اللغة والمصطلح الواقع والمأمول
اللغة والمصطلح: الواقع والمأمول
هيا الشافعي
شكَّلت اللغةُ الوظيفةَ الأسمىٰ للتواصل البشري بل التواصل الكلِّي؛ فاللغات ليست مقتصرة علىٰ جانبها المنطوق -العربية مثلًا-، بل شملت ميادين أوسع من ذلك إلىٰ لغة الإشارة ولغة الجسد ولغة العين، فأصبح مصطلح اللغة مصطلحًا واسعًا يدخل في العديد من المفاهيم والحدود، ويختلف باختلاف زوايا النظر إليه.
وأما قديمًا فنجد أجمعَ تعريفٍ وأمنعَ للغة في قول ابن جني: “فإنها أصوات يعبر بها كلُّ قوم عن أغراضهم”([1]). وعليه نجده نظر إلىٰ اللغة المنطوقة بوجه الخصوص؛ كونه جعلها أصواتًا، وفي لسان العرب ورد تعريف الجذر (لغو) فيه: أنه ما كان من الكلام غير معقود عليه، وأيضًا هو الشيء الذي لا يعتد به، وقال اللغة من الأسماء المنقوصة وأصلها لغو من لغا إذا تكلم، وقيل اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه، وجِماعه الخطأ، وقيل العدل عن الصواب، وهو الباطل، واللغو النطق. واللغة: اللِّسن وحدها إنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم([2]).
وبهذا نجد أن اللغة في غالب معناها اللغوي تأخذ منحىٰ سلبيًا، إذ تدل علىٰ الميلان والبطلان والتكذيب واللافائدة، وتجدر الإشارة إلىٰ أن مادة “لُغة” لم ترد في القرآن الكريم ولا مرة، وإنما الذي ورد مادة “لَغو” وحدها، “وواضح من هذا أن المادة استعملت في القرآن الكريم بما يوافق معناها العام الأصلي… ولم يستعمل القرآن لفظة “اللغة” ولا مادتها “ل غ و” بمعناها الاصطلاحي للدلالة علىٰ الكلام الذي يتفاهم به جيل من الناس”([3]).
وأما اصطلاحًا وهو مضمار حديثنا في اللغة والاصطلاح، فنجد الخولي قد جمع وقسّم التعريفات بشكل مختصر وموجز وشامل مع شرحه بعد ذلك، إذ يقول: “يمكن تقديم تعريفات عديدة للغة:
- اللغة نظام اتصال بين طرفين.
- اللغة نظام لتبادل المشاعر والأفكار بين الناس.
- اللغة وسيلة للتعبير عن الحاجات والآراء والحقائق بين الناس.
- اللغة نظام اعتباطي لرموز صوتية تستخدم لتبادل الأفكار والمشاعر بين أعضاء جماعة لغوية متجانسة”([4]).
وبذا نجد التعريفات السابقة قد جمعت أغلب الآراء حول تعريف مصطلح اللغة، الذي تمحور حول وظيفة اللغة في الاتصال والتواصل سواءً لأفكار أو مشاعر، وكذلك سواء كان بين البشر أو الكائنات الحية الأخرىٰ، بيد أن الخولي لفت إلىٰ معنيين آخرين للغة اصطلاحًا علىٰ أنهما: اللهجة والحرف، أسوة بالقدماء الذين أفردوا أبوابًا في اختلاف اللغات أي اختلاف اللهجات، وكذلك بتفسيرهم للحديث الشريف أنَّ القرآن قرأ بحروف سبعة([5]).
ولما كانت وظيفة اللغة الأساسية الاتصال، والتعبير والإفهام، توجب علينا “دراسة دلالة الألفاظ، أو معاني المفردات، والعلاقة بين هذه الدلالات والمعاني المختلفة، والحقيقي منها والمجازي، والتطور الدلالي وعوامله ونتائجه، ونشوء الترادف والاشتراك والأضداد”([6]). ومنه نخلص إلىٰ أن دراسة دلالة الألفاظ أدّىٰ إلىٰ تجمُّع ألفاظ معيَّنة في موضوع معيَّن، ومع تطور العلوم المختلفة وصياغة مفاهيم مختلفة لكل علم منها، تشكَّل ما يعرف لدينا بالمصطلح.
فالمصطلح لغةً نجد مادته “ص ل ح” في لسان العرب: الصلاح: ضد الفساد، صلح يصلح ويصلح صلاحًا وصلوحًا، والجمع صلحاء وصلوح، ورجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أعماله وأموره، وأصلح الشئ بعد فساده: أقامه، والصلح: السلم([7]). ولم يرفد -ابن منظور- معجمه بالمصطلح اشتقاقًا للصلح، فـ”الملاحظ أننا نجد ترادفًا في استخدام صيغتي “اصطلاح” و “مصطلح” في المعجم اللغوي أو معاجم المصطلحات”([8]). الأمر الذي يجعلنا نرجّح بوضوح الفوضىٰ المصطلحيَّة بين الاصطلاح والمصطلح، ومن المعاجم الحديثة من تنبَّه إلىٰ هذا الأمر فسارع إلىٰ رسم الحدود بينهما وهو معجم مجمع اللغة العربية في القاهرة، فقد عرّف الاصلاح بقوله: هو “اتفاق طائفة علىٰ شيء مخصوص”([9])، وأما في تعريفه للمصطلح فنجده قد أبان بقوله: أنه “لفظ أو رمز يتفق عليه في العلوم والفنون للدلالة علىٰ أداء معنىٰ معين”([10]).
وفي الاصطلاح نجد إشارات لمعنىٰ المصطلح اصطلاحًا عند الجاحظ في بيانه حيث يقول: “وهم تخيّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقّوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا علىٰ تسمية مالم يكن له في لغة العرب اسم فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف، وقدوة لكل تابع”([11]). ويمكننا القول بأن القرن الرابع الهجري وقبله بقليل شهد تحولات كبيرة وتطورات نوعية في مجال التأليف والعلوم سواء العربية أو العلوم الدنيوية من طب وهندسة وفلك وحساب، وهذا مما يحتاج بالضرورة إلىٰ وضع مصطلحات ذات بال لهذه العلوم، إلّا أنَّ المصطلح لم يكن مستقرًا بشكل كامل، فنجد اختلافًا في الاصطلاح بين مدرستي البصرة والكوفة علىٰ سبيل المثال إذا ما أنتحينا نحوَ النحوِ، وفي ذاك العصر تم تأليف مصنفات تُعْنىٰ بالمصطلحات ونجد هذا عند الخوارزمي في مصنَّفه “مفاتيح العلوم” الذي جمع حوالي ألفين وأربعمئة مصطلح، معتمدًا في جمعه علىٰ مجهوده وفي تفسيرها علىٰ ثقافته الواسعة([12]).
وأما التعاريف التي وضعها المحدثون من مثل عبد الصبور شاهين، وزعم بأنه السبّاق إلىٰ هذا التعريف، في قوله: “المصطلح هو اللفظ أو الرمز اللغوي الذي يستخدم للدلالة علىٰ مفهوم علمي أو عملي أو فني، أو أي موضوع ذي طبيعة خاصة”([13]). وكان لعلي القاسمي بصمته الواضحة في هذا الشأن بأنْ عرّف علم المصطلح بقوله: أنه “علم حديث يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والألفاظ اللغوية التي تعبّر عنها، وهو علم مشترك بين علوم عدة أبرزها علم اللغة، والمنطق، والمعلومات، وعلم الوجود، وعلم المعرفة، وحقول التخصص العلمي”([14]). حيث أشار إلىٰ أن البحوث في علم المصطلح قد نشطت في كندا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، وأما في الوطن العربي فتوجَّهت المجامع اللغوية والعلمية، إلىٰ العناية بالمصطلح العلمي والتقني والتعريب والنشـر في المجلات التي تصدر عنها([15]).
وفي المجمل نجد عَزْو أصحاب العلم مسؤولية وضع المصطلحات وتوحيدها ونشـرها إلىٰ كلٍ من([16]):
-المجامع اللغوية: مجمع اللغة العربية، المجمع العلمي بدمشق، ومكتب تنسيق التعريب في الرباط.
-المعاجم الموحدة للمصطلحات: المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات، والمعجم الموحد لمصطلحات الكيمياء.
-البنوك الآلية للمصطلحات: بنك معربي بمعهد الدراسات والأبحاث في الرباط، والبنك الآلي السعودي للمصطلحات.
-وسائل الإعلام: إذ هي الجسر الواصل بين المصطلِحِين وبين العامة.
وأما عن النظرية العامة لعلم المصطلح التي تقوم علىٰ المبادئ التي تحكم وضع المصطلحات طبقًا للعلاقات القائمة بين المفاهيم العلمية، وهي: (طبيعة المفاهيم، وتكوين المفاهيم وخصائصها والعلاقة بينهما، وطبيعة العلاقة بين المفهوم والشيء المخصوص، وتعريفات المفهوم، وكيفية تخصيص المصطلح للمفهوم والعكس بالعكس، وطبيعة المصطلحات ووضعها) ، ولكنَّ الافتقار إلىٰ تخصيص نظرية عامة لعلم المصطلح مازال مستمرًا، إذ إنَّ الجهود المبذولة في ميدان التطبيق علىٰ علم المصطلح وليس التأصيل لمنهجيَّة واضحة جامعة مانعة تحكمه، فلا ننسىٰ أنَّ نمو علم ما رهين بتقدم البحث في ذلك العلم، فإن اللغة العلمية لا تحيا إلا بتمكن العلم نفسه أي المصطلح في نفوس المحدثين المكتسبين لهذا العلم([17])، فلغة العلم هي اللغة التي تحمل المصطلح.
وفي تدارك ذلك نجد العلماء قد أسسوا علىٰ الأقل طريقة ممنهجة لوضع المصطلح، وأول من أسهم في هذا العمل هو أحمد عيسىٰ في تهذيبه، حيث بيّنها وأتىٰ علىٰ تفنيدها وتفصيلها، وهي علىٰ الترتيب فالأَوْلىٰ أُولىٰ ثم يتبعه التابع في الولاية: الترجمة، فالاشتقاق، فالمجاز، فالنحت، فالتعريب، ولا يكون الانتقال من رتبة إلىٰ أخرىٰ إلا بعد العجز التام عن الإتيان بالأَوْلىٰ([18]).
ولا ننفي تعلق العالم العربي وحركته العلمية بمشكلة المصطلح، فهل اللغة العربية عاجزة وقاصرة عن الإتيان بالمفردات والتراكيب التي ترسي دعائم العلم إلىٰ موانيها الصحيحة؟ ولمَ لم تحدث أزمة المصطلح في العلوم الغربية؟ وكيف للغة العربية القديمة أن تكون لغة العلم والمعرفة؛ ففي القرون الأولىٰ للدولة الإسلامية كان العلماء يؤلفون مصنفاتهم باللغة العربية مهما كان محتواها طبًّا أو فلكًا أو حسابًا أو علوم لغة، وهذا يفند قول من قال بأنَّ اللغة العربية قاصرة عن الإتيان بالمفردات المناسبة للعلوم الحديثة، فليست العربية القاصرة، إنما بنو العرب وأبناؤها العاقون هم القاصرون في هذه المهمة، ولابد من نهضة قادمة تعيد العربية إلىٰ مدرجها.
فمن أكثر المشاكل إحاطة في العلوم والمصطلحات بشكل عام هي أنَّ قارئ كتب اللسانيات مثلًا المترجمة منها أو الموضوعة بالعربية “تتخطّفه أمواج الفوضىٰ المصطلحية ما بين مغرب الوطن العربي ومشرقه، وهو ما يحول دون فهم هذا العلم فهما دقيقًا صائبًا”([19]). كما لاختلاف الأصول التي تكوّن المصطلح الغربي ما بين اللاتيني والإنجليزي والألماني أثر في صعوبة استقرار المصطلح العربي مترجمًا أو وَضْعٌ جديد في اللغة، بالإضافة إلىٰ غزارة المصطلحات المشكِّلة لعلم من العلوم ونستمر باللسانيات مثالًا؛ حيث أرادت كل مدرسة لسانية إثبات أصالتها بوضع مصطلحات خاصة بها، فوقع العرب أمام سيل جارف من المصطلحات بين القديمة والحديثة والحالية، بالإضافة إلىٰ اختلاف المفهوم الواحد بين رواد هذا العلم العائد إلىٰ حداثة هذه العلوم وعدم تأصيلها وتمركزها في أذهانهم([20]). وعليه إن معرفة المشكلة نصف حلها، فنأمل أن يوفقنا الله ويهدينا من أمرنا رشدًا بأن نكون بارّين لهذه اللغة ونسعىٰ لنهضتها، وتأصيل مصطلحاتها بشكل يوحّد بين مشارق الأرض ومغاربها.
_________________________________________
[1]. ابن جني، أبو الفتح عثمان (392هـ)، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة العامة لقصور
الثقافة، القاهرة- مصر، 2006م، 1: 33.
[2]. ابن منظور، أبو الفضل محمد (711هـ)، لسان العرب، ط3، دار صادر – بيروت، 1414هـ، 15: 250-252، مادة (ل غ و).
[3]. قنيبي، حامد صادق، المعاجم والمصطلحات، ط1، الدار السعودية، الظهران – السعودية، 2000م، 37.
[4]. الخولي، محمد علي، مدخل إلىٰ علم اللغة، ط1، دار الفلاح، الأردن – صويلح، 2000م، 12.
[5]. المرجع السابق، 39-42.
[6]. عبد التواب، رمضان، المدخل إلىٰ علم اللغة، ط3، ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997م، 10.
[7]. ابن منظور، لسان العرب، 2: 516-517، مادة (ص ل ح).
[8]. قنيبي، المعاجم والمصطلحات، 56.
[9]. مجمع اللغة العربية، معجم الوجيز، د.ط، دار التحرير، القاهرة – مصر، 1989م، 368.
[10]. المرجع السابق.
[11]. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (255هـ)، البيان والتبين، تحقيق عبد السلام هارون، ط7، مكتبة الخانجي، القاهرة – مصر، 1998م، 1: 139.
[12]. جفال، محمود عبد الله، المصطلح اللغوي عند ابن جني، أبحاث مجمع اللغة العربية الأردني، الأردن – عمان، 2006م، عدد71، 66.
[13]. قنيبي، المعاجم والمصطلحات، 58.
[14]. القاسمي، علي، علم اللغة وصناعة المعجم، ط1، مطبعة جامعة الملك سعود، الرياض – السعودية، 1975م، ل.
[15]. القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم، ن.
[16]. حفار، عز الدين، واقع المصطلح العلمي اللغوي العربي، أبحاث جامعة مستغانم، الجزائر، 1.
[17]. قنيبي، المعاجم والمصطلحات، 59-89.
[18]. عيسىٰ، أحمد بك، التهذيب في أصول التعريب، ط1، مطبعة مصر الأولىٰ، القاهرة – مصر، 1923م، 112.
[19]. السراقبي، وليد بن محمد، فوضىٰ المصطلح اللساني، أبحاث مجمع اللغة العربية، 2008م، مجلد83،
2: 377.
[20]. وكّان، عمر، اللغة العربية وإشكالية المصطلح اللساني، أبحاث كلية اللغة العربية، 1995م، 103-105.
اقرأ أيضا:
القاموس المحيط والقابوس الوسيط
3 تعليقات