تنمية بشرية
تنمية بشرية!
انكفأتُ في مرحلةٍ ما من حياتي علىٰ كُتب التنمية البشرية، كُنتُ منبهرًا بها وبكمية الأفكار التي تُطرح بشكل أنيق وجذّاب، فأخذتُ أُدوّن الاقتباسات والمبادئ التي تأسرني، وأحفظ القصص التنموية المؤثرة، وأكتنزُ المعلومات بتراكمية.
تصرَّفْتُ في أزمنة كثيرة من عُمري بالتَبَحُّر في كتب التنمية البشرية، التي تدعوني أن أوقِظ المارد الذي بداخلي، أو الوحش، وتشجعني علىٰ ممارسة النجاح كأنني حائِزُهُ وكأنه كائنٌ فيَّ، وتُطلق دعواتٍ لتعلُّم فن القيادة، فن الإدارة، طرُق التواصل مع الناس باحترافية، لغة الجسد، حركات العين وتبعاتها المقصدية… إلخ.
تشرَّب فِكري القدر الكافي من هذه الأفكار، و تشكَّلتْ عندي عادات مُستَنِدة عليها؛ واطمأنَّتْ روحي إلىٰ هذه المَلَكَة التنموية الكافية التي رُزِقْتُ سِرّها، وأقررتُ بيني وبين ذاتي المستقرة بأنَّ شيئًا لن يَكسر عزيمتي بعد اليوم، وأنَّ اليقين لن يُفارقني، فاستفدتُ الشيء الكثير.
لكن، في حينها لم أكُنْ قد اختبرتُ بعدُ تجربةً تُزعزعُ هذا الاستقرار، أو صدمةً تستفز الاطمئنان؛ إلىٰ أن وقعتُ في الفخ، فخّ المثاليات المُرَكَّزةَ؛ مثاليات عالية بعلوِّ السماء، تُرىٰ ولا تُمسُّ، تُستعمل للقياس فقط والمقارنة..
وفي لحظةٍ ثقيلة طويلة -لم تعبُر كبيقة اللحظات العابرة- غُلِّقَت الأبواب في وجهي، فتزعزع الاستقرار ودخلتُ في صدمة كبيرة نتجتْ عند إدراكي حجم اتساع الفجوة بين التنظير والتطبيق.. لم أستطع أن أستخدم هذا الكمّ الكبير من المهارات التي قرأتها وحفظتها، في ترويض يأْسي المُنْفَلِت في تلك اللحظات الصعبة.
مشكلة التنمية البشرية:
أنّني أسهبتُ في تَلَقُّف تلك الأفكار من فضاء تلك الكتب، من غير أن أخوض في أبجديات حقائقها وصحة المعلومات المُرتَكِزة عليها، و أخذتُ أستَقبِلُ المِثَاليات بدهشة أفقدتني الحرص علىٰ تطبيقها والعمل بها؛ فأنتجتْ عندي فجوةً كبيرة بين ما أعلمه وما ينبغي أن أعمله، وبين المعرفة والإدراك، وهذه برأيي الأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه كل من يقرأ كتب التنمية: الانتباه إلىٰ مراقبة الأفكار المقروءة من حيث الفكرة ومنطقيتها، ومدىٰ قابليتها للتطبيق في الواقع المعاش.
والمشكلة الثانية:
هي كثرة الكتب المطبوعة في هذا المجال والتي تحمل جميعها عناوين غير نمطية، خارج صندوق المألوف، تجذب العين، أو تحمل ذلك الطابع المسمىٰ “الكتاب الأكثر مبيعًا” وفي الحقيقة يكون الكتاب عاديًا جدًا، بالإضافة إلىٰ التكرار الغزير الذي يُورثُ الملل ويدور كله حول نقاط ثابتة. كما أنك قد تجد في كثير من هذه الكتب اقتباسات مُتبادلة، كتاب يقتبسُ من كتاب، مكوّنين شبكة مكررة من الاقتباسات والأفكار المتناقلة.
وهنا، أنا لا أدعو إلىٰ ترك هذه الكتب والابتعاد عنها، بل علىٰ العكس، أنا لا زلت مفتونًا بها وأُشجِّعُ علىٰ قراءتها، لكن وددتُ أن أمنح القارئ قبسًا من نورِ تجربةٍ طويلة، و طريقًا أكثر واقعية، لذلك إذا كُنتَ قارئًا فإنك ستقرأ -حتمًا- كتبًا في التنمية؛ فأقرأ بعناية ورَويّة، حتىٰ يتسنىٰ لك تقليب الأفكار علىٰ بعضها وتبنيها بعد الاقتناع، واحرصْ علىٰ اختيار الكتب المفيدة في هذا المجال عن طريق السؤال والبحث، واحرصْ كلَّ الحرص في توجيه مَن هُم في طَور الرعية لديك: أبنائك، طلابك، موظفيك أو زملائك… إلخ، توجيهًا محدّدًا، وأن لا يُضيّعوا الوقت في الأفكار المكررة.
وليكن في بالك كتابًا واحدًا في التنمية البشرية، كلّ ثلاثة أشهر أو أربعة يكون كافيًا جدًا، بشرط أن تحاول تطبيق الأفكار المطروحة، والصبر علىٰ ممارستها، وانتظار نتائجها، فإن ذلك أكثر نفعًا من محاولة الإكثار والاستزادة في الكتب دون إخضاع الفكرة للتنفيذ.
وتذكَّر دئمًا أنّ هذه الجملة: “الكتاب مبيّن من عنوانه” هي جملة خاطئة علىٰ الصعيد البنيوي والتفصيلي، فالعناوين والأغلفة هي المظاهر، والمظاهر غالبًا لا تُصرّح بحقيقة البواطن!
بالإضافة إلىٰ ما ذكرتهُ أنفًا، فأن في كتب التنمية البشرية الكثير من المغالطات العلمية الموضوعة؛ ما وضعت إلا للتعبئة السردية أو لبناء صورة برّاقة في محاولةٍ لصناعة وسيلةٍ للجذب وتسويق المنتج، أو بناء هالة إعلامية لغرض امتطاء جواد الشهرة، وهذا لَعمْري أحد أهم الأسباب التي جعلتني أعيد النظر في كتب التنمية البشرية.
في النهاية: علْم التنمية البشرية ليس علمًا جديدًا..
بل تُلمسُ آثاره في التواريخ البشرية بمسمّيات مختلفة، كالقصائد الحماسية، والرسائل الأدبية الذكية، رسائل الكُتّاب المستفيضة، خطابات التحفيز أثناء المعارك، اهتمام الملوك بتعلّم مَهارات القيادة… وغيرها الكثير.
بعض الكُتب أصدقاء، وبعضها مُدن، ولذلك ينبغي أن تختار صديقك بعناية، وتختار المدينة التي ستسكن فيها وتسكن فيك بعناية أيضًا.
اقرأ أيضًا:
3 تعليقات