اختلاف رأي النحوي في المسألة
اختلاف رأي النحوي في المسألة
عبد الخالق حسن
من المشهور أنَّ العالمَ يختلفُ مع غيرِهِ مِنْ العلماءِ، وأمَّا اختلافُهُ مع نفسه فهذا رُبَّما يبدو غريبًا في أوَّل وهلة، ولهذا كان جديرًا بالعنايةِ والتَّأملِ والمناقشةِ، إذْ لا بُدَّ أنْ تكونَ هناك أسبابٌ ودواعٍ جعلَتْهُ ينتقلُ من رأيٍ إلىٰ آخر، فينفي ما أثبتَ، ويثبتُ ما نفىٰ، وهذه الظاهرة لمْ تكنْ بدعًا في الدرسِ النحويِّ دون غيره من العلوم الأخرىٰ، فإذا ما أمعنا النظرَ في الفقهِ الإسلامي فسنكتشفُ أنَّ هذه الظاهرة ظهرَتْ عندَ الفقهاءِ الأوائلِ من الصحابةِ رضي الله عنهم، ففي مسألة عدِّ طلاقِ الثلاثِ واحدة كان عمر -رضي الله عنه- يفتي بذلك لسنتين من خلافتِهِ، ثُمَّ لما رأىٰ الناسَ استهانوا بذلك غيَّرَ رأيَهُ، فعن ابن عباس قال: “كان الطلاقُ علىٰ عهدِ رسولِ اللهِ صلىٰ اللهُ عليه وعلىٰ آله وسلم، وأبي بكرٍ، وسنتين من خلافةِ عمرَ طلاقُ الثلاثِ واحدة، فقال عمر: إنَّ الناسَ قد استعجلوا في أمرٍ كانتْ لهم فيه أَناةٌ فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم” ([1]).
وهكذا الإمامُ الشافعيُّ إمامُ الفقهِ في عصرِهِ كان له قولان: قولٌ قديمٌ وهو الذي صنَّفَهُ ببغدادَ وآخر جديد وهو الذي صنَّفَهُ بمصر([2]). ومن عجيبِ ما ذكرَهُ الإمامُ الصنعانيُّ في مسألةِ وقوعِ الطَّلاقِ البدعيِّ قوله: كُنَّا نفتي بعدمِ الوقوعِ وكتبْنا فيه رسالةً، وتوقفْنا مدَّةً ثُمَّ رأينا وقوعَهُ، ثُمَّ إنَّهُ قوي عندي ما كنتُ أفتي به أولًا من عدم الوقوع لأدلَّةٍ قويَّةٍ سقتُها في رسالة سمَّيتُها (الدليلُ الشرعيُّ في عدمِ وقوعِ الطَّلاقِ البدعيِّ) ([3]). فالعالمُ قد يعرضُ له ما يصرفُهُ عن قولِهِ الأوَّل إلىٰ قولٍ آخر مناقض له لما يرىٰ من أدلَّةٍ نقليَّةٍ أو عقليَّةٍ تستجد عنده.
وأمَّا بروز هذه الظاهرة عند علماء النحو فقد أشار إليها علماء أجلاء، منهم ابن جني في خصائصِهِ في البابِ الذي عنونَ لهُ “باب اللفظين علىٰ المعنىٰ الواحد يردان عن العالم متضادين” ([4]). ومن الذين ذكرهم ابن جني ممن اتصفوا بهذه الصفة ([5]):
1- سيبويه.
2- الأخفش: قال عنه ابنُ جني: وكان ركَّابًا لهذا الثَّبج آخذًا به غير محتشمٍ منه….
3- المبرد.
4- أبو علي الفارسي.
ونقل غيرُ ابن جني اختلافًا في الأقوال عن علماء متقدمين بصريين وكوفيين ([6])، بل قد كُتِبَتْ في ذلك رسائلُ وأطاريحُ ([7]).
وقد برزتْ هذه الظاهرةُ عند ابن مالك، فإنَّ المتتبعَ لمصنفاتِهِ يجدُ بعضَ آرائهِ قد تعددتْ واختلفَتْ وتباينتْ في عدَّةِ مسائل نحويَّة، وفي المصطلحات وتراجم الأبواب وترتيبها، وقد لفتَتْ هذه الظاهرةُ نظرَ بعض العلماء الذين شرحوا كتبَهُ فنبهوا عليها ومنهم: أبو حيَّان الاندلسيُّ ([8])، والشاطبيُّ([9]) الذي كان فارسَ بيانِ هذه الظاهرة عند ابن مالك، ومنهم السيوطيُّ([10]).
والذي ينبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ هذه الاختلافاتِ عند مَن ذُكِرَتْ أسماءُهم علىٰ وجهِ العموم، وعند ابن مالك علىٰ وجه الخصوص لا ينبغي أن ينظرَ إليها علىٰ أنَّها اضطرابٌ، أو ضعفٌ بل هي أمارةٌ علىٰ تطوُّرِ فكرِ العالم، ودليلٌ من أقوىٰ الأدلَّةِ علىٰ أنَّ هذا العالِمَ قد بلغ مرحلة الاجتهاد، فلا يمكنُ أنْ يُتصوَّرَ أنْ يقفَ العالمُ علىٰ الحقيقةِ العلميَّةِ دفعةً واحدةً، من أوَّلِ أمره ثُمَّ تبقىٰ جامدةً في فكره، فالمعروف، بل المشهور أنَّ المعرفةَ تنمو وتتطوَّرُ لاسيَّما عند العلماء المحققين، وليس يعيب العالم أنْ يعدلَ إلىٰ قولٍ ثانٍ يراه أصوبَ، وإنْ كان يخالفُ قولَهُ الأوَّل، بل الذي يعيب العالم هو أنْ يعرفَ الحقَّ ويجحدَهُ، مكابرة،ً وظلمًا وعلوًا وهي صفة من صفات اليهود-لعنهم الله- الذين وصفهم اللهُ تعالىٰ بقولِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. إذن فظاهرةُ اختلاف الرأي أو تعدده دليلٌ علىٰ نضجِ فكرِ العالم، ودليلٌ علىٰ بحثٍ متواصلٍ، وهي منقبة وأيَّةُ منقبة، يُحمَدُ عليها، وما ذاك إلا لأنَّها تدلُّ علىٰ أنَّهُ كان رجَّاعًا إلىٰ الحقِّ دوَّارًا مع الدليل حيث دار، مخلصًا النية، لا تأخذه العزة بالخطأ فيبقىٰ علىٰ خطئه بعد انكشافِ الصَّواب له، ويؤيد ما ذكرناه قولُ الدكتور عبد المنعم أحمد هريدي: “ولعلَّ ولع ابن مالك بالتماسِ الأدلَّة للمسائل النحويَّة، وحرصِهِ علىٰ ذلك إيمانًا منه بأنَّ الرأيَ الذي لا دليلَ عليه لا يُلتفَتُ إليهِ وما اتَّصفَ به من فضيلةِ الرجوعِ إلىٰ الحقِّ، كان داعيا ًله إلىٰ تعديلِ آرائه أو تغييرها ([11]).
ونخلص مما سبق إلىٰ أنَّ هذه الظاهرةَ لمْ تكنْ عند النحويين فقط؛ بل سُجِّلتْ عند الفقهاء من الصحابة كعمر رضي الله عنه والتابعين كالشافعيِّ، وسُجِّلَتْ عند النحاة من المتقدمين والمتأخرين فلا يَضرُّ ابن مالك اختلاف بعض آرائهِ بين سبك المنظوم وتسهيل الفوائد، أو بقيَّةِ كتبِهِ، وهذا الاختلافُ الذي حصل عند ابن مالك يتوافق وطبيعة الأمور لا سيَّما وأنَّ ابنَ مالك عالمٌ مجتهدٌ أمضىٰ حياتَهُ بين القراءةِ والدراسةِ والتأليفِ، والذي يظهرُ أنَّ أغلبَ الآراء التي عدل إليها في تسهيل الفوائد كانتْ أصوبَ وأجودَ لبعدها في الغالب عن التكلُّفِ والتأويل وميلها إلىٰ التيسير والتسهيل علىٰ ما سنبيِّنُهُ في هذه الدراسة إن شاء الله تعالىٰ.
أسبابُ اختلافِ رأيِ النحويِّ في المسألة:
إنَّ اختلافَ آراء ابن مالك وغيره من أهل اللغة؛ بل العلماء عامَّةً لمْ يكنْ غفلةً أو سهوًا، بل كان عن قصدٍ وعمدٍ ونحن نذكرُ أسبابَ هذا الاختلاف في الرأي ونجملُها في أربعة أسباب:
الأوَّل: التَّطوُّرُ الفكريُّ والنضوجُ العلميُّ القائم علىٰ إعادةِ النظر فيما استُجدَ من أدلَّة مع مرور الزمن ومِنْ ثَمَّ يكون ما كتبَهُ في شبابِهِ، أو في أوائل حياته التأليفيَّة قد لا يرتضيه في آخر حياته بعد أن يستوي علىٰ سوقه، وهذا واقعٌ مجرَّبٌ، فقد قال ابن جني: “ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبَّعَ به كتابَ سيبويه، وسمَّاه مسائلَ الغلط فحدثني أبو علي عن أبي بكر أنَّ أبا العباس كان يعتذرُ منه ويقول: هذا شيء كُنَّا رأيناه في أيام الحداثة فأمَّا الآن فلا”([12]).
الثاني: التراجعُ عن الخطأ ولا يُعَدُّ هذا غلطًا ولا عيبًا؛ بل هو التواضع بعينه، قال أبو الحسن الأخفش: “سمعتُ أبا العباس المبرد يقول: إنَّ الذي يغلط ثُمَّ يرجع لا يُعدُّ ذلك خطأ؛ لأنَّهُ قد خرج منه برجوعه عنه، وإنَّما الخطأُ البيِّنُ الذي يصرُّ علىٰ خطئه، ولا يرجعُ عنه فذلك يُعدُّ كذَّابًا ملعونًا”([13]).
الثالث: اطِّلاعُ العالم علىٰ دليلٍ لم يطَّلعْ عليه من قبل، ولم يصلْهُ في بداية حياته، فقد نقل السيوطيُّ عن ابن السراج قوله: أنا أفتي بفعلية (ليس) تقليدًا منذ زمن طويلٍ ثُمَّ ظهر لي حرفيتها([14]).
الرابع: الجوابُ المباشر الميداني السريع. فقد ذُكِرَ أنَّ أبا علي الفارسي اجتمع مع عضد الدولة البويهي في الميدان، فسأله عضدُ الدولة بماذا ينتصب المستثنىٰ في نحو: قام القومُ إلا زيدًا؟ فقال أبو علي الفارسي: “بتقدير (استثني زيدًا). فقال عضدُ الدولة له -وكان فاضلًا-: لم قدَّرتَ استثني، فنصبتَ؟ هلَّا قدَّرْتَ: امتنع زيدٌ، فرفعتَ؟ فقال أبو علي: هذا الجواب الذي ذكرتُهُ لك جواب ميداني، وإذا رجعتُ ذكرت لك الجواب الصحيح”([15]).
وقد تكون أسبابٌ أخرىٰ مجتمعةً أو متفرقةً تبيِّنُ لنا شيئًا مما وقع فيه ابن مالك وغيره من العلماء مما لم أقفْ عليها، وإنَّما عرَّجتُ بهذه الإضاءة علىٰ هذه الظاهرةِ لتقريبِ الصورةِ وتوضيحِ هذه الظاهرة وتفسيرها وذكر بعض أسبابها، وإلا فإنَّ لكلِّ داءٍ دواءٌ، وليس كلُّ داءٍ يعرفُ الطبيبُ دواءَهُ.
_____________________________________________
([1]) صحيح مسلم: 2/1099، برقم (1472) باب طلاق الثلاث.
([2]) ينظر الشافعي حياته وعصرُه-آراؤه وفقهه، محمد أبو زهره: 158، وتعدد رأي النحوي في المسألة الواحدة: 8، واختلاف آراء ابن مالك النحوية من خلال شرح الأشموني للألفية، حوفان بن صالح بن عبد الله: 26.
([3]) سبل السلام شرح بلوغ المرام، محمد بن إسماعيل الصنعاني: 3/202.
([5]) ينظر المصدر نفسه: 1/200-207، وينظر اختلاف آراء ابن مالك النحوية من خلال شرح الأشموني للألفية: 27.
([6]) منهم أبو حيان في ارتشاف الضرب: 2/782، والتذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل: 11/115.
([7]) منها علىٰ سبيل المثال أطروحة: (تعدد رأي النحوي في المسألة الواحدة حتىٰ القرن الثالث الهجري)، مها بنت مسفر الغامدي.
([8]) ينظر التذييل والتكميل: 2/238.
([9]) ينظر المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية: 1/349،352 ،3/415.
([11]) تعارض الآراء في نحو ابن مالك: 181.
([12]) الخصائص: 1/207، وينظر تعدد رأي النحوي في المسالة الواحدة حتىٰ القرن الثالث الهجري: 9.
([13]) أبو العباس المبرد وأثره في علوم العربية، محمد عبد الخالق عضيمة: 25، وينظر تعدد رأي النحوي في المسألة الواحدة حتىٰ القرن الثالث الهجري: 9.
([14]) الأشباه والنظائر في النحو، السيوطي: 5/12، وينظر الأصول في النحو، ابن السراج: 1/27، وتعدد رأي النحوي في المسألة الواحدة حتىٰ القرن الثالث الهجري: 11.
([15]) نزهة الالباء في طبقات الادباء، أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري: 233، وينظر تعدد رأي النحوي في المسألة الواحدة حتىٰ القرن الثالث الهجري: 11.
اقرأ أيضًا:
amadoukassambara01@gmail.com
اشكركم علي المقال المفيد وكما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال في خطبته حين توليه الخلافة مانصه ان الرجوع الي الحق خير من التمادي في الباطل لكن اريد ان انبهكم لتعديل الاية الكريمة من سورة النمل التي استدللتم بها علي فعل اليهود يبدو انه يوجد خطا فني في القتباس
شكرًا جزيلًا
تم التعديل