سيميائية الإيقاع الشعري
سِيميائيةُ الإيقاعِ الشِّعريِّ
محمد حمدي الشعار
يُشكّلُ عِلمُ السيمياءِ علامةً فارقةً في تقديرِ النظمِ الشعريِّ خاصّةً؛ ما بعثَ الكثيرين علىٰ الاعتناءِ بهِ، وضمّهِ إلىٰ مُجملِ أدواتِهم النقديةِ، وهَـذا بحثٌ دقيقُ المسلكِ لم يقفْ علىٰ إبرازِ محتواهُ للنورِ أحدٌ سبقَني، فقد عمدتُ فيهِ إلىٰ تفسيرِ العلاماتِ الإيقاعيةِ للنصوصِ الشعريةِ للوعي بما ينمازُ بهِ كلُّ نصٍّ عن نظائرِه إيقاعيًا؛ فينعكسُ ذلك بأثرِه علىٰ تقييمِه الأدبيِّ، وتفسيرِ بعضِ تراكيبِه وتصويراتِه تعيينًا وجدانيًّا يخترمُ دلالةَ السياقِ الاعتياديةِ من خلالِ الانزياحاتِ الأُسلوبيةِ والبلاغيةِ واللُّغويةِ الدّاخليةِ التي أسهمتْ في تشكيلِ الموسيقىٰ الداخليةِ التي ارتكزت بدورِها علىٰ بعضِ العلاماتِ الغامضةِ المُعبّرةِ عمّا يعتلجُ في وجدانِ النّاظمِ، والمُفضيةِ إلىٰ الحُكمِ بِفرادةِ النصِّ بانجلاءِ ذاتيّةِ ناظِمِه فيهِ وانطباعِ شخصِه في تلافيفِه، أو بتأثُّرِه بما عارضَه أو ناقضَه من نَظمِ غيرِه.
قد تُنتجِ الحركةُ الإيقاعيةُ الدّاخليةُ للنصِّ الشعريِّ صُوَيتًا مُعيَّنًا يُعيدُ تمثُّلاتِ اسقبالِ النصِّ عندَ مُتلقِّيه، يُعينُ ذلك الصويتُ علىٰ تداوليةِ النصِّ من مُطلقاتٍ سوىٰ التي كانَ عيَّنَها المُتلقِّي لاستقبالِه بِها قبلًا، بيدَ ما تجبُ الإحاطةُ بهِ هو أنَّ الصُّويتَ الذي نَؤُمُّه هُـنا هو الذي كانَ منشؤه المُوسيقَىٰ الدّاخليةَ حالَ الْتحامِها وانسجامِها الموسيقىٰ الخارجيةِ، وغرضِ النظمِ، والمعاني المُعبَّرِ عن ذلك الغرضِ بها؛ وبذلك تكونُ سيميائيةُ الإيقاعُ الشّعريِّ -عِندنا- في الشّعرِ العربيِّ العموديِّ؛ إذ تلتقي الإيقاعيةُ الداخليةُ والخارجيةُ بما يتلاءَمُ معَ مُناسبةِ قِيلِ النصِّ والمُفرداتِ المُمَثِّلةِ لمعانيه إلّا في القالبِ الشعريِّ العربيِّ العموديِّ.
ومن تجلّياتِ العلامةِ المرمَّزةِ في علاقةِ الإيقاعِ الدّاخليِّ للنصِّ بما قد يُوحي بهِ أنْ تُدرك فكرةِ النظمِ من الوَهلةِ الأُولىٰ لتلقِّي النّصِّ، وتَتعرَّفَ علىٰ التّشكيلاتِ الرئيسةِ التي قامتْ عليها بنيتُه الدّاخليةُ؛ فيجتمعَ لديك بذلك عُنصرانِ ضروريَّانِ من عناصرِ قياسِ جماليةِ النصِّ ومائزيتِهِ عمّا سِواه.
إلّا أنّ ما قد يحولُ بينَنا وبينَ تفسيرِ العلامةِ الإيقاعيةِ لأيٍّ منَ النّصوصِ الشّعريةِ أنْ نقفَ عندَ نَسخةِ ذلك النصِّ من غيرِ محاولةٍ جادّةٍ لربطِ تلك العلاماتِ التي تَناثَرت في تضاعيفِه بِأُخرىٰ في نصٍّ غيرِه تُحدِثُ تلك العلاقةُ تزاوجًا نصّيًّا بينهما؛ فيَمتزجانِ امتزاجًا جُزئيًّا وزنًا وتقفيةً وموضوعًا، وتتبلورُ تلك العلاقةُ في طَورِ تلقِّيها الأوَّلِ في هيئةِ مُعارضةٍ شِعريةٍ، أو نقيضةٍ منَ النّقائضِ، ثمّ سُرعانَ ما تتحلَّلُ أثناءَ دراسةِ ظواهرِها السيميائيةِ إلىٰ مجموعةٍ منَ العناصرِ، لكلٍّ منْها دلالتُه الرمزيةُ علىٰ ما اختصَّ بهِ كلُّ شاعرٍ ممّن كُنَّا بصدَدِ تعليقِ نصِّ كلٍّ منهم بِصاحبِه إيقاعيًّا، فينجلي لنا تفسيرُ أكثرِ علاماتِ النّصَّينِ أو النصوصِ المُتعارضةِ معًا، وتظهرُ الرموزُ المُعمَّاةُ لتصيرَ أكثرَ لَمَاحيةً في النّصِّ.
ومن تُظهراتِ الصُّورةِ الجماليةِ في النّصِّ الشّعريِّ محضرُ الرؤيةِ المُتعالقةِ نصيًّا معَ نصٍّ سابقٍ في هيئتِها الإيقاعيةِ؛ ما يعكسُ العلامةَ المُشتركةَ ظاهريًا بينَ النصِّ المُتلقّىٰ والنّصِّ الذي انبسقتْ عنهُ الرؤيةُ الدلاليةُ الأُولىٰ من غيرِ ما اختمارٍ بينَ غرَضَي النّصّيْنِ، وتلك السمةُ مخصوصةٌ بمفهومِ تعالُقِ العلاماتِ المَخبوءةِ تحتَ المعاني الظاهرةِ، والمُنطويةِ تحتَ التّراكيبِ اللغويةِ الاعتياديةِ بإرجاعِ استشرافِ دلالةِ العلامةِ وجماليتِها إلىٰ التصويرِ المُوسيقيِّ الدّاخليِّ للنصِّ الشّعريِّ المُتداخلِ معَ العلامةِ اللغويةِ.
وقد تجلّت تلك السمةُ أيّما تجلٍّ في قولِ أميرِ الشّعراءِ أحمد شوقي:
يا نائحَ الطّلحِ أشباهٌ عوادينَا * نَشجىٰ لواديكَ أمْ نَأسىٰ لِوادينا
مِن مُعارضتِه لقصيدةِ ابنِ زيدونَ التي مطلعُها:
أَضحىٰ التنائي بديلًا من تدانينا * ونابَ عن طِيبِ لُقيانا تَجافينَا
والمُلاحظُ في منظومةِ شوقي أنّها لم تتعالقَ علاماتيًّا معَ منظومةِ ابنِ زيدونَ إلّا من حيثُ تعانقت المنظومتانِ إيقاعًا خارجيًّا، وتقفيةً؛ بينما انمحىٰ كلُّ أثرٍ لذلك التعالُقِ بينَ النّصّيْنِ في الغرضِ، والتّصويرِ، غيرَ أنّ تساوُق الألفاظِ إلىٰ معانيها قادَ المُتلقِّينَ إلىٰ الخَلطِ بينَ كليهما؛ فأعجزَ بعضَهم عن استشرافِ نقاطِ التّحوّلِ في البنيةِ الدلاليةِ لكلٍّ من النّصّينِ خصوصًا وأنَّ النّصّيْنِ يلتقيانِ التقاءً جُزئيًا في بعضِ غرضِ النّظمِ؛ بما يحملانِه معًا منَ الشّعورِ بالحنينِ، معَ افتراقِهما فيما يحنُّ إليهِ كلٌّ منهما، فقد انطوتْ عتبةُ (شوقي) الأُولىٰ لنصّه: “يا نائحَ الطّلحِ…” علىٰ ما يبعثُ علىٰ الشعورِ بحنينِه إلىٰ شيءٍ ما، إلىٰ أن يبلغَ قولَه: “نشجىٰ لواديك أم نأسىٰ لوادينا” فتبدأ تتفتّحُ آفاقُ الرؤيةِ النّقديةِ للمُتلقّي نحوَ تأويلٍ معلومٍ لحقيقةِ ذلك الحنينِ بأنّهُ إلىٰ الأرضِ الَّتي ذُكِرَت ضِمنًا في كلمةِ (وادي) مُضافةً إلىٰ لاحقتِها (نَـا) إيذانًا بالخصوبةِ، والنّماءِ، وقرارةِ النّفسِ بالتواجدِ فيهِ، وحرارةِ الشّوقِ لتركِه من مُنطلقاتِ الشعورِ باحتوائِه إيّاهُ، وإشعارًا بمدىٰ ما يُعانيهِ الشاعرُ منَ الالتياعِ لمُفارقتِه؛ وتلك سمةٌ غلبتْ علىٰ شِعرِ الكثيرينَ من أبناءِ تلك الحقبةِ علىٰ جهةِ التناصِّ، وقد وافقَه علىٰ ذلك المعنىٰ (أحمد مخيمر) في قولِه:
في ظلِّ النخلِ علىٰ الوادي * أصغيتُ لقصّةِ أجدادي
بينما انبتَّ حبلُ التفكيرِ في المعنىٰ المُحصِّلِ لدلالةِ اللفظِ السيميائيةِ في نصِّ ابنِ زيدونَ من مبتدئِه؛ لحيثُ كانَ خِطابُه الشعريُّ لا يحتملُ التأوُّلَ علىٰ معنًىٰ سوىٰ الّذي ساقَ نصّهُ له؛ فالحنينُ فيهِ وإنْ كانَ ضمنيًّا، ولكنَّه معلومُ الوجهةِ بلا حاجةٍ إلىٰ إطالةِ نظرٍ، فكأنّه يأخذُ بيدِ المُتلقّي لِيَرِدَ ماءَه بنفسِه، كونَ الخطابِ منَ الوضوحِ بمنزلةِ الشمسِ في رابعةِ النّهارِ؛ فليسَ لقولِه: “أضحىٰ التنائي…” و”ونابَ عن طِيبِ لُقيانا…” معنًىٰ يتوجّهُ إليهِ سوىٰ ذلك الذي قد يفهمُه الناقدُ كفهمِ العاميِّ لهُ.
إلّا أنّ أثرَ انعتاقِ كِلا النّصيْنِ في جُملتِهما مِن ربقةِ الآخَرِ يحتاجُ إلىٰ تدقيقٍ وتحليلٍ لِنَصلَ بهما إلىٰ ملابساتِ النظمِ، ومحايثاتِ الدلالةِ علىٰ الحنينِ، ومدىٰ ما حقّقه كلٌّ منهما من غاياتٍ تُرشدُ المتلقِّي إلىٰ ما أنْ كانَا بلغا الغايةَ في تعيينِ ما استهدفُه بناءُ نصِّ كلٍّ منهما، أو أنّ أحدَهما انحبسَ في ذاتيةِ التعبيرِ، فانكفأ نصُّه علىٰ نفسِه؟
وبشيءٍ من التحقيقِ تلوحُ السماتُ التي انمازَ بها كلٌّ منَ النّصيْنِ فنيًّا وتركيبيًّا؛ فإنّهما توافقا في وضوحِ الدلالةِ وانميازِ الغرضِ العامِّ، بينما استعصىٰ التصويرُ عندَ ابنِ زيـدون -مع ما فيهِ من الوضوحِ اللفظيِّ- عن إبرازِ العلاماتِ الخافيةِ التي ساقَ النصَّ من أجلِ بيانِها؛ فلم يكن لِيَعرفَ ناقدٌ مَنِ المَنشودُ بعباراتِه -علىٰ سهولتِها وعذوبتِها وجزالتِها- ما لم يكن عارفًا بسيرتِه معَ بنتِ المُستكفي ولّادةَ، وفي ظنّي أنّ ابنَ زيدونَ ترك التصريحَ عامدًا مخافةَ مُؤاخذتِه حالَ التصريحِ، ولأنّ في الإيحائيةِ والانحرافِ بدلالةِ النصِّ الشعريِّ عن المُتعارفِ المعلومِ ما ينمازُ بهُ النظمُ عن النثرِ، إلىٰ جانبِ المُوسيقىٰ الدّاخليةِ الّتي حملتْ علامةً مُتميّزةً تكادُ تغيبُ لدىٰ التحليلِ علىٰ مَن تخفىٰ عليهِ خصائصُ دلالةِ العلامةِ الموسيقيةِ في إبرازِ مقاصدِ النظمِ.
اقرأ أيضًا:
تعليق واحد