أجل التوسع أكثر.
وأمّا عن عنوان المحاضرة “مراقِصُ المراقس”؛ فالأصل المَراقِسة، جمع مَرْقَسيّ، منسوب إلى امرئ القيس، وهي من باب النحت، ومثله عبشمي، نسبة إلى عبد شمس، فقد حَذَفْتُ تاء الجمع تغليبًا لقانون الإتباع في اللغة حتى تتواءم مع المراقص بدونها ويكتمل الجناس على صورة واحدة حسنة. وقد اتبعت في هذا المذهب إمامين لغويين مُتَّبَعَين:
الأول هو: الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش ابن بَرِّي المصري (ت 582هـ) في رده على ابن الخشّاب البغدادي المنتقد لمقامات الحريري في رسالة له بعنوان “اللُّبَاب في الرد على ابن الخشّاب”.
والثاني هو: الإمام عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (ت 327هـ) في “الألفاظ الكتابية”.
وأما فيما يخص معنى “المراقص والمراقس” فهذا مما سأغضُّ عنه طرف النظر فيه تشويقًا للقارئ الكريم ليستنبط المعنى بنفسه في ثنايا المحاضرة.
هذا وإني قد استفدت كثيرًا من كتب علمائنا قديمًا وحديثًا مما سطّروه حول هذا الموضوع في وضعيات مختلفة ومناهج متباينة، لكني وأنا أقرأ لشيخنا المحقق فضيلة الدكتور مصطفى عليّان محقق كتاب “موائد الحَيْس في فوائد امرئ القيس”، وجدته في مقدمة تحقيقه للكتاب يذكر أن الوحيد من فرَّد امرأ القيس من الأقدمينبالتَّناول والدِّراسة هو إمامنا الأصولي البلاغي الناقد الفقيه نجم الدّين الطوفي (ت 716هـ) مؤلّف الكتاب السّالف الذِّكر. ألفيتُ الأستاذ، عفا الله عنا وعنه، قد وقع في وهمٍ ولَبْسٍ مردُّه الإغفال والتسرّع؛ إِذِ الذين تفرّدوا قبل الإمام الطُّوفي بقرون وبعده من القدماء بشرح ديوان امرئ القيس واستكناه معادن جودة شعره وبيان مواطن عبقريّة نظمه كثيرون. لذا رأيت من واجبي استدراكا على الأستاذ المحقق وخدمة ً للعلم وطلبته أن أسوقفي باكورة هذا المدخل ما اكتحلت به العينُ من الكتب العتيقة منها والحديثة ذات الصلة بالموضوع الأساس خدمةً للأمة العربية ووفاءً منّا للأمانة العلمية. أيضا فمن الأقدمين(مرتبة ترتيباً زمنيّاً):
شرح ديوان امرئ القيس لأبي جعفر النّحّاس(ت 238هـ)، قرأه ووضع فهارسه وعلّق عليه الدكتور: عمر لفجاوي. وهذا أعتبره أقدم شرح وصلنا فيما نعلم. يليه:
ديوان امرئ القيس وملحقاته بشرح أبي سعيد السكّري(ت 275هـ)، دراسة وتحقيق الدكتور: أنور عليان أبو سليم والدكتور محمد علي الشّوابكة.
أشعار الشعراء الستة الجاهليين للأعلم الشَّنْتَمَرِيّ (ت 476هـ)، تحقيق:محمد عبد المنعم خفاجي، وضمنهم شعر امرئ القيس.
شرح ديوان رئيس الشعراء أبي الحارث الشهير بامرئ القيس للوزير أبي بكرعاصم بن أيّوب البَطَلْيُوسِي “، هكذا ضَبْطُه الصحيح، (ت 494هـ) اعتنى به محمد السيّد عثمان.
ديوان امرئ القيس بشرح محمد بن إبراهيم بن محمد الحَضْرميّ (ت 609هـ)، قدّم له وحقّقه الدكتور: أنور أبو سويلم والدكتور علي الهم وساعد في تحقيقه الدكتور علي الشومالي.
أما المعاصرون فمشاركاتهم تترى ومتنوعة من شروح ودراساتوأطاريح جامعية ومسارح وأهمّها ما يلي:
- الشروح المعاصرة:
“ديوان امرئ القيس” اعتنى به وشرحه عبد الرحمن المطاوي.
“ديوان امرئ القيس” شرحه وضبطه الدكتور عمر فاروق.
“أخبار المراقسة وأشعارهم وأخبار النوابغ وأخبارهم في الجاهلية وصدر الإسلام” جمعها وقدّم لهاوحقَّقها: الدكتور حسن السندوبي. راجعها وشرحها: أسامة صلاح الدّين منيمنة.
“ديوان امرئ القيس”. ضبطه وصحّحه: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، ولقد اعتمد في تحقيقه على النسخة التي شرحها الدكتور: حسن السندوبي.
“امرؤ القيس حياته وشعره” للدكتور الطاهر أحمد مكّي.
“ديوان امرئ القيس” الصّادر عن ذخائر العرب، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
“ديوان امرئ القيس”كتب هوامشه وشرحه جماعة من الأدباء بإشراف الناشر.
طّرة العلّامة محمد الأمين بن الحسن الشنقيطي على دواوين الستة الجاهليين – شعر امرئ القيس بن حجر الكندي.
- الأطاريح الأكاديمية والرسائل الجامعية:
“الأبنية الصرفية في ديوان امرئ القيس” رسالة دكتوراه تقدّم بهاالباحث العراقي: صباح عباس سالم الخفاجي، بإشراف الدكتور: محمود فهمي حجازي، وتمت مناقشتها بجامعة القاهرة بمصر.
“تأثير امرئ القيس في الخطاب الأدبي والنّقدي الأندلسي” إعداد الباحث: عمر فارس الكفاوين، بإشراف الدكتور سمير الدروبي عن جامعة مؤتة بالأردنّ.
- الدراسات المعاصرة:
“امرؤ القيس ومعجمه اللغوي” للدكتورة سهام عبد الوهاب الفريج.
“قضايا الخلاف النحوي في معلقة امرئ القيس” للدكتور عبد المقصود محمد عبد المقصود.
“امرؤ القيس بين القدماء والمحدثين” للدكتورديب السيّد محمد.
“امرؤ القيس مع السيرة والأقوال والنوادر” إعداد محمد عبد الرحيم.
“امرؤ القيس.. ليس امرأ القيس” قصة امرئ القيس الكندي شاعر العربية الأول، للشاعر والباحث عز الدين المناصرة.
- المسرحيات:
“امرؤ القيس ملكًا” مسرحية تاريخية في خمسة فصول، تأليف: أحمد عكّاش.
“امرؤ القيس في باريس” للدكتور عبد الكريم برشيد.
واللّهَ نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يكون مَدْعَاةً للكشف عن عظمة اللغة العربيّة وقدسيّتها وشرفها، مَلِكةً متوّجةً بين اللغات مهيبةَ الجانب.فحرّاسها ولله الحمد كُثُر يحِنُّون عليها حَنَّة الجفن على العين، ويهفون لخدمتها خدمة الأمِّ الظئور لولدها، حتى إذا ديس عَرِينها حزنوا لها حزن من ذُبِح ابنها الوحيد في حجرها، فيجيّشون لها جيوش التأليف، ويستدعون لنصرتها كلّ الطاقات، خدمةً لها لأنها قبل وبعد كلّ شيء لغةُ الكتاب.
بابٌ في تحقيقِ اسمِ الشاعر ضَبْطًا واشتقاقًا ومَعنًى:
هو امرؤ القيس جُنْدُح بن حُجْر الكِنْدِي. جُنْدُح هكذا بضمّ الجيم مع الدال وإسكان النون،هكذا ضَبَطَتِ اسمَه أمّاتُ كتب النقد والأدب.
ملحظ توثيقي:
– لينظر على سبيل المثال “موائد الحيس” للإمام الكبير نجم الدّين الطوفي الحنبلي، و”شرح حماسة أبي تمّام للمعرّي”.
ملحظ واستدراك في الباب:
أمّا عن معنى جُنْدُح، فألاحظ إحجامًا كاملًا لدى المعاجم العربية التي بين أيدينا عن تفسير الكلمة معنى أو اشتقاقًا.
ولكنّي وبعد طول عناء وجدت المتفرِّدَ الوحيد في شرحها العلّامة الوزير أبا بكر عاصم بن أيوب البَطَلْيُوسِي الأندلسي من علماء القرن الخامس الهجري (ت 494هـ) في مقدمة شرحه لديوان امرئ القيس حيث قال: “واسم امرئ القيس جُنْدُح، وجُنْدُح في اللغة رملة طيبة تنبت ألوانًا”.
والذي أراه، والله أعلم، أن الوزير العالم وقع في لَبس، أو أن اللَّبس والوهم وقعا من الناسخ؛ لأن هذا الإغفال المعجمي من كبار قواميس اللغة في شرح الكلمة يجعلنا نتشكّك في أمر هذا الشّرح الوزيري، خاصة وأن “الحُنْدُج” هو المادّة اللغوية التي تولّت المعاجم تفسيرها لا “الجُنْدح”، فهي “رملةٌ طيِّبَةٌ تنبت ألوانا” كما في القاموس، كما سنرى بعد قليل بحول الله تعالى. وعلى كلّ حال فقد كان لزاما على المحقّق الأستاذ محمد السيّد عثمان أن ينَبِّه إلى هذا صونا لحرمة التحقيق العلميّ الرّصين والله المستعان.
وممّن تسمّوْا قريبا من جذر هذه الكلمة الصَّحابي الجليل: “جُنَادِح بن ميمون”، بضمّ الجيم وكسر الدال وهو صحابي شهد فتح مصر رضي الله عنه.
ملحظ توثيقي:
– انظر القاموس المحيط.
– شرح ديوان رئيس الشعراء أبي الحارث الشهير بامرئ القيس، للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البَطَلْيُوسِي اعتنى به محمد السيّد عثمان.
رواية ثانية في اسم الشاعر:
قد رُوِيَ أيضًا في اسمه حُنْدُج على شهرة الرّواية الأولى دون الثانية.
وأما الحُنْدُج بضم الحاء والدال وإسكان النون كما أسلفنا فيشرحها القاموس بأنها”رملة طيبة تنبت ألوانا” وقد شرحها فيلسوف الشعراء المعري في شرح الحماسة لأبي تمام بقوله: “والحُنْدُجُ كثيبٌ أصفرُ من النَّقا” وذلك في الحماسة التي يقول فيها الشاعر:
لا تعذلي في حُنْدُجٍ إنَّ حُندُجَا… وليثُ عِفِرِّينَ لَدَيَّ سَوَاءُ
وقوله من “النّقا”، النَّقا في المعاجم اللغوية تعني الكثيب من الرِّمال، ولكني حرت حيرةَ الرامي إلى التدقيق فيما قاله “رهين المحبسين”، وكلنا يحفظ بيت ابن دريد في قصيدته “الملعونة” المقصورة:
يا ظبيةً أشبهَ شيءٍ بالمَهَا…..ترعى الخُزَامى بين أشجارِ النَّقَا
فهل يكون النّقا كما شرحه شراح المقصورة كابن هشام اللَّخمِي السبتي والخطيب التِّبريزي بكونه كثيبا من الرمال فقطلأن ما حذانا لهذا التأثيل هو السؤال الإشكالي التالي: كيف يكون الحُنْدُج كثيبا رمليا أصفر من كثيب رملي هو أصالةً ذو اصفرار ملازمٍ له ثمّ هل الصفرة إلا للكثبان من الرمال؟!أليس هذا عجيبا وغريبا؟! إذْ أنّ كِلَا الكثيبين يكو متّصفا بالصُّفرة فكيف يقول من لانت اللغة بين فكيه وسالت البلاغة بين لحييه ما لا تقره معاجم اللغة؟!
الحقيقة أني قلّبت باهتمام بالغ صفحات اللغةلعلي أروي غُلّتي من أقوال العلماء، لعلّي أجد ضالّتي وأقف على مُنيتِيإلى أن هداني الله تعالى بألطافه، فوجدت في المعجم العربي قولا ارتاح له بالي وهدأت فيه بلابل صدري؛ حيث إنّمن الكلمات الدائرة في فلك النَّقا مفردة النّقاة من الرمل وتعني “الكثيب المجتمع الأبيض الذي لا ينبت شيئا”، ولعلّ ذلك من ابيضاض جزيئات رمله، وهو أمر مشاهد ومعاين وبهذا نكون وقفنا على مراد الإمام المعري من قوله: “الحُندُجُ كثيب أصفر من النقا أي كثيب أصفر من كثيب أبيض” فتأمّل.
وأمّا جمع حُندج فحَنَادِيج ومفردها أيضا حُنْدُجَة وأما الحَنَادِج بدون ياء فالعِظام من الإبل.
ملحظ توثيقي:
– لينظر القاموس مادة حُنْدُج.
– ولينظر شرح حماسة أبي تمام لأبي العلاء المعري بتحقيق الدكتور حسن محمد نقشة.
– لسان العرب لابن منظور الإفريقيّ.
سؤال إشكالي:
هل هناك من خالف هذا الضبط من العلماء؟
والجواب عنه بالسَّلب؛ حيث هناك إجماع على هذا الضبط ولم يخالفه أحد من العلماء المعتبرين، وإن كان من اختلاف فيسير لا يعتد به.
أما أبوه فهو حُجْر (هكذا بضم الحاء وإسكان الجيم) بالاتفاق، ويضيف الإمام نجم الدين الطوفي: “أن أوس بن حَجَر فبفتحتين وهو شاعر مضر وفحلها في الجاهلية”.
ملحظ توثيقي:
– لينظر المصادر السابقة.
أما عن معنى امرئ القيس، فتعني امْرَأَ الشِدّة.
وأمّا امْرُؤ: فهو مذكّر امرأة، كما أنّ المَرْء هو مذكّر مَرْأَة.
ورد في المعجم الوسيط وغيره أن “القَيْسَ” بفتح القاف وسكون الياء: الشدّة. ويضيف شيخنا الطوفي: “أن القَيْس هو من الاستدلال والاعتبار وأخذ أحكام الأشياء بعضها من بعض، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: “قِسِ الأمور برأيك، واعرف الأشباه والنظائر”. وإياك أيها القارئ العزيز كسر قافها، فالقِيس بالكسر القَدْر. يُقال قِيسُ كذا أي قَدْره من طول وعرض ووزن.
ويعلّل الإمام الطوفي سرّ تسميته بامرئ القيس فيقول: “لأن رأيه ومعرفته بالأمور كان جيِّدا وقد دلّ على ذلك جودة شعره”.
أما الإمام ابن دريد في “اشتقاقه” فيرى أن الشاعر امرأ القيس إنما هو نسبة لقيس كما تَقُول: رجل بني فلان وهو رجل القيس وأدخل الألف واللام على قيس.
ملحظ توثيقي:
– لينظر المعجم الوسيط.
– موائد الحيس للإمام الطوفي مع حواشي المحقق جزاه الله خيرا.
سؤال إشكاليّ:
هل امرؤ القيس واحد أم المَرَاقِسَة كثر؟
يُجْمَع امرؤ القيس على مَرَاقِسة وهم كثر، ذكر عشرا منهم الأستاذ محمد السيّد عثمان محقق شرح ديوان رئيس الشعراء للوزير البَطَلْيُوسِي الأندلسي، منهم أربعة كلهم شعراء جاهليون من كندة قبيلة شاعرنا وهم:
– امرؤ القيس بن حُجْر صاحب المعلقة وهو كما مَرَّ معنا جاهلي من كِندة.
– امرؤ القيس بن عابس بن المنذر الكندي شاعر مخضرم أدرك الإسلام.
– امرؤ القيس بن بَكْر الكندي الجاهلي المعروف بلقب “الذَّائد”.
– امرؤ القيس بن عمرو بن الحارث الكندي.
في حين أوصلهم “الأستاذ حسن السَّندوبي” في ملحق شرحه لديوان امرئ القيس إلى ثمانية وعشرين شاعرًا كلٌّ من هؤلاء سُمِّيَ بامرئ القيس، وقد أسمى ملحقه “المَرَاقسة أخبارهم وأشعارهم”؛ وذلك لأن كثيرا من الرواة ممن ينسب شعر امرئ القيس صاحب المعلقة إلى من هو شريك له في الاسم، أو أن يلحق بالشاعر قيد الدِّراسة قريضا ليس من نظمه للعلة نفسها. يقول الأستاذ حسن في الموضوع: “وقد يكون فيهم المُكَرّر لاختلاف النسب إلى الآباء تارة وإلى الأجداد أخرى مما يختلط فيه الرواة”.
فصل الكتابة المتمرّدة في قراءة حياة امرئ القيس، والرأي المخالف والشاذّ اعتبارا لتعدُّد المراقسة:
صدر للشاعر الدارس المتمرّد عز الدين المناصرة كتابا بعنوان” امرؤ القيس.. ليس امرأ القيس، قصة امرئ القيس الكندي شاعر العربية الأول”، يذهب فيه برأيه الشّاذّ المخالف لكل الروايات التاريخية التي بين أيدينا إلى أنّ امرأ القيس الشاعر ليس هو الذي زار ملك الروم في القسطنطينية، وإنما الذي زاره هو امرؤ القيس ملك فلسطين الثالثة. معتبرا أن المراقسة كما مرّ معنا كُثُر يصل عددهم إلى حد الثمانية والعشرين، مما جعل المؤرخين في رأيه يقعون في حَيْص بَيْص.
الكتابة المتمرّدة:
– لقد تمرّد الأستاذ عز الدين المناصرة على عدد من موافقات المؤرخين فيما سردوه تاريخا بشأن وقائع حياة امرئ القيس، فهو لم يكتف بتفنيد لقاء الشاعر بملك الروم، بل نفى جملة وتفصيلا ما أجمع عليه تقريبا كل أدباء ومؤرخي حياة الشاعر. فهو يرى أن السَّموأل كان مرابيا ولم يك قطُّ وفيا، بل ولا عرف الوفاء له باب دار نهائيا، وأن الذي “فَبْرَك” بإتقان قصة وفائه المزعومة والمتداولة هو حفيده “دارم بن عقال”.
– وأما الحقيقة المستورة عن الدارسين، في نظر المناصرة، هي أنمقتل امرئ القيس جاء على يد ملك الروم بعد أن وشى به السموأل إلىالملك “الحارث الغسّاني”،الذي كان من المفترض أن يوصل الشاعر إلى الملك الروميّ ليسانده في الثأر لأبيه واسترداد ملكه الضائع؛ لذا فقد أرسل إليه السموألُ “الربيع الفزاري”، وهو صديق مشترك بينهما، ليوصله الملك الغساني إلى قَيْصَر الروم، لا ليمدّ له اليد البيضاء بل ليقتله ويقضي عليه.
ملحظ توثيقي:
– لينظر شرح ديوان امرئ القيس مع ملحقه:
– أخبار المراقسة وأشعارهم وأخبار النَّوابغوأخبارهم للأستاذ حسن السّندوبي، راجعه الأستاذ أسامة صلاح الدين منيمنة.
– مقدّمة محقِّق شرح ديوان رئيس الشعراء للوزير البطليوسي الأستاذ محمد السيّد عثمان.
– امرؤ القيس.. ليس امرأ القيس للشاعر عز الدين المناصرة.
ملحظ تقويميّ معياريّ:
باب فيما بين الإمامين أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب الشّيباني بالولاء ونجم الدين الطوفي في التعبير عن اسم امرئ القيس في التداوليات اليومية الشفهية أو الكتابية:
يخطئ الكثير من طلبتنا، حفظهم الله ورعاهم، ومعهم بعض المهتمين والدارسين في طريقة التعبير عن اسم امرئ القيس في الكتابة الإملائية. فكيف إذاًيمكن للطالب والدارس وغيرهما أن يعبّر عن اسم امرئ القيس دون أدنى خطأ؛إِذِ السرُّ يكمن في شقِّ اسم الشاعر الأوّل امرئ.
فصل في صعوبة التعبير عن كلمة امرئ إعرابا وإملاءً وتيسيرها:
معلوم أن الهمزة المُتطرِّفة، كما قال علماء الإملاء والهجاء قديما وحديثا، تكتب على صورة حركة الحرف الذي قبلها؛ فإذا كان ما قبلها ضَمٌّ تكتب على الواو لتناسب الضَّمِّ مع الواو نحو: لُؤْلُؤ.
فإذا كان ما قبلها فتح كتبت الهمزة على الألف لتناسب الفتحة مع الألف مثل: “مُبْتَدَأ”.
فإذا كان ما قبلها كسر كُتبت على صورة الياء لتناسب الياء مع الكسرة نحو: “مُبْتَدِئ”.
لكن، هل هذه القاعدة تجري اطِّرادا مع كلمة امرئ؟!!
تعالوا لنعرف الجواب بالتفصيل الدقيق من خلال هذا الشرح والتفسير التأثيلي:
من خلال مَا أقرّه الإمام ثعلب رحمه الله في مذهبه يمكن أن نؤكد أن كلمة “امرؤ” هي المفردة الوحيدة المهموزة الآخر الواقعة همزتها طرفا، أي في آخر الكلمة في العربية فيما نعلم بعد سنوات مضنيات من البحث في الباب. يتأثَّر الحرف ما قبل همزتها المتطرفة بحركتها الإعرابية؛ فإذا كانت الكلمة مرفوعة مثلا بالفاعلية ضُمَّتِ الهمزةُ، فإذا ضُمَّت ضُمَّ الحرف قبلها، فإذا ضُّم أعطى للهمزة صورة كتابتها وهي الواو لتناسب الضمة مع الواو.
بتعبير آخر يعني أن الهمزة الحاملة لحركات الإعراب نصبا وجرا ورفعا الواقعة طرفا في مفردة “امرؤ” تُؤَثِّر حركة إعرابها فيما قبلها، فإذا ضُمت الهمزة رفعَ إعرابٍ أثّرت في الحرف قبلها وهو الراء فضُّمَّ، فإذا ضُمَّ أَثَّر في صورة الهمز فأعطاها صورة كتابتها موافقة لجنس حركته. وهذه الكلمة كما أسلفنا هي كلمة “امرئ” الجزء الأول من اسم الشاعر الكبير “امرئ القيس”.
لذا تقول في حالة رفعها بالضمة، قال ٱمْرُؤُ القَيْس في قصيدته كذا وكذا.
وفي حالة النصب بالفتحة تقول: إن ٱمْرَأَ القَيْس في هذه القصيدة كان متألِّقا مثلا.
وفي حالة الجر بالكسرة تقول: في قصيدة ٱمْرِئِ القَيْس يؤكد الشاعر كِيت وكِيت..
هنا نلاحظ أن همزة “امرئ” في المثال الأول جاءت مضمومة لكونها فاعلا للفعل قال، فلما ضمت الهمزة متأثرة بعامل الإعراب” الفاعلية ” تأثر ما قبلها وهو الراء فضُمَّ هو الآخر، فلما ضُمّ أثّر في صورة الهمزة، حيث كتبت على الواو لتناسب الضَّمّ مع الواو كما هو معلوم في قاعدة التطرّف في الهمز.
ولله درّ شيخنا الإمام الطوفي رضي الله عنه فقد اختصر هذا كله بكلمات مُوجزات المبنى مُنجزات المعنى بقوله: “وامرؤ القيس لقب وإعرابه من موضعين: الرَّاءُ والهمزةُ”.
ملحظ توثيقي:
– للتَّوَسُّع فلينظر كتاب: “مشكلة الهمزة العربية” لشيخنا العلامة اللغوي المحقق الكبير رمضان عبد التواب رحمه الله.
– موائد الحيس.
تحقيق وضبط نسب الشاعر العائلي:
هو امرؤ القيس الكِنْدِيُّ اليمنيّ، بكسر الكاف وتسكين النون. وكِنْدَة في الأصل قحطانيون، تتجذّر شجرة أصولهم في أرض اليمن، لذلك لُقِّبَ شاعرنا بكونه كِنْدِيًّا يَمَنِيًّا، وفي ذلك يقول الشاعر السّموأل، مضرب المثل في الوفاء، في حادثة وفائه بأمانة امرئ القيس:
وَفيتُ بأدْرُعِ الكِنْدِيِّ إنّيإذَا مَا خَانَ أَقْـوَامٌ وَفَيـْتُ
ولذلك وجدنا من الدارسين من يقول: “بدأ الشِّعرُ بالكِنْدِيّ وانتهى بالكِنْدِيّ”؛ فيقصدون بالأوّل امرَأ القيس وبالكندي الثاني أبا الطيب المتنبي، فإنه أيضا من كِنْدَة. في حين ردّ عليهم بعضهم بقوله: “إنما بدأ الشعر بملك وانتهى بملك”، فيقصدون بالملك الأوّل شاعرنا امرأ القيس، وبالملك الثاني الأمير أبا فراس الحارث بنَ سعيد الحمْداني، ابنَ عمِّ سيف الدولة أمير حلب.
وكما ترى أيها القارئ الكريم وإن اختلفت الأقوال في إثبات المكانة الشعرية لأحد من الشّعراء فلا يختلف واضعوها في تمكينها لإمامهم وأميرهم امرئ القيس.
ملحظ توثيقي:
– انظر للتوسع: حاشية تحقيق العلامة الدكتور عبد الحميد هنداوي والأستاذ إبراهيم محمد حسن الجمل لكتاب “المرقصات والمطربات” للعلامة الناقد ابن سعد المغربي الأندلسي بشأن الشاعر امرئ القيس.
– سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون للإمام ابن نُباتة المصري.
سؤال إشكاليّ:
والآن هيّا بنا على أجنحة المحبة الصادقة وطير الأشواق للولوج إلى عالم أسرة الشاعر الجاهلي الكبير، وأوّل سؤال يعترضنا هو: هل هذا الفحل الكبير كان شاعرا مُعْرِقًا؟
باب في تعريف وحَدِّ الشاعر المُعْرِق والشاعر الثُّنْيَان بين المعجم اللّغوي والناقدين الأديبين الكبيرين ابن رشيق وأبي منصور عبد الملك الثعالبي وما تفرّع عن ذلك:
المُعْرِقُ، بضم الميم وإسكان العين وكسر الراء، مشتق من العِرْق كما في معجم لسان العرب والقاموس والتاج وغيرها من معاجم اللغة المعروفة. والعِرْق هو الأصل، يقال رجل مُعْرِق في الكرم أي أنه وُلِد في أصل كريم،ومن هذا الأصل وفدت علينا كلمة المُعْرِق.
المُعْرِق أدبيًا حدّدها ابن رشيق في كتابه “العمدة” في ثلاثة شروط وهي: أن يكون الرجل شاعرا وكذا أبوه وجدّه فما فوق. فإن اقتصر على كونه شاعرا وأباه سمي ثُنْيَانًا بالضم، وهو في الأصل المعجمي يعني الذي يأتي ثانيا في السِّيادة. ويعني أيضا الشاعر الذي يُسْتَثْنَى لرفعته بين القوم، فلا يشبهه أحد لمكانته فُحولةً وجودًا وكرمًا،يقول النابغة زياد بن معاوية الذُّبياني:
يَصُدُّ الشَّاعرُ الثُّنْيَانُ عَنِّيصُدُودَ البِكْرِ عَنْ قَرْمٍ هِجَانِ
ومن هؤلاء نذكر كعب بن زهير بن أبي سلمى، فهو شاعر ثُنيان من جهة نسبه بأبيه، لأنه شاعر ابن شاعر؛فأبوه شاعر فحل من فحول الجاهلية من أصحاب المعلقات وتفرّد بالحوليات.
أما الأصمعي عبد الملك بن قُرَيْب فيرى أن الثنيان مشتق ممن تثنى عليه الخناصر لأنه الأول.
وهنا لأوَضِّح للقارئ الكريم هذه المسألة لا بد من استحضارتأصيلها بنصوص فريدة وتأثيلها بشواهد نضيدة.
فصل في بيان الصلة بين التعبير الرياضي والتعبير اللغوي. أيُّ علاقة؟!
إذا طوّفنا الأحداق في حدائق أئمة البلاغة ورياض رؤسائها، فإننا سنؤوب حتما إلى جنّة المدرسة الزمخشرية؛ حيث سنستلُّ من خزانتها العامرة الباهرة “كتاب المقامات”، ولَنفتحِ الأوراق على “مقامة الخمول” التي يعظ فيها إمامنا جار الله نفسه بنفسه حتّى يتحلّى بغطاء الخمول ويَتلفَّعَ به بين الناس فيبدؤها بقوله: ” أبا القاسم، يا أسفي على ما أمضيْتَ من عُمُرِكَ فيِ طلبِ أن يُشادَ بذكركَ وَيُشارَ إليْكَ بأصابعِ بَني عَصْرِكَ… وما أدراك يا غافل ما الكامل؟ الكامل هو العامل الخامل الذي هو في الأرض مَنْكُور وهو عند الله مَذْكُور…. ليس له ظهير ولا ناصرولَا تُثْنَى به أَبَاهيمُ ولا خناصر”.
فقوله: “ولَا تُثْنَى به أباهيم ولا خناصر” كناية عن عدم أوليته وأنه دون القوم فضلا، ذلك لأن العرب كانت تعقد حسابها بالخنصر؛ لأنه يوافق المعدود الضعيف بين الأعداد وهو الوحدات الموائمفي صفتها ضعف الخنصر بين الأصابع، فناسب عدّهم بالضعيف من العدد عقدهم بالخنصر الضعيف بين الأصابع.
ومن ذلك في العد يبدؤون بالصغير وهو الوحدات ثم ينتقلونللعشرات وللمئات فما فوق فيقرؤون العدد (1893) هكذا: ثلاثة وتسعون وثمانمئة وألف، وهكذا انتقلت هذه القراءة الرياضية للقراءة اللغوية؛ ففي أوصافهم أيضا يبدؤون بالقوي فما فوقه فيقولون كما في فقه اللغة للثعالبي: “عالم نِحْرِير، وشاعر مُفْلِق، وخطيب مِصْقَع، ودليل خِرِّيت، وفيلسوف نِقْرِيس”. فكل نحرير عالم وما كل عالم نحرير فتأمّل.
هذه الصورة نجدها أيضًا في نظم العلامة الأديب ابن سنان الخفاجي تلميذ المعري في قوله:
عَدَّ الزَّمانُ لِئَامَهُ فَاسْتَوقَفَتْتِلكَ الخِلَالُ عليه عَقْدَ الخِنْصِرِ
أما أبو عمرو الشيباني فيرى أن الشاعر “الثُّنْيَان” مشتق من الاستثناء عندما يقول القائل: ما في القوم أشعر من فلان إلا فلان، فالمستثنى هو الشاعر الثُّنْيَان.
إلا أنَّ الثُّنيان يعني أيضا الرجل الإمّعة الذي لا رأي له، وهو رأي ابن هشام وأبي علي القالي غير أن القالي يُضيف أنه يطلق على الرفيع أيضا.
أما الشاعر المعرق عند الإمام الثعالبي كما جاء في كتابه “لطائف المعارف” فهو الذي يكون شاعرا أصالةً وله فروع من عرقه كلُّهم شعراء، ولا يشترط ما اشترطه ابن رشيق في عمدته. ومن هؤلاء ذكر الثعالبيشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت المؤيد بروح القدس، هذه زيادة ابن سعيد الاندلسي في “المرقصات والمطربات”، والحافظ الإمام عبد الحي الكتاني الفاسي في “الإفادات والإنشادات “.
فحسان رضي الله عنه ابناه عبد الرحمن وليلى شاعران، وأختاه خولة وفارعة كانتا شاعرتين، بالإضافة أيضا إلى أمه الفريعة بنت خالد الخزرجية زوجة ثابت بن المنذر كانت أيضا شاعرة.
وعلى مذهب الثعالبي يمكن القول بأن المعرق هو الشاعر الذي عاش في كنف أسرة شاعرة، يمتح منها شاعريته ويهذّبها ويروي قريحته ويصقلها بين أفرادها.
وأكبر شاعر في نظري أعتبرُه أكثرَ الشعراء إعراقاً فيما توصلت إليه من مباحث هو وصيف امرئ القيس في المعلقات طرفة بن العبد؛ فقد كان عمه “المرقِّش الأصغر” شاعرا، وعم عمه “المرقش الأكبر” كان شاعرا أيضا، وجده الأعلى شاعر، وخاله “المتلمس جرير بن عبد المسيح” شاعر أيضا، وأخته من أمه وردة شاعرة واسمها “الخِرْنِق بنت بدر بن هفَّان”، ولها ديوان رواه الإمام أبو عمرو بن العلاء البِصْرِيُّ وهو مطبوع متداول حقّقه العلامة حسين نصّار وأعاد تحقيقه الأستاذ يسري عبد الغني عبد الله.
ملحظ توثيقي:
– للتوسّع ينظر: العمدة لابن رشيق.
– لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي.
-المرقصات المطربات لابن سعيد المغربي الأندلسي.
– الإفادات والإنشادات للحافظ الإمام محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الفاسي.
– المُفَضَّلِيات للمُفَضَّل الضَّبِّي تحقيق وشرح العلامة أحمد محمد شاكر والعلامة عبد السلام هارون.
– ديوان ابن سِنان الخفاجي تحقيق الدكتور عبد الرزّاق حسين.
-مقدمة شرح ديوان رئيس الشعراء للوزير أبي بكر عاصم البطليوسي اعتنى به الأستاذ محمد السيّد عثمان.
سؤال إشكالي:
هل كان امرؤ القيس كوصيفه طرفة في الإعراق؟!
بالبحث في عرق امرئ القيس مليًّا وتصفح شجرة نسبه وجدنا أنه شاعر معرق من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: جهة خاله الشاعر الجاهلي الكبير المُهَلْهِل بن ربيعة التَّغلِبي الملقّب بالزِّير، ويرجع لقبه بالزير إلى أخيه الشقيق كُلَيْب. فأمّ امرئ القيس، واسمها فاطمة بنت ربيعة التَّغلبية، هي أخت الزير المهلهل بن ربيعة وبهذا يكون الزير خالا للشاعر.
الجهة الثانية: خاله الثاني كُلَيْب أخ المهلهل الشقيق هو شاعر أيضا، وهو صاحب الأبيات الشهيرة الحكيمة كما في رواية “سرح العيون” وغيرها:
يَالَكِ من قُبَّرَةٍ بِمَعْمَرِخَلا لكِ الجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفُرِي
قد رُفِع الفَخُّ فَمَاذَا تَحْذَرِي وَنقِّري ما شِئت أن تُنَقِّرِي
قد ذهبَ عنكِ الصَّيّادُ فأبشِرِيلَا بُدَّ يوما أَن تُصَادي فٱحْذَرِي
الجهة الثالثة: حفيد جده المهلهل كان شاعرا، وهو الشاعر الفحل الكبير عمرو بن كلثوم التغلبي؛ فقد زوّج المهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس ابنتَه الكبيرة ليلى، والذي بها يُكَنّى لكُلْثُوم بن مالك التغلبي، فأنجبت له فارسا من كبار فرسان العرب ومفخرة من مفاخر الشعر العربي اسمه عمرو بن كُلثوم التغلبي صاحب المعلقة المشهورة التي مطلعها:
أَلَا هبّي بصَحنِكِ فاصبَحِينَا وَلا تبقي خُمورَ الأَنْدَرِينَا
ملحظ توثيقي:
– للتوسع فلينظر: فصول قيّمة جدا في حياة هؤلاء الشعراء من كتاب ماتع مفيد اسمه “سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون” للعلامة الناقد الأديب الكبير جمال الدين ابن نُبَاتَة المِصْرِي المتوفى سنة 768 للهجرة تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
ملحظٌ تقويميٌّ معياريٌّ:
– سمعت ذات مرّة من يدرّس الأدب الجاهلي للطلبة يلحن في ضبط كُلْثُوم اسم والد الشاعر عمرو، وهذا والله من أوّل ما يجب على الأستاذ ضبطه ضبطا كاملا!!والصواب المتّفق عليه معجميا هو ضمّ كاف “كُلْثُوم” هكذا، ويعني في معاجم اللغة كاللسان وغيره: الوجه الممتلئ الخدين باللحم، ويُطلق على الرجل والمرأة على السّواء،ومنه اشتقت “الكَلْثَمَة” بفتح الكاف على وِزان “فَعْلَلَة”.
باب في إضافة طريفة ونكتة لطيفة بعنوان “ومن النَّقد مَا فَصَل”:
لم يكن امرؤ القيس شاعرا منتسبا لعائلة شاعرة فقط بل إن زوجته “أمّ جُنْدُب” كانت على ذوق عال في التعامل مع القصيد والحكم عليه بالجودة والرداءة.
لذلك عدّها الدكتور الأديب أحمد الحوفي في أطروحته الماتعة للدكتوراه نموذجا للمرأة الجاهليّة الناقدة للشعر.
فصل في قِصَّة الفحلين والنّاقدَة وأبعَادُها الفَائدَة:
تروي كتب الأدب القديمة “كالأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني و”المُوشّح” للمرزُباني وغيرهما من مصادر أن امرأ القيس نَاظر علقمة بن عَبَدة الفحل مناظرة فنية تزيّت في شكل مايصطلح عليه أدباً بالمطارحات الشعرية والمنافرات الفخرية الأدبية في أيّهما أشعر من الآخر، فاحتكما إلى زوجة امرئ القيس أمِّ جُندب التي استمعت لعريضة المناظرة، فأفتت أن يركب كلاهما فرسا ويصف كلٌّ منهما طريقة جريه ويصوّر بريشته التَّصويريّة أسلوب التعامل معه ركوباً وأداءً، على أن يكون التعبير عن ذلك كله شعرا على نفس القافية والروي.
وبعد أن رأت واستمعت لهما حكمت لصالح علقمة بدعوى أن مُناظِرَه أجهد فرسه، فطلَّقها امرؤ القيس ليتزوّجها علقمة، وبذلك لُقِّب بالفحل في أحد القولين المعتبرين في المسألة.
تحميضات: طريفة مُستَملحَة:
من الطريف أني وجدت “أم جندب” في “معجم اللغة العربية المعاصر” تعني: الداهية والغدر والظلم، يقال ركب أمَّ جُنْدُب ووقع بأمِّ جُنْدُب أي ظلم، فكانت كاسمها لها من كنيتها أوفر نصيب داهية مصيبة نزلت على امرئ القيس، لكن هل كانت غادرة ظالمة له بحكمها لصالح نزيله في اللقاء؟!
فصل القصة في ميزان عميد الأدب العربي:
هذه القصة التقطتها الأذن النّاقدة المرهفة لعميد الأدب العربي طه حسين ليجعلها دليلا قاطعا في الذهاب “إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء..”،كما يقول هو بالحرف في كتابه “في الشعر الجاهلي”. والسر في ذلك كما يقول الدكتور أحمد الحوفي في رسالته الأكاديميّة المتميزة “المرأة في الشعر الجاهلي” أن مصطلحات القافية والروي التي جاءت على لسان الزوجة كفيلة بإسقاط القصة روايةً وسندًا، لأنها مصطلحات لم تظهر إلا في العصر الأموي في المائة الثانية عند رائد العروض ومكتشفه ومقنّنِه الإمام الخليل رحمه الله فكيف يظهر المفعول قبل فاعله.
ملحظ توثيقي:
– للتوسع يرجى النظر في: المرأة في الشعر الجاهلي للدكتور الأديب أحمد الحوفي.
– المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب للعلامة الأديب المؤرخ محمد نجيب البهبيتي.
باب امرؤ القيس هل هو في النّار؟! نظرة على الأحاديث الواردة في ذلك وأبعادها:
لا يحدد مصير الإنسان إلا الله سبحانه، فبيده كل شيء ولا ندري على أيّ حال سيختم للعبد، لكننا كما سنرى بتفصيل بعد قليل، بحول الله تعالى، أن الراجح أن امرأ القيس كان وثنيامسرفا على نفسه بإغراقها في الشهوات، يسير معها حيث سارت ويدور معها حيث دارت، متهتِّكا خليعا ماجنا. إلا أن الذي يهمنا هنافي هذا المقام هو تحقيق الأحاديث التي تدور على الألسنة وتكتبها الأقلام محتِّمة النارية على الشاعر، وبعضهم يتلذّذ مما لا علم له بسوقها تشفيّا في شاعر كبير، فما درجة صحتها من ضعفها؟ وما أبعادها الأدبية والنقدية؟!
بادئ الأمر سنجد أن جميع الأحاديث المتحدثة عن الشاعر كلها تدور في فلك الضعيف، وقد تتبعت هذه الأحاديث كلها في كتب الحديث المعتمدة، وسأضعها بين يديك أيها القارئالكريم مع تخريجها وبيان درجة الحديث:
– حديث: “امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار يوم القيامة”.
* رواه ابن حبان في المجروحين وفيه محمد بن الضوء بن الصلصال، روى عن أبيه المناكير، لا يجوز الاحتجاج به.
– حديث: “امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار”.
* أخرجه أحمد في “المسند” والبزار في “مجمع الزوائد” للهيثمي وحكم الألباني في “السلسلة الضعيفة” بأنه حديث منكر. وحكم شعيب الأرنؤوط في تخريج المستدرك بأن إسناده ضعيف جدا.
-حديث: “امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار يوم القيامة لأنه أوّل من أحكم قوافيها”.
* مُنكر بهذا الإسناد، وقد أخرجه أحمد في مسنده والبزّار في مجمع الزوائد للهيثمي.
– ورُوِي أيضا بلفظ: “امرؤ القيس صاحب لواء”. وهو في “العلل المتناهية”لابن الجوزي لا يصح.
– كما رُوِي بلفظ: “امرؤ القيس قائد لواء الشعراء إلى النار” أخرجه شعيب الأرنؤوط في تخريج “سير أعلام النبلاء” للذَّهبي وفيه أبو الجهم قال عنه أبو زرعة الرازي واهٍ.
فصل في أبعاد الأحاديث:
– على الرغم من ضعف هذه الأحاديث كما رأينا فقد استنبط منها الإمام نجم الدين الطوفي في “موائد الحيس” لطيفة نقدية غميسة، وهي أنه ما دام حُكِمَ لامرئ القيس بأخذ لواء الشعراء فهذا دليل على تقدّمه لأنه لا يأخذ اللواء إلا المتقدّم من الناس.
فصلٌ في بيان ما نُسب إلى كونه حديثا في الباب وإنما هو من كلام العلماء:
يزعم الإمام الطُّوفي رحمه الله أنَّ من الأحاديث المبرِزَة لمكانة امرئ القيس في مسألة سماع قصيدة “قفا نبكي” حديث: “قاتله الله أوّل من وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مِصْرَاع واحد”.
والحقيقة بعد إلقاء أضواء البيان الكاشفة على الحديث أنه من كلام الإمام أبي عمرو ابن العلاء البِصْرِيّ فيما نبّه إليه المحقق الدكتور مصطفى عليان معتمدا على مصدرين اثنين:
– “حلية المحاضرة” لأبي علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتميّ (ت 388هـ).
– و”إعجاز القرآن” للباقلّانيّ (ت 402هـ).
ملحظ تقويميّ معياريّ:
– الإمام المقرئ أبو عمرو ابن العلاء البِصْرِيّ، هو بكسر باء نسبته إلى البَصْرة المدينة العراقية المعروفة، وكسر الباء في النسبة إليها هو الأفصح، وهو مذهب شيخنا الإمام مولاي أحمد أبي عبيدة المحرز سيبويه العصر رضي الله عنه وأرضاه؛ وعلّته في ذلك بارك الله لنا فيه أن فتح باء النسبة إلى البَصرة يدل على النسبة إلى الحجارة البيضاء التي تسمى لغةً بالبَصرة. جاء في اللسان: “البَصْر والبِصْر والبَصْرَةالحَجَر الأبيض الرِّخْو.. وقال الجوهري وبه سمّيت البصرة”. لذلك يقع اللَّبس في من فتح باء النِّسبة للبَصرة، أَهو من البَصْرَة: الحَجر الأبيض أو النسبة للمدينة؟! لذلك اختار شيخنا حفظه الله لغة الكسر رفعًا لكل لَبس أو وَهم، وهو اختيار طيّبيحترم مقاصد اللغة وأبعادها.
باب في المقامات القيسية في الشرائع الدينية بين المزدكية والوثنية وغيرها:
فصل في تحقيق ديانة امرئ القيس:
يرى بعض الباحثين في الحقل الديني أن امرأ القيس كان على دين المسيح عليه الصلاة والسلام، وهو أمر نادى به الشيخ اللغوي الأب لويس شيخو ودافع عنه بصلابة وبقوّة فيكتابه عن “شعراء الجاهلية الذين كانوا على دين المسيح عليه الصلاة والسلام “، مستدلا أن كِندة اليمنية كانت تدين بهذا الدين.
لكن منهم من رأى خلاف ذلك وهو أنه كان وثنيا كما في رأي الشاعر عز الدين المناصرة، إلّا أنّ وثنيته لم تكن مكشوفة ظاهرة. وبعض الكَتَبَة البَحَثَة يرى أنه كان مزدكيا على دين “مزدك الفارسي” الذي أغرق الفرس في الانحلال الأخلاقي والظُّلم السُّلوكي.
ملحظ توثيقي:
– ليراجع هنا: الملل والنحل للشهرستاني.
– وتاريخ الطَّبري.
– ومجلة المقتبس العدد (15) ففيه مناقشة رصينة في الرد على العلامة اللغوي الأب لويس شيخو فيما ذهب إليه بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة.
– امرؤ القيس.. ليس امرأ القيس، للشاعر الباحث عز الدين المناصرة.
باب في طرائف المقامات الدينية، أو ماذا لو أسلم أصحاب المعلّقات؟!
تحدّث الإمام أبو إسحاق الزجاجي في “أماليه الصغرى” فيما وقفت عليه أن الحنيفية كانت في عرب الجاهلية، ويشترط فيمن اتسم بها أن يكون نابذا لعبادة الأصنام راغبا عن شرب الخمر متطهرا طائفابالبيت.
هذه الشروط الذي ذكرها الإمام الزجاجي نجدها سمة بعض الشعراء في الجاهلية قبل أن يسلموا كالنابغة الجعدي رضي الله عنه، فقبل أن يسلم أُثِر عنه ابتعاده الكامل عن الأصنام وشرب الخمر والميتة.
إلا أن المجمع عليه أن جميع شعراء المعلقات في الجاهلية لم يكونوا مسلمين ولم يسلم منهم بالاتفاق سوى لبيد بن ربيعة رضي الله عنه، مع اختلاف في أمر أعشى بكر ميمون بن قيس، والراجح أنه مات على غير دين الإسلام في القصة المعروفة.
لكن الطريف في الأمر أن من الدارسين من حمله الشوق الفنّيإلى معرفة حال هؤلاء الفحول من شعراء المُذهَّبات في حال إسلامهم كيف ستكون معلقاتهم بطابعها الإيماني؟!
نجد الجواب عن هذا السؤالالعجيب الغريب في كتاب طريف في الباب للأستاذ “يوسف العظم” رحمه الله حيث ألّف ديوانه وهو بعنوان: “لو أسلمت المعلقات:نظرات في المعلقات الجاهلية ومعارضتها بسبع إسلاميات”.
فصل في المعلقة المسلمة، أو ماذا لو كان عمرو بن كُلْثُوم التَّغْلِبِيّ مسلمًا؟!!
تخيّل الشاعر العظيم يوسف العظم بمِخياله الأدبي المُرهَف ماذا لو كان عمرو بن كُلثوم التغلبيّ مسلما موحِّدا، فبدل أن يقول مفتخرا بخمرياته وغزواته الفروسية:
ألا هُبِّي بصحنِك فاصْبَحِينَا * ولا تبقي خمور الأندرينا
مُشَعْشَعَةً كأنَّ الحُصَّ فيها * إذا ما الماءُ خَالطَها سَخِينَا
أبا هند فلا تعجل علينا * وأنْظرنا نُخَبِّرْكَ اليَقينا
بأنّا نوردُ الرَّايَاتِ بيضًا * ونُصْدرهنُّ حُمْرًا قد رَوِينَا
سينظم معلقته في حال كونه مسلما على الشكل التالي:
أَلا هُبّي بربِّكِ نبِّهينا * فَنُورُ الفجر أَوشَك أن يَبِينَا
لِنَسْجُدَ للمُهَيمِنِ في خُشُوعٍ * وَنرْكَعَ لِلَّذِي فَطَر الجَنِينَا
أَخَا الأوثان لَا تعجل عَلَينَا * وَلَا تحمل لِواءَ المَارِقينَا
لعلَّ اللهَ يَشْرَحُ مِنْكَ صَدْرًا * فَتمضِي في دُروبِ الصَّالِحِينَا
فصل في المُعلَّقة المسلمة، أو ماذا لو كان امرؤ القيس مسلما؟!
ماذا قال صاحبنا معارضا شاعرنا الفحل امرأ القيس في معلقته التي يقول فيها:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ * بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُها * لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ
تَرى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِها * وَقيعانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ
كَأَنّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلوا * لَدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
هاكم المعلقة القيسيّة المسلمة فلنستمعْ جميعا:
قِفَا نبكِ من ذِكْرٍ تَحَدَّرَ من عَلِ * وقَوْلٍ من الرّحمن والحَقُّ مُنْزَلِ
يرِقُّ به قلبي وتسمُو خَوَاطري * وتَصفُو به نفسي وَينْفَكُّ مُعْضَلِي
كتابٌ من الأحكام والبِرّ آيُهُ * وفَيْضٌ من الإلهامِ والنُورِ يَنْجَلِي
تسَامَى بنا في موْكَبِ المجدِ والعُلى * وأَرسَى لنا رُكْناً مِنَ الحُكْمِ فَيْصَلِ
يَتِيهُ على الأكوانِ قَولاً وحكمةً * ويُحيِي لنا الآمال غَيْرَ مُخَذّلِ
كتابٌ ودستورٌ وشِرْعَةُ أُمّةٍ * ونورٌ من الإيمانِ والمنطقِ الجَلِي
باب في تحقيق الألقاب القيسية وتدقيقها:
شُهِر امرؤ القيس بلقبين شهيرين يحفظهما الصغير قبل الكبير وهما “ذو القروح” و”الملك الضِّلِّيل” فما تحقيق كُلٍّ منهما؟
ذو القروح: أي صاحب الجراح التي خلَّفتها الحُلَّة المسمومة التي أرسلها له القيصر الروماني “يُوسْتَنْيَانُوس” انتقاما منه بعد أن بلغه أمر علاقته بابنته الأميرة ليموت سنة (560 للميلاد) متأثِّرا بقروحه، وقد روي غير ذلك بشأن مقتله وهذه أشهرُها وأرجحُها.
ملحظ توثيقي:
– للتوسّع ينظر: “سرح العيون” و”الأغاني” و”المُوشّح” وكل كتب الأدب الجاهلي القديمة.
الملك الضِّلِّيل على وزان فِعِّيل لكثرة ضلاله وفجوره ووثنيّته وإسرافه على نفسه خمرًا ولذَّةً وتشبيبًا بالنساء، حتى إن أباه طرده من البيت وآلى ألا يعود إليه، ومع ذلك أكمل طريقه المنحرف وانصرف إلى الفسق والمجون ومعاقرة المُدامَة.
فصل: رأي آخر لشيخ العربية وإمامها أبي فهر:
يرى شيخنا الإمام أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله في حاشية من حواشيه على تحقيق كتاب”فحول الشعراء لابن سلّام الجُمَحِي” أنه لقّب أيضا بالملك المُضَلَّلَ -اسم مفعول من الفعل الرُّباعي ضَلَّل- وهو الذي لا يوفق لأيّ خيرلما كان من حيرته في الثأر لأبيه وطلب ملكه وإخفاقه بعد الجهد.
ملحظ توثيقي:
– يُرجى للتوسع النظر في حواشي تحقيق الدكتور مصطفى عليان لموائد الحيس.
أمّا عن كونه وُصِف بالملك فلأنّه وَرِث الملك عن أبيه الذي كان ملكا على بني أسد؛ حيث نشأ في بيت ملك واسع الجاه في نجد وسط قوم عدنانيين، وعندما قتل بنو أسد أباه ثارت نفسه وفارت وأزال عنه لباس الخلاعة طلبا للثأر وقال مقولته القيسية التي صارت مسيرة النيّرات ومضرب الأمثال: “… لَا صَحْوَ، اليومَ خَمْرٌ وَغَدًا أَمْرٌ “.
ملحظ توثيقي:
– انظر مجمع الأمثال للميداني المثل رقم: 4684.
باب الشاعر بين المقامات الشعرية:
فصل في مقام امرئ القيس عند الصحابي الجليل الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة صاحب المعلقة:
تنقل لنا كتب الأدب ككتاب “موائد الحيس” للطوفيو”طبقات فحول الشّعراء” للجمحي و”الشّعر والشّعراء” لابن قُتَيْبة شهادة لبيد رضي الله عنه في امرئ القيس تُظهر المكانة الكبيرة لهذا الشاعر في قلب لبيد، فعندما سُئِل عن أشعر الناس قال: “الملك الضِّلِّيل-ويقصد به امرأ القيس- ثمّ الشّاب القَتِيل -ويقصد به طرفة- ثمّ الشيخ أبو عَقِيل” ويقصد به نفسه.
فصل في مقام امرئ القيس عند الشّاعر غالب بن همام بن صعصعة المعروف بالفرزدق الأموي:
عندما افتخر الفرزدق بشاعريته ذكر ثُلَّةً من جِلَّة كبار الشعراء الذين يفخر أنهم وهبوه الشعر وورثه عنهم فقال:
وَهَبَ القَصَائِدَ لِي النَّوَابِغُ إذْ مَضَوْا * وَأبو يَزِيدَ وذُو القُرُوحِ وَجرْوَلُ
إضاءة أدبية:
– يقصد بقوله و”أبو يزيد” الشاعر المخضرم الفحل المُخَبَّل السَّعْدِي أو القريعي من قبيلة أنف الناقة.
– و”ذو القروح” هو لقب شاعرنا امرئ القيس كما مرَّ معنا.
– و”جَرْوَل” هو الحطيئة واسمه جَرْوَلُ بن أَوْس أبو مُلَيْكَة الشاعر المُخَضْرَم.
فصل في الاستدراكات المهديّة على شرَّاح القصائد الفرزدقيّة:
للأمانة العلمية واحتراما للبحث الأكاديمي نطرح سؤالا إشكاليا كالتالي: ما المقصود بالنوابغ حقيقةً؟! هل النوابغ هم الثلاثي المعروف لدى القاصي والداني الذي جرى بهم القلم الأدبي في شرح البيت وهم: النّابغة زِياد بن معاوية الذبياني الجاهلي،والنابغة حَبَّان بن قيس الجَعدي المخضرم رضي الله عنه، والنّابغة عبد الله بن المخارق الشَّيْبَانِي الأموي؟ أم أن هناك شعراءَ نوابغَ آخرين لقِّبوا بهذا اللَّقب وأغفلتهميراعة شُرّاح ديوان الشاعر الذي قد يكون قصدهم من باب خَفِيّ.
الحقيقة أن من ذهب من الدارسين والناقدين، وهم كثر، إلى أن النوابغ هم الثلاثة المذكورة أسماؤهم آنفا فقط فقد ظلم النوابغ الذي يصل عددهم إلى ثمانية أو عشرة نوابغ، أغلبهم شعراء متمكنون، منهم من عاش في الجاهلية ومنهم من عاش في صدر الإسلام، وقد جمعهم الأستاذ حسن السندوبي مشكورا مقتفيا آثارهم في كتابه الباتع المفيد: “أخبار النوابغ وآثارهم في الجاهلية وصدر الإسلام”، ونستدرك على الأستاذ أن منهم من عاش في ظلِّ الدَّولة الأموية كالنابغة الشيباني، وسنقصر الحديث فقط على ذكر تمام الثمانية من الثلاثِ الأُوَل وهم خمسٌ كالتالي:
النابغة الحَارِثِي وهو يزيد بن أبان قال عنه الآمدي شاعر محسن.
النابغة العُدْوَاني من بني وابش بن زيد بن عدوان.
النابغة العُدْوَانِي من يَرْبُوع بن لقيط ينتهي نسبه إلى مسعد ذبيان ولذا يقال له النابغة.
النابغةالذُّبْيَانِي وهو غير النابغة الذبياني زياد بن معاوية صاحب المعلقة ويقال له أيضا نابغة بني قتال.
والنابغة الغَنَوِي بن لأي بن مطيع ينتهي نسبه إلى غني.
والنابغة التَّغْلِبِي هو الحارث بن عدوانينتهي نسبه إلى غنم بن تغلب.
ملحظ توثيقي:
– للتوسع فلينظر: ديوان امرئ القيس، أخبار المراقسة وأشعارهم وأخبار النوابغ وأخبارهم في الجاهلية وصدر الإسلام. جمعها وقدّم لها وحقَّقها: حسن السندوبي. راجعها وشرحها: أسامة صلاح الدّين منيمنة.
باب في المقامات القيسيّة في الكتابات الأدبية والنقدية
من أوائل دهاقنة العلموأساطينه الذين اهتمّوا بشعر امرئ القيس شرحا ونقدا وتنقيدا واستكناها لِغَوْر بديع فرائده والوقوف على رفيع شرائده الإمام الكبير الأصولي الفقيه المفسر نجم العلماء ومجرة المحققين نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الحنبلي رضي الله عنه وأرضاه (ت 716هـ).
فصل عن “موائد الحَيْس في فوائد امرئ القَيْس”:
هذا الكتاب البديع الصنع العميق الغور يُعتبر من أهمّ وأجلّ المصادرالنقدية التي وصلتنا عن الطوفي الإمام حول جمالية شعر امرئ القيس صاحب المعلقة.
والقارئ لمقدمة هذا الناقد الفِطَحْل في كتابه يجد مدى إعجابه الكبير الكامل بامرئ القيس، ليس لأنه شاعر فحل وإمام في بابه فقط، وإنما لأن إعجابه به ورثه من إعجاب سيّد البلغاء في زمانه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذي القروح.
وأرجع شخصيا هذاإلى حبه الشديد لآل البيت وللسُّدَّة العلوية حتى إنّه ٱتُّهم بالتشيّع كما هو معلوم عند من ترجمه أو كتب عنه وعلى رأسهم محقق هذا الكتاب “الدكتور مصطفى عليّان” الذي أتقن تحقيق الكتاب وتدقيقه على منهج علميّ أكاديميّ رزين ومتين ومناقشة فكر وفنّ الإمام الطوفي حذو القُذَّة بالقذّة.
لقد ألقى الطوفي العلّامة الأضواء النّقدية الكاشفة لمكامن حسن الملك الضِّليل في تصاويره الشاعرة وإبداعاته النادرة، ولئن كان الشاعر أول من وقف واستوقف فقد كان الطوفي أيضا يستوقف القارئ كثيرا عند أبيات المعلقة المجيدة مبرزا عبقرية الشاعر في ابتكار المعاني عن طريق النظرة النقدية الفاحصة تارة، والتحليل تارة أخرى والبحث عن متشابه الأبيات فيما بينها تارة أخرى. أما منهج الموازنة فقد رغب عنه الطوفي لأنه لا يعدل بامرئ القيس أحدا من الشعراء كما قال المحقق في مقدمة تحقيقه.
فصل في وقوف الكبار بالإجلال والانبهار لبيت قيسيّ لنظم مثله عصيّ:
الإمام الأصولي الناقد الطوفي وعلامتا الأندلس أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن الشريشي وناقد الأندلس ابن سعيد المغربي نموذجا:
كأنّ قلوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا ويابسًا * لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ وَالحَشَفُ البَالِي
هذا البيت الفريد اليتيم بحثنا جهد الحريص عن أخ له بين عشرات الدواوين فلم نجد له مثيلا. فقد اعتبره العلامة ابن سعيد المغربي من الأشعار “المُرْقِصَات”، ودرجة “المرقصات” عند هذا الناقد الخبير هي أرقى وأسمى درجات الجودة الشعرية، وجعل البيت المقتطف من مطلع قصيدته الفريدة التي يقول فيها:
ألا ٱنعَمْ صباحًا أيُّها الطَّلَلُ البَالِي
أوّلَ مُرقصات الشاعر المُقدَّمة عن مرقصات معلقته الشهيرة، وقال أوَّل ما قال في حقه مدبّجا وموشِّيا: “من محاسن شعراء الجاهلية وإمامُهم وحاملُ لوائهم امرؤ القيس”.
كما أنّ الطوفي رحمه الله اعتبر هذا البيت بالذّات من فريد وبديع الشعر العربي.
أما الإمام الشريشي شارح مقامات أبي محمد القاسم بن عليّ الحريري فاعتبره إعجازا لنُظَّام القريض بعد امرئ القيس، وساق قصة إمام الشعراء المُحدثين بشار بن برد مع البيت حيث أتعب فكرهفي أن يأتي بمثله فكبا جَواده وخبا زِناده.
ومن أسرار جمالية البيت أن ٱمرأ القيس الشاعر يشبه شيئين بشيئن في تشبيه واحد بارع البلاغة قلما يصل الإبداعُ البشري لمرتبته.
ملحظ توثيقي:
– فلينظر: موائد الحيس في فوائد امرئ القيس للإمام نجم الدين الطوفي تحقيق الدكتورمصطفى عليان.
– شرح مقامات الحريري للإمام لأبي العباس الشريشي تحقيق محمد إبراهيم أبو الفضل.
– المُرْقِصَات المُطْرِبَات للعلّامة النّاقد ابن سعيد المغربي، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي والأستاذ إبراهيم أبو الفضل.
باب في موضوع: امرؤ القيس الجنّيّ، هاجسُ شِعر أم هاجسُ مَدح:
يؤرِّخ أهل الأدب لظاهرة الهواجس التي ظهرت في الجاهلية وعزوا أمرها لمخلوقات نارية اسمها الجن، فلكل شاعر نابغ في نظم القريض هاجسُه من الجنّ يقول الشعر على لسانه، وجعلوا لهؤلاء الجن موضعا يؤوبون إليه وفيه مسكنهم وقطينهم يسمى “وادي عبقر”. وقد اختلف المؤرِّخون بصدده، أيوجد في الحجاز قرب مكة المكرمة أم في اليمن؟! إلا أن هذا المكان العجيب مازال إلى عصرنا محط إلهام شعراء في الكتابة الشعرية، فأميرهم “أحمد شوقي” وظّف اسم وادي عبقر في أبيات له في “مسرحية قيس وليلى”، وكذا الشاعر الكبير “شفيق المعلوف”، الشاعر المهجري أخو الشاعر المعروف فوزي المعلوف الذي يعتبر من مؤسسي “العُصْبَة الأَنْدَلُسِيّة” بالبرازيل، أسمى ديوانه: “عَبْقَر” على اسم هذا الوادي العجيب الغريب.
هذا الوادي على شهرته فقد اخْتُلِف بشأنه جُغْرَافِيًّا، فانتقلت عدوى الاختلاف إلى حدّ الإبطال أصالةً بشأن تواجد هواجسَ جنيَّةٍ حقيقيةٍ تبسط زرابي النَّظم العبقري على مِقْوَلِ الشاعر فيتوشَّى بها قصيدُه.
في هذا الباب يقول الأعشى مرجعا سر نبوغه لهاجسه من الجن واسمه “مسحل السكران بن جندل أو مسحل بن أثاثة”:
فما كنتُ ذا شِعر ولكن حسبتَني * إذا (مِسْحَلٌ) يُسدي ليَ القولَ أَنْطِقُ
شَريكانِ فيما بيننا من هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: إنسيٌّ وجِنُّ موفَّقُ
يقولُ فلا أَعْيَا بشيءٍ يقولُه * كفانيَ لا أَعْيَا ولا هو أَخْرَقُ
وقال آخر:
إني وإنْ كنتُ صغير السنِّ
وكان في العين نُبوٌّ عنّي
فإنّ شيطاني أميرُ الجنِّ
يذهبُ بي في الشِّعر كل فنِّ
فصل في رواية الجاحظ ومقاصدها الدلاليّة والفنيّة:
يقول شاعر تغلب وفارسها:
وقد هَرَّت كِلَابُ الحيِّ مِنَّا * وشذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِينَا
الجَاحِظُ يروي البيت في كتابه “الحيوان” كالتّالي:
وقد هَرَّت كِلَابُ الجنِّ مِنَّا * وشذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِينَا
فقد أسمى هذه الهواجس الشعرية بالكلاب، وهو لا يقصد في نظرنا بالكلاب هنا الكلب المعروف بنباحه، إنما يقصد بها الأسود لأن من أسماء الأسد الكَلْب. جاء في لسان العرب:الكلب كُلُّ سَبُعٍ عَقُورٍ. وفي الحديث: “أَمَا تخافُ أَن يأْكُلَكَ كَلْبُ اللّهِ؟ فجاءَ الأَسدُ ليلاً فاقْتَلَعَ هامَتَه من بين أَصحابه”. وقد جعله أيضا صاحب القاموس من أسماء الأسد.
أما عن الفعل المضعّف الثلاثي اللازم هَرّ في البيت وإن كان خاصًّا بالفصيلة الكلبية، يقال هَرّ الكلب إذا صوَّت في صدره وكشَّر عن أنيابه. فإنّه بعد أن تأمّلنا أسرةَ هذا الفعل اشتقاقا وجدنا أنّ “الهَرْهَرَة” هي صوت جري الأسد كما في اللسان،والهُرّ بضمّ الهاء الأسد، فهو من أسمائه مما يُؤَّكِّد احتمال تأويلنا السَّابق.
وبهذا نكون قد خالفنا شرّاح الديوان لنؤكد أن معنى البيت برواية الجاحظ يمكن تفسيره بكون أن الشاعر يفخر بشاعريته الفذّة التي اهتزت لها هواجسُ الجن، ملوك القافية، مرعوبةً مُصدِرَةً صوتَ هروبِها من الشاعر وشاعريته صوتا يشبه إلى معنى قريب “الهَرْهَرَة” كما بيَّنَّا. وهذا يعني من جهة أخرى فرار من يملكون نواصي القوافي أمام فحولة الشاعر.
فصل في هواجس الجنِّ، أسماءٌ أم أمداحٌ؟
يذكر أبو زيد القرشي في “جمهرة أشعار العرب” جملة من أسماء هؤلاء الهواجس الشيطانية التي تدلّ في معانيها، بعد أن سلَّطنا عليها الأضواء البيانية الكاشفة، مِدْحَة خفيَّة عُرِفَ بها الشاعر وأُثِرَت عنه:
فشيطان النّابغة هو “الهادر بن ماهر”، والهَادِر: صفة تدور في فلك الجمال والقوة والرفعة. والهديرُ: صوت الأسد وصوت الحمام في حناجرها وصوت الفحل، ويُقال صوتٌ هدّار أي مُجَلْجِل قويّ. وكلها معان، كما يلاحظ القارئ الكريم، تُتَرْجِمُ مكانة وقوّة النابغة الشعرية وما عرف عنه من جزالةٍ في النظم كالأسد الزائر، وفحولةٍفي التصوير كالفحل المِعطاء، ورِقة في استعمال الألفاظ كصوت هدير الحمام المُبكي. فكلّها إذاً صفات تنمُّ عن مهارة راقية في تملّك أدوات النظم والمُكْنَة الفائقة في صوغ العبارات، مما حذا بالعرب أن يختاروا اسم الماهر بأبعاده الفنية أبا للهادر، وكلها معانٍ تصبّ في قوّة الشاعر وتمكّنه في النّظم.
الشيء نفسه مع هاجس شاعرنا قيد التحليل والدراسة، فهاجسه يترجم مدى قوة ألفاظه وجزالتها ودقةكلماتهوعمقها الدلالي والفني، وكذا قوة ملاحظته التصويريّة. الشيء الذي دفع العرب أن تختار لشيطانه اسما يتواءَمُ وهذه القيمَ الشعرية وأبعادها وهو “لافظ بن لاحظ”.
هذا الملحظ البياني النّقدي من العرب ظهر أيضا في تمييزهم بين الشيطان المُجيد والشيطان الرَّديء؛ فالشيطان المُجيد الذي يبلغ معه الشاعر حد النبوغ الشعري والفحولة يسمونه “الهوبر”، ولهذا الاسم أبعادٌ تداوليّة عندهم تدور في فلك الخير الكثير والجمال والقوة. فـ”الهَوْبَر والأَوْبَرُ” كماجاء في اللسان: “الإبل الكثيرة الوبر”، والهوبر الفهد وهو أيضًا السَّوْسَن. وكلها معان تصبُّ في جمالية وقوة وفحولة الشاعر “المُهَوْبَر” إن صحَّ التعبير بذلك.
وأما الثاني ممن هو دون الأول فيسمّونه “بالهَوْجَل”، وهو اسم يدور في فلكيات الخِسّة والوَضاعة. فالهَوْجَل هو الرجل الأحمق المجنون كما في اللسان، والهَوْجَل أيضا الأرض لا نبات فيها، والفعل منه هَجَّل، يقال هجّلتَ الرَّجلَ وبالرجلِ أي أسمعتَه القبيح وهجوتَه، وهجّلتِ المرأة الرجلَ أدارت عينها لتغمزه.
وكما هو ملاحظ من مادته فهو مدار كل شر وخسة، وهذا سر تسميتهم لشيطان الرداءة بهذا الاسم خاصة.
فصل في الجنُّ تعترف بفحولة امرئ القيس وتقدّمِه على سائر الشعراء:
في روايةٍ لأبي زيد في جمهرته يسوق قصةً تلخيصُها أن أحدَهم التقى بجنيٍّ في الطريق فسأله عن أشعر العرب، فقال له هاذر -وهو هاجس النابغة كما مرّ- وقد ورد اسمه بالذال المعجمة هنا، حيث يقول:
ذَهب ابن حُجْرٍ بالقريضِ وقَوْلِهِ * ولقد أجادَ فما يعاب زياد
فسأله عن هاذر من يكون؟! فأجابه إنه صاحب زياد الذبياني يعني به النابغة.
وهذا على فرض صحة الرواية من عدمها فإن مَسَاق الدَّليل يبرز بقوة مكانة امرئ القيس التي فرضت على هاجس النابغة أن يعترف بتفوُّقه على صاحبه، وهذه قمة في الموضوعية التي قد لا نجدها في بعض النَّقَدَة والكَتَبَة اليوم، ها نحن قد وجدناها عند بعض الجِنَّة من رواة الأشعار.
ملحظ توثيقي:
– ينظر: ديوان عمرو بن كُلثوم صنعة الدكتور علي أبو زيد.
– كتاب الحيوان للجاحظ بتحقيق عبد السلام هارون.
– كتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، لأبي زيد محمد بن أبي الخطّاب القُرشي.
باب في المعلّقة القيسية والمتشابه الداخلي:
أوّل من نبّه لمتشابه المعلقة، فيما نعلم،العلامة الإمام نجم الدين الطُّوفي في كتابه السالف الذكر “موائد الحيس في فوائد امرئ القيس”.
فمن متشابهها ما أنشده امرؤ القيس في مواضع له شعرية قد تغفل عن عقول بعض الباحثين أو النابهين من طلبتنا، كقوله في البيت الشهير من المعلّقة يصف فرسه:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًاكجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
شبيهه في نظمه من قصيدة له نونية على نفس البحر يقول في أحد أبياتها واصفا فرسه:
مِخَشٍّ مِجَشٍّ مُقْبل مُدْبِرٍ معًا * كَتَيْسِ ظِبَاءِ الحُلَّبِ العَدَوَانِ
إضاءة لغوية:
مِخَشٍّ: الفرس المقدّم.
مِجَشٍّ: الفرس الذي في صوته بَحَّة.
وفي باكورة قصيدة له تشبه مطلع المعلّقة يقول:
قِفا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيبٍ وعِرْفَانِ * وَرَسْمٍ عَفَتْ آياتُه مُنذُ أزْمَانِ
باب في عالمية المعلقة وشهرتها ومدى اهتمام المغاربة بها:
فصل مدخليّ في تمكّن المغاربة من ناصية علوم اللغة واهتمامهم بها:
من أبدع ما وصلنا في تهمّم المغاربة بالدرس اللغوي والتعلّق الحميمي بإشكالاته وقضاياه ما رواه صاحب “الذيل والتّكملة” بشأن زيارة العلامة الإمام “أبي علي الشلوبين” لمراكش ودخوله لمسجد باب دكالة العريق وسماعه الطلبة يدندنون حول قواعد اللغة وأصولها ما جعله مندهشا محبِّذا الدخول إلى بُهْرَة الحلقة، حتى إذا جاء “الشيخ أبو موسى الجزولي المغربي الأمازيغي تلميذ الإمام ابن برّي المصري” أنصتوا له فسمع الإمام الأندلسي ما لا قبل له به.وقال: “إذا كان مثل هذا الموضع الخامل الذي يكاد لا يؤبه له، ولا يعد من كبار مجالس العلم، لكونه في أخريات البلد، ينتصب للتدريس فيه مثل هذا البربري البعيد في بادي الرأي عن التكلم فضلا عن مثل هذا الاستبحار في النحو، فما الظن بالمجالس المحتفلة، والمساجد المشهورة التي يعتنى بها وبمدرسيها ولاة الأمر، ويعظم فيها الحفل، ويجتمع إليها أكابر طلبة العلم، هذا بلد لا أسود فيه بعلمي، فانكفأ للحين من ذلك الموضع، ولم يحل بمراكش، ولا حضر مجلسا من مجالس أساتيذها، وعاد إلى بلده إشبيلية مقضيًا العجب مما شاهده” انتهى.
نضيف إلى هذا حادثة طريفة جرت للشيخ الأديب اللغوي الشهير المراكشي أحمد الشرقاوي إقبال صاحب “معجم المعاجم” مع عالم سوس وشاعرها وأديبها المختار السوسي وزير التاج آنذاك حول كلمة “الغِرْقِيء” التي شرحها العبقري الصغير آنذاك من “كتاب الكامل” للمبرّد أمام ذهول الحاضرين، وكنتُ قد استفدت من سنَدها التوثيقيّ من مقال ماتع كتبه العالم الجليل صديقنا الشيخ الدكتور عباس ارحيلة حفظه الله، حيث أسند الحادثة للشرقاوي في مراسلة بينه وبين الشيخ المختار السوسي، تقديم وتعليق: أحمد متفكر،حوليات كلية اللغة العربية، العدد الثامن الصادر سنة: 1417هـ/1996م.
إضاءة لغوية:
-في لسان العرب: والغِرْقئُ: القشرة المُلْتزقة ببياض البيض. وفيه أيضًا: الغِرْقِيء القشرة القِيقِيّة.
كما أنّ علماء سوس العالمة فيما أخبرني به شيخي “العلامة أبو الحسن محمد السوسي” حفظه الله يُحفّظون لطلبتهم “المقامات الحريريّة” طلبًا للذَّلَاقَة وانطلاق اللسان وكان عموم المدارس العتيقة من زوايا ومعاهد تليدة تدرّس منظومة ابن عاشر التي تقول في بعض أبياتها:
أوّلُ واجِبٍ على مَنْ كُلِّفـا * مُمَكَّنا منْ نَظَـرٍ أنْ يَعْـرِفَـا
اللّهَ والرُّسُـلَ بالصِّفـاتِ * ممِـَّا عَليه نَصَبَ الآيـاتِ
فلربما حوّروا البيت الأوّل لمكانة معلقة امرئ القيس في درسهم فأنشدوه لطلبتهم على الشكل التالي:
أوّلُ واجِبِ ِ على مَنْ كُلِّفـا * أن يَعْرِفَ الله ويَعْرِفَ “قِفا”
ولننظر برفق وبصيرةٍ معنى البيت في مجمله من مصطلحات أصولية شرعية كالواجب والتّكليف مع معرفة الله تعالى، وهي أعظم المعارف المقرونة بمعرفة المعلقة، فإننا ولا غروى سنقف على نفاسة المعلَّقة وعزازتها في الدرس اللغوي في المغرب.
سؤال إشكالي:
كيف دخل شعر امرئ القيس للأندلس ثم بعده إلى المغرب؟!
تحكي الرواية التاريخية أن العلامة أبا علي القالي صاحب الأمالي هو أول من أدخل شعر امرئ القيس للأندلس في منتصف القرن الرابع الهجري في عهد الخليفة عبد الرحمن النّاصر الأموي الأندلسي، فنشره بين تلامذته الذين بثوه بين أهل العلم، فانكبّ عليه الطلبة حفظا وشرحا حتى اشتهر في الأندلس كله.
وكان من عظيم نَتاج هذا العمل الجليل أن وقع شعر امرئ القيس في يد أحد كبار علماء الأندلس وأدبائها الأعلمُ الشَّنْتَمَرِيّ (ت 476هـ) فانبرى في تأليف مؤلفه الجليل: “أشعار الشعراء السّتة الجاهليين” وقد طُبح بتحقيق الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي.
إضاءة أدبية:
يقصد الأعلم الشنتمري بالشعراء الستة في كتابه ستّةً من فحول الشعر الجاهلي، خمسةٌ منهم من أصحاب المعلقات وهم: امرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سُلمى وعنترة بن شداد والنابغة الذّبياني. وسادسهمعلقمة بن عَبَدَة الفحل.
ملحظ توثيقي:
-ينظر: “الذّيل والتّكملة لكتابي: الموصول والصِّلة”لأبي عبد الله محمد بن محمد الأنصاري الأوسي المراكشي (ت 703هـ).تحقيق الدّكاترة الأفاضل إحسان عباس ومحمد بنشريفة وبشار عوّاد.
– “تأثير امرئ القيس في الخطاب الأدبي والنقدي الأندلسي” رسالة دكتوراه تقدّم بها الباحث عمر فارس الكفاوين تحت إشراف الدكتور سمير الدّروبي عن جامعة مؤتة الأردنّ.
– أشعار الشعراء الستة الجاهليين للأعلم الشَّنْتَمَرِي (ت 476هـ)، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي.
بابٌ في إبداعات المعلّقة وتفرِّدها الفنيّ في السّرد القصصيّ الشعري والأنْسَنَة:
علاقتنا بمعلقة امرئ القيس ترجعُ إلى العشرين سنة مضت تقريبا حيث حفظناها حفظا متقنا،وكنا نتلذّذ بعرضها غيبا، ونفتح كتاب الدكتور بدوي طبّانة لقراءتها منه. ولكنّي كنت ألاحظ،خاصة بعد اكتمال الأدوات النقدية واختمار الوسائل الفنية في دواخلي،سرَّ اللّذة الشعرية التي كانت تنتابني وتَتَملَّكُني منذ عهود لم تكن مجانية إنما كان مردُّها”براعة توظيف فنّ الحكي القصصي الشعري” أو بمعنى آخر “فنّ القصة المسرودة شعرا”؛ فامرؤ القيس كان يسرد علينا ببراعة نادرة قصته مع الجواري اللاّئي قصدن دارة جلجل للاستحمام، وكان بينهم عُنَيْزَة حبيبته،وكيف عقر لهن بعيره، وكيف ارتمت العذارى على اللحم، وما صاحب ذلك من أحداث دراميّة كانت سببا في نظم المعلّقة.
كل هذا كان بمنزلة لقطة مشهدية قصصية، يمكن بفعل المونتاج الفني إذا ألصقناها بقصة ذهابه إلى حبيبته إلى خدرها وكيف أخرجها من بين قومها إلى الصحراء الفسيحة الواسعة، حيث سيصف شعرها بوصف يقصر الوصف ذاته عن الرقيّ إلى تلك الدقة الجمالية التي بلغها الشاعر،أن نجد قصة كاملة المعنى قائمة المبنى. وعليه يمكن أن نؤكد أن امرأ القيس هو المؤسس الحقيقيّ لما أسميه اجتهادًا مني “فنّ القِصّة الشِّعري”، وهذا ما يجده الدارس عند الحُطَيْئة في “قصيدته القصصية السردية “التي مطلعها:
وطَاوِي ثَلاَثٍ عَاصِبِ البَطْنِ مُرْمِلٍ * بِتَيْهَاءَ لم يعرف بها ساكنٌ رَسْمَا
إن الدارس للقصيدتين: المعلقة والقصيدة الحُطيئيّة بإمعانٍ لَيجدُ بجلاءٍ فنَّ القصة بارزًا واضح المعالم، حيث الشخوص تتحرّك وتتحاور وتتفاعلفي قالب دراميّ متحرك تَحرُّكَ لقطاتِ الفيلم الوثائقي الذي يؤَرِّخ لمرحلة عُمْريّةٍ معيّنةٍ عاشها الشاعران كلاهما.
أما “الأَنْسَنَة” فيشرحها معجم المصطلحات الفنية للدكتور العلامة إميل يعقوب مع مجموعة من الباحثين بأنها إضفاء صفات الإنسان على الطبيعة. وهذا ما نجده بجلاء في المعلّقة، فالشاعر يحاور الليل بوجدانيّة فيّاضة مستعملًا أدوات التصوير البيانية، مشبهًا إياه بإنسان يسمع ويتحدث ويتأثّر، علّه يحسّ بلواعج ذاته وبآهات نفسه الصَّبَّة الحارقة:
ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْـجَـلِي * بِصُبْـحٍ، وَمَا الإصْـبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ
فيَا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَـأنَّ نُـجُومَهُ * بكل مُغار الـفتـل شُدّت بـيـَذبلِ
ولنَنْظُر جيّدًا كيفَ أنّ الشاعر لقدسية هذا الحوار بينه وبين الليل استعمل أرقى بلاغات البديع في الخطاب ليدل على جِدِّيَّة هذا الحوار “الإِنْسَلَيْلِيّ” المعتمد على تنوع الضمير المسمى بـ”الالتفات”، حيث خاطبه في البيت الأول بالضمير المُخَاطَب “وما الإصباح منكَ”، وفي البيت الثاني استعمل ضمير الغيبة “فَيَا لك لَيلًا كأنّ نجومَه” ليعطي دلالة واضحةً على أن الليل رفض طلبه والتفت بوجهه عنه معرضا، لأنه في الأخير يعلم أن هذا الليل البهيم لا يمكنه أن يسمع آهاته أو أن يتكلم معه محاولا تخفيفها عنه، ولكنها شدة الأشواق وتباريح آلام العشق تجعل الثابت مُتَحَوِّلًا والمُتَحَوِّل ثابتًا.
ملحظ توثيقي:
– لينظر: معلّقات العرب دراسة نقدية تاريخية في عيون الشعر الجاهليّ للدكتور بدوي طبّانة.
– قاموس المصطلحات اللغوية والأدبية “عربي – إنجليزي – فرنسي” للدكتور إميل يعقوب وبسام بركة والأستاذ شيخاني.
بابٌ في بلاغات المعلقة بين توارد وحشيّها وبلاغة تنافر غريبها:
يقول امرؤ القيس في معلقته:
فلمّا أجزْنا ساحة الحيِّ وانتحى * بنا بطنُ خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
وَفَرْعٍ يَزينُ المَتنَ أَسوَدَ فاحِمٍ * أَثيثٍ كَقِنوِ النَخلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا * تَضِلُّ العِقاصُ في مُثَنّىً وَمُرسَلِ
وكشحٍ لطيفٍ كالجَدِيلِ مُخَصَّرٍ * وساقٍ كأنبوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ
وَيَعْطو برخَصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّهُ * أَسَاريعُ ظبيٍ أو مساويكُ إسْحِلِ
يقول الشاعر الكبير والناقد الأديب صفي الدين الحِلِّي العراقي منتقدًا هذه اللغة ذاكرًا بعضًا مما ورَد فيها بقوله:
إنّما الحَيزَبونُ والدّردَبيسُ * والطَّخَا والنُّقاخُ والعَطْلَبِيسُ
والسَّبَنْتي والحَقصُ والهِيقُ والْـ * ـهِجْرِسُ والطرقسانُ والعسطوسُ
لغةٌ تنفرُ المسامعُ منها * حينَ تُروى وتَشمَئزّ النّفوسُ
وقبيحٌ أن يذكرَ النافرُ الوحـ * ـشيُّ منها ويتركَ المأنوسُ
أينَ قَولي هذا كثيبٌ قَديمٌ * ومَقالي عَقَنقَلٌ قَدمُوسُ
لم نجدْ شادياً يغني قفا نبـ * ـكِ على العُودِ إذ تُدارُ الكؤوسُ
لا ولا مَن شَدا أقيمُوا بَني أُمْـ* ـمَتي إذا ما أُديرَتِ الخَندَريسُ
أتُراني إن قُلتُ للحِبّ يا عِلْـ * ـقٌ درَى أنهُ العزيزُ النفيسُ
أو إذا قلتُ للقِيامِ جُلوسٌ * علمَ الناسُ ما يكونُ الجلوسُ
خَلّ للأصمَعيّ جَوبَ الفَيافي * في نَشافٍ تَخِفّ فيهِ الرّؤوسُ
وسؤالُ الأعرابِ عن ضيعةِ اللَّفـ * ـظِ إذا أُشكِلَتْ علَيهِ الأُسُوسُ
دَرَسَتْ تِلكُمُ اللّغاتُ وأمسَى * مَذهَبُ النّاسِ ما يَقولُ الرّئيسُ
إنّما هذِهِ القُلوبُ حَديدٌ * ولَذيذُ الألفاظِ مِغناطيسُ
نعم إنَّ سحر الألفاظ ووقعها لا يخفى رنينه في القلب الهافي إليها، ولذلك جاءت مرحلة هَلْهَلَة الشعر وترقيقه في زمان كان مثل هذه الكلمات جارية في خطاب اللغة التداولي اليومي، لذلك نجد ناقدنا الحِلِّي العراقي يشنّ هجومًا على استخدام الوحشيّ من الكلام ومثّل له بالمعلقة لما تحويه من ضَرْبِه الكثير.
فصل في بيان مكانة المحظرة البلاغية في مؤسسة ابن تاشفين للأبحاث والإبداع:
كنا قد أبنّا عن فلسفة استعمال الغريب والوحشي من الألفاظ في الشعر العربي في محظرتنا المُتَخَصِّصَة في التأسيس والتجديد لخطاب بلاغي متفرّد في العالم العربي، جعلنا له شرح نظم الأخضري للجوهر المكنون عنوانًا له، لقِي ولله الحمد والمِنّة شهرة وقبولًا وطنيًا ودوليًا بارزًا لدى أساتذة البلاغة العربية ودكاترة الأدب العربي وطلبته. فليرجع إليه في صفحة مؤسستنا الرائدة الإلكترونية ابن تاشفين للدراسات والأبحاث والإبداع.
لكن الذي راعني كثيرًا هو تمثيل كتب النقد والأدب لتنافر الحروف بكلمة “مُسْتَشْزِرَات” الواقعة في الأبيات السابقة، وتنافرها أمر لا يسَعنا إنكاره بالقطع، لكن ماذا أراد أن يقول امرؤ القيس خلف هذا التنافر الذي ذمّه الكل؟ وما المعنى الغميس وراء تنافر حروف كلمة “مُسْتَشْزِرَات”؟!
لقد اجتهدتُ فوجدتُ أن وراء تنافر حروف الكلمة الثقيلة على الآذان “مستشزرات”أي عاليات، وهي الدلالة المعجمية الواقعة صفة لعقائص حبيبته أي ضفائرها، معنى جميلا وخفيًّا؛ ذلك أن الشاعر وقد انفرد بحبيبته “عُنيْزة أو فاطِمة” في الصحراء بعد أن أخرجها من خدرها، رأى أن الرِّيح يرقص بشعرها المنسدل على كتفيها، فشاهده في صورة متنافرة. فتارة عاليًا وتارة هابطًا، في تموّجات راقصة تتناغم وحركةَ الرِّياح الصحراوية القوية ليلًا. وهذه الصورة انطبعت في عقل الشاعر على صورتين:
- صورة معجمية لعلوّ عقائص حبيبته، دَلّت عليها دلالة الكلمة “مستشزرات”.
- صورة صوتية دالة على تنافر شعر الحبيبة الذي يراه كذلك أمامه بفعل رقص الرياح به، وقد تمّت من خلال صورة تنافر حروف الكلمة.
ختامًا:
هذه هدية من عاشق محبّ للغة العربية وأهلِها، لفَفْنَاها بثَوب الكرامة والحُبّ، ووضعنا فيها أغلى ما نملك وأحسن ما نقدر عليه منهجًا وأسلوبًا وتوثيقًا وطريقةَ عرض.
وهذا جُهْد المُقِل، لعلّه يفي بالغرض ويكون فيما قدمناه غُنية وكِفاية لكل طلبتنا والدارسين الباحثين في المجال الأدبي واللغوي حتى يهتدوا إلى التّأصيل العلمي بأيسر الطرق مهيعًا وأوضحها مسلكًا، لأنّ “من سَلَك الجَدَد أمِن العِثَار”.
================
مقالات ذات صلة:
تعليق واحد