أودية الاستهلاك والهلاك.. والتغيير الذاتي
إنّ النّاظر في سنّةِ الله تعالى في معاقبة الأمم الغابرة يجدها لحظيةً، فقد قصّ علينَا القرآن قصص الظَلَمة والطُّغاة والفاسدين والبخلاء كيف أُبيدُوا أمام أعيُن الناس لتكون تلكمُ النهايات المأساوية عبرةً لِمن بعدهم؛ ففرعون استعبد الناس وقال لهم: {ما أُريكُم إلّا ما أرى وما أهديُكم إلَّا سبيلَ الرَّشاد}[غافر:29] -كما يفعله الكثيرُ في زماننا ممّن آتاه الله قوَّةً-! فأغرقه اللهُ وجنودَه، وقارون الذي آتاه الله خزائن الأرض الذي قال: {إنَّما أُوتيتُه على علمٍ عندي}[القصص:72] -كما يقوله الكثيرُ-! فخسف الله به وبداره الأرض، وأصحاب الجنَّتينِ الذِّين منعوا الضعفاء حقَّهم، وتلك القرية التي كانت آمنة، وغير ذلك من قصص الهلكى قرًى وأقوامًا! فحتَّى حينما أراد أصحابُ الفيل هدمَ الكعبة تكفّل الله تعالى بحفظ بيته فأرسل عليهم طيرًا أبابيل فجعلهم كعصفٍ مأكول. وكذا أنبياء الله لمّا دَعَوا على أُممِهم فأهلكها الله تعالى بجنوده فلم تنفعهم تلك القوّة، ولا ذاك الجبروت!
ولكن مثل هذه العقوبات الآنية والعامة لم تعُد مستمرةً، ليس رضًا من الله كما يظن البعض(!) بل لحكمةٍ أرادها ربُّ العِزَّة؛ قال محمد رشيد رضَا: “وهذا النوع من الهلاك كان خاصًّا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم، وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين” [تفسير المنار: 8/358]. فنبيّ الرّحمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يدعُ على أمّته بالهلاك، بل صبر على تربية أصحابه -فردًا فردًا-، كما صبر على ظُلم أعدائه له، لتستمرَّ هذه الأمانة يحملها جيلٌ بعد جيل كما قال تعالى: {كنتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالعروف وتنهون عن المنكر}[آل عمران: 110]؛ فينشرون العلم، ويوجّهون الناس، ويأخذون بأصحاب المعاصي إلى التوبة، ويدافعون عن الحق وأهله، وعن الضعفاء والمستضعفين بالعلم والنفس والمال.
وإنّ مِن غرائب هذا الزمان أن تجدَ الكثيرَ من الناس مَن يقبع في الإسراف والمعاصي ومع ذلك ينتظرون من الله تعالى النصر، ويأملون بقهر الظالمين، كأن أحدَهم فردٌ من الأمم الغابرة يتمنّى على الله الأماني، فمثلُ هذا الانتظار -كوننا من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم أُمّة الدّعوة- ما هو إلّا مضيعة للوقت، وتسهيلٌ لعمل الظالم، وهو مخالفٌ لسنن الله تعالى الذي أمر عباده -لكي يتحقَّق نصرٌ- بالتقوى وإقامة العدل والبرِّ والإحسان وتعظيم الشعائر وغير ذلك من الأعمال {إن تنصروا الله ينصُرْكم..}[محمد: 7]؛ قال بعضُ أهل التفسير: “هذا أمرٌ منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبَّت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصَّبرِ والطمأنينة والثبات، ويصبرُ أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعدٌ من كريم صادقِ الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره”.
فلذلك كان التغيير الجماعي (=النصر) لا يبدأ إلّا من التغيير الذاتي، قال تعالى: {إنَّ الله لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم}[الرعد: 11].
ولعلَّ الكثير يتساءل:
ماذا ينبغي للفرد أن يفعله -في الواقع- حتى يتغير ذاتيًا؟
وهذا التساؤل جاء من واقع أن الكثير يتعجَّب كيف أنّ معظم الأمة تُصلِّي وتصوم وتحجّ وتعتمر وتذكرُ الله وتطبع المصاحف وتنشر الكتب وتصلِّي على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولكننا نراها ضعيفةً مقهورة على جميع الأصعدة، تسيُر من ضَعفٍ إلى ضَعفٍ إلى ضَعف!
فلا خِلاف في أن الصلاة والصوم والحج والعمرة وغير ذلك.. هي من المطلوبات، ولكنْ دعني أسألُ هذا الذي اجتمعتْ فيه تلكم المطلوبات:
- هل أنت من متابعي كرة القدم؟
- وهل أنت من متابعي الفنانين والفنانات؟
- وهل أنت من متابعي الأغاني والأفلام؟
- وهل أنت من المسرفين على أغلى أصناف الأكل واللباس والتكنولوجيا…؟
فهذه الأربعة يؤدِّي الإغراقُ فيها إلى تحويل العبادات إلى عادات، وقلب التفاهات إلى أولويات؛ فيغفل العبد ولا يستيقظ حتى يأتيه أجله، بينما عدوه الذي حفر هذه الأودية ينهش في ماله ودينه وأسرته ومجتمعه وأمّته!
لذا كانت هذه الأربعة -التي أسميها أودية الاستهلاك والهلاك- من العوائق التي تبعد العَبد عن رؤية الحقائق، وتحيد به عن الاهتمام بالأَولى ذاتيًّا وجماعيًّا.
قد يسأل البعض: كيف ذاك؟
فلنضرب أمثلة:
انظر مثلًا إلى متتبِّع كرة القدم، ستجده مشغولًا طوال أيام السّنة ليلَ نهارَ يتابع كأس العالم وما قبله وما بعده، والبطولات المَحلِّية والدولية والقارِّية، وأخبار اللّاعبين المحليين وغيرهم والمدرِّبين، دع عنك الَّتعصُّب البارد الذي مآله اختلاف القلوب، وضياع الأنفس أحيانًا!
فهل هذا من العقل في شيء؟ أو من الدِّين في شيء؟ وهل وجود كل هذه العوائق على مدار اليوم والليلة يساعد على التغيير الذاتي بله الجماعي؟!
والشيء نفسه أقوله لمتابع أخبار الفنانين(!) والفنانات(!) عربهم وعجمهم: …فلانٌ طلَّقَ وآخر تزوج وتلك انتحرت، وأخرى تخون(؟) فذاك يخون(؟)، وفلان وُلد له من صديقته(!)…
ولمتتبع الأغاني والأفلام والمسلسلات: تتبع المسابقات ومستجدات الأفلام وأجزاء المسلسلات، يحدث هذا على مدار أيام السَّنة وفي أيام رمضان وأيام الحج كذلك!
فتجدُ البال مشغولًا ليلَ نهارَ في البحث والمشاهدة والتحليل (=القال والقيل)؛ فأنَّى لمثل هذا أن يتفرغ لِما هو أولى للتغيير الذي يبحث عنه؟!
وقِسْ على ذلك لو اجتمعتْ هذه الأودية الثلاثة في فردٍ واحدٍ!!
وأمّا وادي الإسراف فحدث عنه ولا حرج -كما يقال-؛ فذاك هو السباق الزائف، وتلك هي الغفلة الصريحة، فانظر إلى القمامات ومخلّفات المطاعم والمقاهي وغيرها ستجدُ بعض الجواب على أننا نعيش حالة إسراف فريدة!
وما قد يستغربه الفرد ظهور أشياء ليس غرضها سوى إفراغ الجيوب وتنويم العقول كمصطلح (VIP)! فحتّى العلاج -والذي هو من الحالات الإنسانية- دخلها مثل ذلك! وكذا ظهور هوس العلامات التجارية الاستهلاكية التي قيل فيها أنها كذبة صدقها الناس، فليست سوى وسيلة تحويل الأموال إلى أصحاب هذه العلامات! بل إنّ البعض يُسرف على نفسه في يوم واحد ما تحتاجه أنفُس خلال (360) يومًا!
ولك أن تُقارن ماذا يحدث بعدُ للمتابِع والمتابَع:
فالمتابَع: يزداد ثراءً وأهميةً مجتمعية، بل بعضهم يزداد كِبرًا وتعاليًا، بل بعضهم يتنكر -وقت الأزمات- لبني جلدته ممّن ساهم في ثرائه! فتراه لا يبصر سوى نفسه، ومَن هُم مثله، أو أعلى منه (مصلحة)!
وأما المتابِع: فلا يكسب شيئًا سوى الفَقر، والقلق، وسوء الخلق، بل -في بعض الحالات- نقص في الدين والعقيدة!
والمقصود من هذه المقدّمة أن التغيير الذاتي أمرٌ لا يتأتي بالإغراق في الملذّات والمعوقات (أودية الهلاك الأربع).
إنّ هذا الذي يُريد أن يغير ما بنفسه -ليرقى فيرقى غيره- لو أنه ترك تتبع كرة القدم، واستغنى عن تعلّقه بالفنانين والفنانات ومنتجاتهم، واقتصد في الأكل والشرب واللباس وغير ذلك فماذا سيحدث؟
- تفريغ البال من المعوقات التي تصدُّ النَّفْس عن الأولويات ولا سيما أنها تعلم أن وجودها في هذه الدنيا غير دائم وأنه ينبغي لها أن تسعى نحو حياة نعيم أبدية!
- تحسُّن الوضع الاقتصادي للفرد؛ فبدلًا من أن يضع ماله في اللهو والمتاع الزائف يستثمره فيما ينفعه ولا سيما وقت الأزمات التي غالبًا ما تكشف حقيقة معدن المتابَعين بأنه لا شأن لهم بما يحدث لمتابِعيهم ولا لمجتمعاتهم فالكل لسان حاله: نفسي نفسي! فما بالكم بيوم القيامة: {إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذابَ وتقطَّعت بهمُ الأسباب}[البقرة: 166]!
- التضييق على المفسدين وفسادهم.
- تقليل انتشار الفقر.
- زيادة الروابط الإيمانية بين أفراد المسلمين في كل مكان.
- ….
…وقائمة الفوائد طويلة جدًا ولكن كما يُقال: الحرُّ تكفيهِ الإشارة!
{والله غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون}[يوسف: 21].
2 تعليقات