نقض التعبير بكونه عن التعليل
نقضُ التَّعبير بـ “كونه” عن التَّعليل
صفاء صابر البياتي
أولًّا: تركيبه
ثمةَ تعبيرٌ لغويٌّ ينصبُّ علىٰ استعمال “كون” الذي هو مصدرٌ للفعل النَّاقص (كان) استعمالًا غريبًا في سياق جديد يَلفِتُ النَّظرَ؛ إذ لا عهدَ للعربيَّة الفصيحة به، ذلكم هو استعمال المصدر هذا مضافًا منصوبًا، كقولهم: أُحيلَ السيد فلان إلىٰ التقاعد كونه من مواليد 1959، ونحو: عُوقِبَ الموظفُ كونه متاخرًا عن الدوام. وغيرها من التراكيب التي يقعُ فيها المصدر (كون) موقِعَ الدالَّة علىٰ التَّعليل والسَّببيَّة.
إذ من المعلوم أنَّ “كان”: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، يدخل علىٰ المبتدأ والخبر، فيرفع الأول ويُسمىٰ اسمها، وينصب الثاني ويُسمىٰ خبرها. ويسري هذا الحكم علىٰ ما تصرَّف من “كان” فعلًا كان أو صفةً أو مصدرًا، فيرفع الاسم وينصب الخبر مثله، نحو: (كونك مواظبًا علىٰ عملك واجبٌ عليك)، فالضمير في “كونك” مجرور بالإضافة لفظًا ومرفوعٌ محلًّا لأنَّه اسمٌ لمصدر الفعل الناقص (كان).
ثانيًا: أصلُه
يظهرُ أنَّ منشأ هذا التعبير هو الترجمة الحرفيَّة عن الإنجليزية، وأثرٌ من آثارها التي ابتُلي بها الكلام العربي، كقولهم:
He likes being alone
يحبُّ كونه وحيدًا
Happiness never decreased by being shared
السَّعادةُ لا تنقص بكونها يُشتَرَكُ فيها
Being good man makes people like you
كونك رجلًا صالحًا يجعل الناسَ يُحبُّونك
يقول الدكتور صلاح الدين زعبلاوي عن هذا التَّركيب: “ويبدو أنَّ التعبير أجنبيٌّ أقحموه في تعبيرهم بالحرف إقحامًا”([1]).
ثانيًا: نقضه
لا يصحُّ هذا التعبيرُ لما يأتي:
1- ليس ثمَّة نصٌّ أو شاهدٌ فصيحٌ يؤيِّد هذه العبارة المستحدَثة التي شاعت شُيوعًا كبيرًا في الكتابات المعاصرة في شتَّىٰ المجالات، “وفَشا في لُغة مُثقَّفينا وأُدبائنا عامَّةً”([2]).
2- لا موضع لهذا المصدر هنا ولا معنىٰ له، والتركيب علىٰ هذا النحو مضطربٌ، لا رابطَ يجمع بين أجزائه؛ لأنَّ سياقَه سياقُ تعليل؛ فيقتضي استعمال أداةٍ من أدوات التَّعليل، وليس من معاني “كان” التَّعليل.
3- موضِعه هذا بهذه الصُّورة يستدعي إعرابَه مفعولًا لأجله، غيرَ أنَّه لا يمكن أن يُعربَ هذا الإعراب؛ لأنَّ شُروط المفعول لأجله خمسة:
- أن يكون مصدرًا.
- أن يُفْهِم عِلَّة (أي: يُفيد التَّعليل) فهو صالح لجواب السؤال: لماذا؟
- أن يكون قلبيًّا (أي: مِنْ أفعال النَّفس الباطنة، كالرَّغْبَةِ، والْحُبِّ، والْخَوف) وليس من أفعال الحواس الظاهرة، كالضَّرْب، والقِراءة، والمشْي، والأكْل، والقَتل.
- أن يكون مُتَّحِدًا مع عامله في الزَّمن.
- أن يكون مُتَّحِدًا مع عامله في الفاعل.
وتتحقق هذه الشروط في قولنا: كتبتُ هذا المقال رغبةً في الحفاظ علىٰ سلامة اللُّغة العربيَّة. فـ”رغبةً” مفعول لأجله منصوب؛ لأنه مصدرٌ قَلْبي من أفعال النّفس الباطنة، ويُفيد التعليل؛ لأنَّه بَيَّنَ سبب وقوع الفعل “كتب” وهو مُتَّحد مع الفعل في الزمن، فَزَمنُ الرَّغبة هو زمن الكتابة، ومُتحد مع الفعل في الفاعل؛ لأن فاعل الرَّغبة هو نفسه فاعل الكتابة.
أمَّا إذا تخلَّف شرطٌ من هذه الشُّروط فيجب عندئذٍ الجرُّ بحرفٍ من حروف التعليل، نحو أمثلتهم التي ذكرناها آنفًا، فلا تنطبقُ عليها هذه الشروط؛ لأنَّ فاعلَ الكينونةِ غيرُ فاعلِ الإحالة، وزمنَ كينونته من مواليد 1956 غيرُ زمنِ إحالته، ومِثلُه الـمُعاقِب غيرُ المتأخِّر، وزمنُه غير زمنه؛ لذا يجبُ جرُّه بلام التعليل، ناهيك بمسألة الدَّلالة علىٰ الحدَث في “كان” وأخواتها الذي منعها فريقٌ من النُّحاة، منهم المبرِّد وابن السَّرَّاج والفارسيُّ وابن جنِّي وابن برهان والجرجانيّ والشَّلوبين، وهو ظاهر مذهب سيبويه.
رابعًا: بدائله
العربيَّةُ ملأىٰ بالبدائل الفصيحة في هذه السياقات، وفيها مندوحةٌ عن هذا الاستعمال الـمُهَلهَل الذي لا إحكام فيه، ولا رونقَ له([3]). منها:
- استعمال الأدوات الدَّالة علىٰ التَّعليل في الفصيح من كلام العرب، نحو: لأنَّه…، وبسبب….
- الاكتفاء بلام التعليل مع مصدر الفعل المراد، نحو: أُحيلَ السَّيِّد فلان إلىٰ التقاعد؛ لبلوغه السنَّ القانونيَّة للتقاعد، ونحو: عُوقِبَ الموظفُ؛ لتأخُّره عن الدوام.
إضافة لام التعليل أو باء السببيَّة علىٰ المصدر”كون”، نحو: لكونه…، وبكونه… بحسب ما يقتضيه سياق الجملة، وما شابه ذلك من أساليب التَّعليل والسَّببيَّة التي تَحفِلُ بها اللُّغة العربيَّة.
______________________________
([1]) معجم أخطاء الكتاب: (533).
([2]) التَّعبير الصحيح: د.نعمة رحيم العزَّاوي: (65).
([3]) ينظر: التَّعبير الصحيح: د.نعمة رحيم العزَّاوي: (65).
تعليق واحد