دعاوى المستشرقين في العروض العربي
دعاوى المستشرقين في العروض العربي
د. عمر علي خلوف
(1 – 3) المقاطع اللغوية [ودعاوى المستشرقين في العروض العربي]:
تأثُّرًا بالأبحاث الصوتية الحديثة، ودعوات المستشرقين، فقد دعَتْ بعض الدراسات العروضية الحديثة إلىٰ استخدام (المقاطع اللغوية) بدل (المتحرك والساكن) في تحليل الإيقاع الشعري. حيث يرىٰ هؤلاء أن مصطلحَ (الساكن) في العروض ليس دقيقًا، لأنه يدلّ علىٰ شيئين مختلفين هما: (الأحرف الصامتة) كالهمزة والباء، و(الحركات الطويلة) المدود، بينما يُفرّقُ مصطلح المقطع اللغوي بينهما.
ومعلوم أن (الأصوات) في اللغة العربية ثلاثة أنواعٍ هي:
1- الحركات القصيرة؛ وهي (الفتحة والضمّة والكسرة).
2- الحركات الطويلة؛ وهي المدود (الألف والواو والياء). وهي تُعادل زمنيًّا مقدارَ حركتين قصيرتين.
3- الصوامت؛ وهي أصوات الحروف الأخرىٰ، كالباء والتاء والثاء…إلخ.
ومن المعروف في العربية أيضًا أنّ أيًّا من (الحركات) أو (الصوامت) لا يمكن أن يقوم بذاته أبدًا. ولا بدَّ لأحَدِهِما من وجود الآخر، حيث تشكِّل (الحركاتُ مع الصوامِتِ) نوعين رئيسين من (المقاطع اللغوية) ذات الكيان المستقلّ، وهما:
1- المقطع القصير: ويتألف من (صامت+حركة قصيرة) نحو: (بَـ، بُـ، بِـ). ويرمزون له بالرمز (ن).
2- المقطع الطويل: وهو نوعان (متساويان زمنيًّا):
أ – المفتوح: ويتألف من (صامت+حركة طويلة) نحو: (با، بو، بي).
ب- المغلق: ويتألف من (صامت+حركة قصيرة+صامت) نحو: (بَلْ، بُدْ، بِتْ).
ويرمزون إليهما معًا بالرمز (-) دون تفريق.
والعاتبون علىٰ الخليل يتوهّمون أنه يعدّ الوزنَ “تتابُعًا في الحرَكات والسَّكَنات”، وأنه “لم يدلّنا علىٰ وحدة الكلام وهي المقطع” لأنه “لم يفطنْ [كذا] إلىٰ أن الحروف الصائتة القصيرة [الحركات] تُكوِّن مع الحرف الصامت الذي توضع فوقه كحركة مقطعًا تامًّا مستقلًا، ولهذا اكتفىٰ في تقطيع التفعيل بالحروف التي تُكتب، مُمَيّزًا بينها بالحركة والسكون” كما يقول مندور.
وهذا إطلاقٌ للكلامِ علىٰ عواهنه.
فالخليل رحمه الله تعالىٰ كان يعدّ الوزنَ تتابعًا في “المتحركات والسواكن”، لا تتابعًا في (الحركات والسكنات) كما يقول مندور، وفرقٌ كبيرٌ بين الاصطلاحين وإن أدَّيا معًا ذات المهمة في تحديد الأوزان.
فلقد عرَفَ الخليلُ (الحركات) كما عرفَ (الصوامت) وميَّزَ بينهما. لأن المتحرِّكَ عنده هو: “كلُّ حرفٍ مضمومٍ أو مكسورٍ أو مفتوح”، فهو: “حرفٌ وحركة” كما يقول الأخفش.
وعرَفَ الخليل أيضًا أن “الحركةَ لا تكون إلاّ في حرف”، فلا قِيامَ لأحدهما بدون الآخر.
بل عرفَ أكثر من ذلك؛ فبيّن أن الحرفَ المتحركَ ذاته (المقطع القصير) لا يُحقّقُ وجودَه إيقاعيًّا إلاّ عندما يندمج مع غيره، مكوِّنًا معه كياناتٍ مستقلّةً هي: (السبب والوتد والفاصلة). يقول الأخفش: “وأقلّ ما ينفصل من الأصوات… حرفان”؛ متحركٌ فساكن، ولا يمكنك “أنْ تُفْرِدَ من الأصوات أقلّ من ذا… نحو: (ها) و(قَطْ)”.
ولقد نسيَ هؤلاء أنّ الخليلَ رحمه الله كان -في عَروضه- يتعامل مع الأوزانِ (إيقاعيًّا) لا (لغويًّا). ولذلك فهو لم يكتفِ -في تقطيع التفعيل- بالحروف التي تُكتب كما ادّعىٰ مندور، لكنه أغفلَ شكلَ الكتابةِ تمامًا، وعَوّلَ علىٰ (الأصوات) الجارية علىٰ اللسان، المسموعة في الآذان.
أضف إلىٰ ذلك أن الخليلَ لم يكن يرمز إلىٰ (الحركات)، ولكنه رمَزَ إلىٰ: (المتحرّكات)، أي إلىٰ: (المقاطع)، لأنّ الرمز (/) كان يعني عنده (حرفًا متحركًا).
وواضح طبعًا أن (المقطع القصير) هو ذات (المتحرك) في العروض الخليلي، لا يزيد عليه ولا ينقص.
بينما يُقابل (المقطع الطويل) -بنوعيه؛ المفتوح والمغلق- (السببَ الخفيفَ) عند الخليل، دون تفريقٍ بين النوعين.
* ونظرًا (للتعادل الزمني) بين المقطعين: (المغلق والمفتوح)؛
* ونظرًا إلىٰ أن الحركةَ الطويلةَ تُعادل حركتين قصيرتين؛
فإنّ المقطع المفتوح يساوي: (صامت+حركة قصيرة+حركة قصيرة) أي: (متحرك+حركة قصيرة).
بينما يُساوي المقطع المغلق: (صامت+حركة قصيرة+صامت) أي: (متحرك+صامت).
وبالتالي تتعادل الحركة القصيرة مع الصامت (زمنيًّا).
فكأن الحركة القصيرة التي ينتهي بها المقطع المفتوح حرفٌ صامت (أي: ساكن).
لذلك فإن إحساسَ الخليل بكون المقطع المفتوح -كالمغلق- يُساوي: (متحركٌ فساكن) هو إحساسٌ صحيح، سيما وأنه يَدْرس (إيقاعَ الأوزان) لا (اللغة) كما أشرنا آنفًا.
بل إن الرمزَ (/ه) -وإنْ كانَ ثُنائيَّ الإشارة- كان يعدّه الخليل مقطعًا تامًّا مستقلًا سمّاه: (السبب الخفيف).
وهو في رأينا أفضل من الرمز المفرد الإشارة (-) الذي يستخدمه المعاصرون، لأنّ رمز السبب الخفيف يدلُّنا علىٰ ما يتألف منه المقطع من جهة، ويُنبّهنا عند الزحاف إلىٰ أن ما سقطَ منه هو الساكن، وما بقيَ هو المتحرك.
ولا بأسَ عندنا من استخدام (المقاطع اللغوية) -أحيانًا- لتفسير بعض الظواهر اللغوية في الشعر، إلاّ أن كفّةَ (المقاطع العروضية) ترجح عندنا في دراسة الإيقاع في الشعر.
فمن المعلوم أن الحرفَ المتحركَ المفردَ يُشكِّلُ غالبًا مع السبب الذي يليه (مقطعًا عروضيًّا) ثابتًا لا يتزحزح بزحاف (//ه)، مما يجعله عِمادَ الإيقاعِ في الشعر، وهو ما سمّاه الخليل (بالوتد).
ولذلك تُعدّ (مستفعلن /ه /ه //ه) عكسَ (مفاعيلن //ه /ه /ه) إيقاعيًّا، حيث تتركّب الأولىٰ من سببين فوتد، بينما تتركب الثانية من وتدٍ فسببين.
كما تُعدّ (فاعلن /ه //ه) عكسَ (فعولن //ه /ه)
و(متَفاعلن ///ه //ه) عكسَ (مفاعَلَتن //ه ///ه) لنفس السبب.
وأمّا بطريقة (المقاطع اللغوية)؛ فينشطر الوتد إلىٰ نصفين،
فتصبح (مستفعلن /ه/ه//ه) عكس (فاعلاتن /ه//ه/ه)، لأنّ الأولىٰ تتألف من مقطعٍ (طويل+طويل+قصير+طويل)، بينما تتألف الثانية من مقطعٍ (طويل+قصير+طويل+طويل).
كما تصبح (مفاعيلن //ه/ه/ه) عكسَ(مفعولاتُ /ه/ه/ه/)، و(فعولن //ه/ه) عكس (مفعولُ /ه/ه/)..
وأسوأ من ذلك أن تصبح (فاعلن /ه//ه) عكس ذاتِها!
فإنْ صحَّ ذلكَ في الدرس اللغوي (مقطعيًّا)، فمن غير الممكن أن يصحَّ (إيقاعيًّا) كما ترىٰ.
* * *
(2 – 3) النّبْر اللغوي [ودعاوى المستشرقين في العروض العربي]:
وتأثرًا بأبحاث المستشرقين أيضًا، فقد دعت بعض الدراسات العروضية الأخرىٰ إلىٰ تحليل إيقاعِ الشعر العربي اعتمادًا -مطلقًا- علىٰ ظاهرة (النبر اللغوي)، أو إعطاء (النبر) دورَ المنظِّمِ الإيقاعي الرئيسي، أو حتىٰ إعطائه دورًا ما في تمييز الأوزان.
فقد رأىٰ (د.محمد مندور) أن الارتكازَ (النبر) عنصرٌ أساسيٌّ في الشعر العربي، ومن تردُّدِه يتولّد الإيقاع، وهو “يقعُ علىٰ كلِّ تفعيل، ويعودُ في نفس الموضع علىٰ التفعيل التالي”! وأنه لا يقع إلاّ علىٰ مقطعٍ طويل، يُشكّل المقطعَ الثاني للوتد المجموع (//ه)، فالوتد هو النواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز، ولا ينكسر الوزن إلاّ إذا أدّىٰ الزحاف إلىٰ فقدان النواة التي تحمله.
ونقول: ليس (النبرُ) ظاهرةً مطّردةً في الشعر العربي -بل ولا في النثر العربي- وليس له فاعلية إيقاعية بحيث يمكن الاعتماد عليها في تكوينِ نظامٍ إيقاعي.
بل ليس للنبر في اللغة العربية فاعليةٌ معنوية واضحة، إذْ لا تتأثّر معاني الكلمات العربية بتغيّر أماكن (النبر) عليها.
وكثيرًا ما تختلف مواقع النبر في نفس الكلمات تبعًا للّهجات العربية المتعددة، أو المناطق المختلفة، دون أن يؤثر ذلك علىٰ قراءة أهلها للشعر موزونًا ومفهومًا. ولا نرىٰ للنبر في العربية أكثر من وظيفة تعبيرية، كالتأكيد علىٰ معنىٰ أو التنبيه إليه.
يقول د.شكري عيّاد: “النبر في اللغة العربية ليس صفةً جوهريّةً في بنية الكلمة، وإن يكن ظاهرة مطّردةً يمكن ملاحظتها وضبْطها. وإذا صحّ ذلك، فإنّ القولَ بأن الشعرَ العربي شعرٌ ارتكازيٌّ [نبري] كالشعر الإنكليزي أو الألماني قولٌ ليس له -حتىٰ الآن- ما يسنده من نتائج البحث اللغوي. ولعلّ وصفَ جمهور المستشرقين للشعر العربي بأنه شعرٌ كمّيٌّ أن يكون أدنىٰ إلىٰ الصواب”.
وفي دراسةٍ عمليّةٍ استقرائية؛ تبيّن (للدكتور علي يونس) أن (النبرَ) في الشعر العربي -كما في النثر- لا يُشكّل أيَّ نظامٍ إيقاعيٍّ. فتوزيعُ النبر غيرُ منتظمٍ ولا ثابت. كما لم تكن الأوتادُ مواضعَ للنبر في كلّ الحالات، ولا في أكثر الحالات.
وفي الدراسة التي قام بها عن (الكم والنبر) في الشعر العربي، حاول (د.كمال أبو ديب) تأسيسَ نظامٍ عروضيٍّ يعتمد بصورةٍ رئيسيةٍ علىٰ النبر.
إلاّ أن اعتماده شبه المطلق علىٰ ملاحظة النبر الواقع علىٰ الوحدات الإيقاعية (التفاعيل)، لا علىٰ الواقع الشعري، جعلَ دراسته نظريّةً بحتةً، وتفتقر إلىٰ التطبيق العملي.
فالانتظام النموذجي للبحر الكامل عنده مثلًا هو:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
///ه //ه ///ه //ه ///ه //ه
…×..^…×..^…×..^
حيث تشير العلامة (×) إلىٰ موقع النبر القوي، والعلامة (^) إلىٰ موقع النبر الضعيف.
إلاّ أن البحر الكامل لا يرِد دائمًا بصيغته (السيمترية) تلك.
فمن المعلوم أن وزن البحر الكامل يتحقّقُ عمليًّا بمئات الأشكال من الكلمات اللغوية، حيث يمكن للنبر أن يقع علىٰ أماكن أخرىٰ مختلفة جذريًّا عن الأماكن التي حدّدها.
خذ مثلًا قولَ ناجي:
وقفَ الشبابُ فداءَ محرابِ الحمىٰ
.///ه //ه ///ه //ه /ه /ه //ه
.^….^….^…..^….^
وتجمّعَ الأشبالُ بينَ يدَيْكِ
///ه //ه /ه /ه //ه ///ه /ه
…..^…..^..^….^
فتلفّتي تجِدي عرينَكِ عامِرًا
///ه//ه ///ه //ه ///ه //ه
….^..^……..^…^
وتسمّعي كَمْ قائلٍ لبَّيْكِ
///ه //ه /ه /ه//ه /ه/ه/ه
…..^……..^…..^
<ملاحظة: لم أستطع هنا ضبط أماكن المؤشر كما هي في المصدر>
ويشير السهم (^) إلىٰ مكان النبر كما تحقّق عمليًّا في قراءةٍ للشاعر (فاروق شوشة) في برنامج لغتنا الجميلة.
حيث يتضح تمامًا اختلاف مواقع النبر بين شطر وآخر، وعدم تطابق أيٍّ منها مع نموذج أبي ديب النظري.
يُضاف إلىٰ ذلك إمكانية قراءة هذه الأبيات بنبْرٍ يقع علىٰ مواضعَ أخرىٰ دون أن يؤثّر ذلك علىٰ الوزن أو المعنىٰ.
* * *
(3 – 3) المدلولات الصوتية للحروف [ودعاوى المستشرقين في العروض العربي]:
وإن من الباحثين المعاصرين، مَنْ نعىٰ علىٰ الخليل -والعروضيين من بعده- “نظرتهم الشكلية إلىٰ الحرف العربي”، “دون الانتباه إلىٰ نوعية كلِّ متحركٍ وساكن”! فلم يفرّقوا -في الرمز- بين المدلولات الصوتية المختلفة للمقاطع مثل (با ، بو ، برْ ، ششْ .. إلخ)، ولا بين الأنغام المختلفة للحركات، ولا بين الشحنات الصوتية -وما يتبع ذلكَ من فروقٍ في الشحنات الوجدانية المعنوية- للحروف المختلفة!!. معتبرًا ذلك “ثغرةً عروضية” و”شرخًا كبيرًا بين الواقع الإيقاعي والافتراضي العروضيّ. (ينظر: د.محمد توفيق أبو علي، علم العروض ومحاولات التجديد).
ومع صحّة الكلام عن الفروق بين المدلولات الصوتية للمقاطع والحروف والحركات، إلا أنّ في ذلك (مغالطة كبيرة) و(ثغرةً) كان علىٰ الباحث أن لا يقع فيها.
فعلم العروض -كما هو معروف- هو علم موسيقىٰ الشعر. ولدراسة الموسيقىٰ، والوصول إلىٰ مكوناتها الإيقاعية الظاهرة، أي (الموسيقىٰ الخارجية)، لابدّ من التجريد الرياضي لواقع الحروف والكلمات.. بل لا يمكن الوصول إلىٰ هذه المكونات بدون ذلك التجريد. وذلك ما فعَلَه علماء الموسيقىٰ، وهو ما فعَلَه الخليل في موسيقىٰ الشعر.
وأما مكونات الإيقاع الشعري (الداخلية)، كنغم الحرف وجرسه، والشحنة، والمدلول الصوتي لكل حرف، فإبرازُها يقع علىٰ عاتق الشاعر المبدع، والناقد الفذ، ولدراستِها مكانٌ آخر غير علم العروض، إنه لدىٰ فقهاء اللغة، والخليلُ أحدهم.
ولنتصور معًا حالَ العروض إذا ما أضفنا إلىٰ مصطلحاته ما يُفيد التفريقَ بين كلّ حرفٍ وآخر في نغمته، وشحنته، ومدلوله الصوتي.
______________________________________
اقرأ أيضًا:
2 تعليقات