المؤلفات النحوية تصنيفا وتنويعا
المؤلفات النحوية تصنيفًا وتنويعًا
أ.د. محمد ذنون يونس
أقدم ما وصل إلينا من المدونات النحوية (كتاب سيبويه) الذي وضع فيه صاحبه أغلب القواعد النحوية، التي استنبطها هو وشيوخه من كلام العرب الفصحاء الذين التقوا بهم وأخذوا منهم اللغة المنطوقة، ثم توالت المؤلفات بعده ظهورًا لتنسج علىٰ منواله، وتبني علىٰ مسائله، وتوضح مقاصده، وتعلل مباحثه، مع استدراكات وزيادات أوجدتها عمليات التأليف العلمية المتلاحقة والأنظار السديدة المتوالية، وإعادة تنظيم وتبويب، وعناية بالتقنين الاصطلاحي، مما يشكل مكتبة لغوية ضخمة في هذا الحقل المهم قلما وجد في أمة من الأمم.
لكن هذه المؤلفات علىٰ كثرتها وتنوعها يمكن أن تنقسم إلىٰ ثلاثة أشكال رئيسة، هي:
المؤلفات العلمية:
ويقصد بها تلك المؤلفات التي تعرض فيها المسائل النحوية علىٰ أنها جملة من العلاقات المترابطة في التراكيب والنصوص الفصيحة؛ وغاية مؤلفها الوقوف علىٰ العلاقات بين تلك التراكيب، وإيجاد ما بينها من ترابطات، وآثار التغيير الذي يحدث في التركيب علىٰ صحة الجملة قواعديًا، ومن ثم تكون الأبواب النحوية متداخلة، ويسود جو من عدم الانتظام الظاهري في معرفة تناول الموضوع الواحد، وإن كان يسري الانتظام داخليًا من خلال فكرة الارتباط الداخلي بين تلك التراكيب وهي تتشابه أو تختلف نتيجة التغييرات والتبديلات التي تعرض علىٰ تلك التراكيب، وهذا النمط من التأليف يظهر لدىٰ المنظرين والواضعين الأوائل، الذين خبروا العلاقات النحوية الناشئة من ملاحظة الكلام العربي وتنوعاته التركيبية المختلفة، فأرادوا ترجمة تلك العلاقات واستكناه تلك الروابط وتحديد القواعد التي تحكمها وتنظمها، وخير من يمثل هذا الشكل من المؤلفات النحوية المتخصصة (الكتاب) لسيبويه (ت 180هـ) و(المقتضب) للمبرد (ت 286هـ)، والمؤلفات النحوية غير المتخصصة مثل (كتب إعراب القرآن ومعانيه) وهي جد كثيرة، التي تعرض للعلاقات النحوية المختلفة وتحاول أن توجد العلاقات النحوية بين تلك التراكيب وآثارها الدلالية.
المؤلفات التعليمية:
والمقصود بها تلك المؤلفات التي تبتغي التعليم، وعرض الأحكام النحوية بغية الدرس والتدريس، وهي تتناول العلاقات النحوية بين التراكيب لكن من خلال عرض تعليمي لا تتداخل فيه تلك التراكيب والعلاقات التي تحكمها، ومن الطبيعي أن يكون لهذه المؤلفات منهج علمي تسير عليه في عرض المادة النحوية، وقد اتخذت صورًا متعددة؛ فابن السراج (ت 316) والزمخشري (ت 538هـ) وابن الحاجب (ت 646هـ) اتبعوا معيار (الكلمة) في عرض المادة العلمية، فبدأوا بمباحث الأسماء ثم الأفعال وانتهاءً بالحروف، ومن الطبيعي أن يؤثر هذا التقسيم النظري علىٰ شرح العلاقات بين المركبات النحوية، فتنفصل عرىٰ التراكيب ليناقش الفعل بعيدًا عن المفعول، والحرف بعيدًا عن المجرور… إلخ، مما يؤثر علىٰ إيجاد الخصائص التركيبية والعلاقات الناشئة عن تلك الارتباطات، لكن هذا ما يقتضيه المنهج التعليمي من عرض المادة العلمية بشكل منظم يناسب عمليات التعلم والتلقي والبناء النحوي لدىٰ الناشئة، ومنهم من سار علىٰ مبدأ (الوظيفة والعامل) فعرض المادة النحوية وفق تقسيم (المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والمجزومات) والعوامل الأصلية والعوامل التبعية، والمعمولات الأصلية والتبعية، والفصل بين المعربات والمبنيات؛ كما فعل ابن مالك (ت 672هـ) وابن هشام (ت 761هـ) وغيرهما في عرض المادة النحوية، ومن ثم تشظت العلاقات بين أبواب مترابطة كالخبر والحال، والفعل واسم الفاعل، والماضي والأمر من جهة والمضارع من جهة أخرىٰ، وأسماء النواسخ وأخبارها، ومنهم من اتبع في عرض المادة النحوية أساس الإعراب والبناء كما فعل ابن هشام في (شرح الشذور)، نخلص من هذا إلىٰ أن المنهج التعليمي وإن كان حريصًا في عرضه المادة النحوية علىٰ ميزة اليسر والمنهجية في العرض وتوزيع المادة المتشتتة في الكتب العلمية تحت باب واحد إلا أنه أدىٰ إلىٰ تشتيت آخر يقع في العلاقات والوشائج التي تربط بين الأبواب والمباحث، التي هي المقصود الأعظم من دراسة المادة النحوية والتعرف علىٰ خصائص التفكير النحوي.
المؤلفات النقدية:
ويقصد بها تلك المدونات التي تؤلف من أجل نقد الكتب النحوية بنوعيها العلمي والتعليمي، بغية الوصول إلىٰ الخطاب النحوي العلمي المتماسك، وترابط المسائل النحوية بعيدًا عن التناقضات والتداخلات، وتحديد المفاهيم الاصطلاحية بشكل عميق يوقف القارئ علىٰ حقيقة المدلول الاصطلاحي، والإجابة عن الثغرات التي يمكن إثارتها في التعليل النحوي، أو بيان مقاصد النحويين وحقيقة خطاباتهم، والأمور والأسباب التي دفعتهم إلىٰ عمليات التقدير والتأويل، إلىٰ غير ذلك من المهام التي تضطلع بها هذه المؤلفات النحوية ذات الطبيعة النقدية، وهي لا تنشئ دارسًا نحويًا أو تبتغي التعليم، بل غايتها الأساسية الكشف عن الآراء النحوية والترجيح فيما بينها مع غاية التدقيق والتحقيق فيما تناقشه وتثيره من مباحث ضرورية، وبذلك يتكامل البنا التأليفي للنحويين، علمًا وتعليمًا ونقدًا، وتقف كتب (الحواشي النحوية) في مقدمة تلك المؤلفات النقدية نظرًا لاهتمام أصحابها بنقد الكتب النحوية التي صارت مرجعًا للدارسين والمتعلمين، إذ الغاية العليا من كتابة المحشي تعليقاته بـ(القول) التوقف عند أسرار الخطاب النحوي، وكيفية صوغ العبارة النحوية، والاحترازات التي يمكن أن يفهمها من تلك الصياغات المتنوعة، مع غايات نقدية أخرىٰ يقوم بها المحشي من التوضيح والتتميم والاستدراك والتصويب والتخطئة والتعليل والتقويم والتعميم والتقييد، وكل واحدة من هذه الغايات تأخذ جهدًا كبيرًا من الناقد النحوي تستحق منها الاهتمام والدراسة بغية إنشاء ناقد نحوي حصيف يتمتع بتلك القدرات النحوية العميقة بعد أن استتب الوصف علة أساليب كتاباتنا أو الانحياز إلىٰ الدراسات اللسانية الغربية بعيدًا عن هذا التراث العلمي الضخم، ويمكن سلك كتب (الأمالي النحوية) و(التقريرات) في هذا النوع من التأليف النحوي.
اقرأ أيضًا: