كتاب ونقاد ومفكرون متقاعدون
هل سبق لك أن كُلِّفتَ بقراءةِ مئة صفحة مثلًا، وظللتَ تؤجّل وتؤجّل، حتى إذا لم يبقَ أمامك إلا ليلة واحدة رحتَ تقرأ صفحة وتغفو، ثم تقرأ صفحة وتغفو، ثم ذهبتَ في نومٍ عميق يفيض بأحلامٍ توحي بأنك قد استكملتَ قراءة ما كلِّفت به؟!
هذا ما حدثَ ويحدث مع جُلِّ الكتّاب والنقّاد والمفكّرين الّذين التحقوا بـوسائل التواصل الاجتماعي، وصار حضورهم اليومي فيها وعَبرها والانغماس في تفاصيلها الّتي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، مقدَّمًا على القراءة والكتابة والتأمُّل، إلى درجةِ اعتبار مَن غاب عن هذه الوسائل منقطعًا عن الإبداع ومَن حضرَ مواصلًا للعطاء، ومع أنّ جُلّ المثقّفين المنغمِسين لم يَكتبوا مقالةً أو يَنشروا بحثًا أو يُصدروا كتابًا منذ سنوات، فيما أنجزَ زملاؤهم الغائبون كثيرًا من المقالات والدراسات والكتب!
ومما يزيد محنةَ المنغمسين بلَّةً: عددٌ من الأوهام الّتي تتلبّسُهم والّتي يقف على رأسها توهُّم التواصل المباشر مع الجمهور جرّاء آليات التفاعل الفوريّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ، رغم أنّ هذا التفاعل شكليٌّ وآليٌّ وتَغلبُ عليه المجاملة النمطية المَقيتة، ويخلو من محاورة الأفكار ووجهات النظر. كما يقف على رأسها وهَم المواكبة جرّاء الانسياق خلف تفاصيل الأحداث اليومية، وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا. ولستُ بحاجة إلى القول بأنّ الانجرار خلف هذه التفاصيل اليومية قَمين بتصيير المثقّف معلِّقًا نمطيًّا منافقًا لثلّةٍ من المتابعين السطحيين. وأما ثالثة الأثافي في هذه الأوهام فتتمثَّل في اعتقاد المثقّف المنغمِس بأنّ شذراته الّتي يُدرجها بديلٌ حقيقيٌّ عن الإنجاز الكتابي، وبخاصة إذا قُيّضت له المشاركة في ندوةٍ يتسابق نجومُها إلى التقاط الصوَر الّتي صارت تُمثِّل الدليل الأبرز على حيوية المشاركة، وبِغَضّ النظر عن المضمون والمحتوى.
حتّى تكتملَ المأساةُ، فقد داهمتنا جائحة الكورونا، وكادت تَذهب بما تبقَّى من تمنُّع هؤلاء المثقَّفين. وبدلًا من أن ينبروا لتأمُّل الواقع والمآلات لهذه الكارثة البشرية التي نَقلت الحياة من حيّز الفعل إلى حيّز الافتراض، انساقَ معظمُهم مع مهازل الفضاء الإلكتروني؛ بدءًا من التفاخر بالإعراض عن القِراءة والكتابة، والاستسلام لحالة البلاهة، مرورًا بتصوير غُرف النوم المهمَلة، وليسَ انتهاءً بنشر صوَر أطباق الطعام الّتي جرَى التدرُّب على إتقانها!
قد يقول قائلٌ: لقد كانت الكارثة قاسية وصادمة إلى درجة إشعار معظم المثقّفين بانعدام الوزن -وهذا صحيح نسبيًّا-.
ولكن… ألمْ تَكْفهم الشهور الطويلة الّتي مرّت لاستعادة شعورهم بالتوازن والشروع في ترتيب أولوياتهم، أسوةً بكثير من مثقّفي العالَم المتقدِّم والعالَم الثالث ، الّذين لمْ يدَّخروا وسعًا لتصيير التحدّي فرصةً؟
وقد يقول قائل أيضًا: حسبُنا جلدًا للذات، فمآسينا تكفينا!
لكننا لا نَملك ترفَ المراهنة على ما لدينا من كلّ شيء، وبخاصة ما تعلَّق بالثقافة؛ فما لدينا منها لا يُغري بالاطمئنان، لأنها تَشهد حالةً من البطالة المقنَّعة منذُ عشرين عامًا على الأقل! ولمْ يَعد مجديًا الاستمرارُ في اجترار ما كتبه ثلَّة من المبدعين والنقّاد والمفكّرين العرَب في القرن العشرين، لأنّ الأفكار تحتاجُ توليدًا جدليًّا خلَّاقا حتى تتطور، وإذا ظلَّت رهينة إعادة الإنتاج الشكلانية فسَوف تَضمر وتذوب. وبأسفٍ بالغِ نقول: حتى هذه الإعادة السطحية، صارت إنجازًا نادرًا؛ ما دام أنَّ غير قليل من المبدعين والنقّاد والمفكّرين، صيَّروا صفحاتهم إلى منصّات للمهاترة والنميمة والفكاهة والاستهزاء والشتيمة، إلى درجةٍ يصعب معها تصديق حقيقةِ أنَّ هذا الشاعر المبدع قد صار مهرِّجًا، وأنّ ذاك الناقد المرموق قد صار حكواتيًّا، وأنّ المفكّر الّذي كان يشار إليه بالبَنان قد صار راجمةً للشتائم!
اقرأ أيضًا:
أدام الله نبض قلمك..