أثر الأعراف الإدارية في شيوع الأخطاء اللغوية
أثر الأعراف الإدارية في شيوع الأخطاء اللغوية
(نرجو ويرجى نموذجًا)
صفاء صابر البياتي
تُعدُّ الأعراف الإداريَّة سببًا من أسباب شيوع الأخطاء اللُّغويَّة وتداولها بين النَّاس، ومن نماذج هذه الأعراف ما يشيعُ لدى كثيرٍ من الإداريِّينَ والمؤسَّسات الإداريَّة أن الفعلَ “نرجُو” بصيغة المبني للمعلوم يُستعمَل للخطاب الصادر من الأعلى إلى الأدنى، ويدلُّ على العموميَّة والجمع والفوقيَّة. ويختصُّ الفعلُ ” يُرجَى” بصيغة المبني للمجهول لما يكونُ من الأدنى إلى الأعلى. ولعلَّ السببَ في ذلك عندهم -كما يبدو- هو رغبةُ المتكلم في ألَّا يُظهِرَ ذاتَه (الفاعل المحذوف) في (يُرجَى) كأنَّ لها حظًا في ذلك الطلب، على العكس من “نرجو” الذي يُعرَفُ فاعلُه فتتَّضحُ فيه الذات. أي: كأنَّهم أرادوا بذلك تعظيم المُرجوّ منه؛ بعدم ذكر اسمه مقترنًا مع الفاعل (الراجي) فيما لو أُبقيَ عليه، فحُذِف الفاعل لذلك! وهذا مفهومٌ غيرُ صحيحٍ ولا يستندُ إلى أصلٍ لغويٍّ ولا إلى قياسٍ صَحيح؛ لأنَّ ما قيل في المرجو منه، يمكن أن يقال في الراجي، كأن يُقال: إنَّ الفاعل حُذِفَ؛ لرغبة المتكلم في إظهار تعظيمه لنفسه بصَون اسمه عن أن يقترن في الذِّكر بالمفعول به (المرجوُّ منه)..
لأنَّ حذف الفاعل يكون للأسباب الآتية:
- إما للعلم به، فلا حاجةَ إلى ذكره، لأنه معروفٌ نحو {وخُلِقَ الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28]، والخالق هو الله، وهو معلومٌ عند الجميع.
- وإما للجهل به، فلا يمكنْك تعيينُه، نحو “سُرِقَ البيتُ” إذا لم تعرف السارق.
- وإما للرغبة في إخفائه للإبهام، نحو: نُقِلَ الموظَّفُ، إذا عرفت الناقل غير أنك لم تُرد إظهاره.
- وإما للخوف عليه نحو “ضُرب فلانٌ” إذا عرفتَ الضاربَ غير أنك خفتَ عليه، فلم تذكره.
- وإما للخوف منه، نحو ” ظُلِمَ الموظَّفُ” إذا عرفتَ الظالم فلم تذكره، خوفًا منه.
- وإما لشرفه، أو لتحقيره، نحو “عُمل عَملٌ منكرٌ”، إذا عرفتَ العامل فلم تذكرهُ، حفظا لشرفه، أو لتحقيره؛ لأنَّه عملَ المنكرَ.
- وإما لأنه لا يتعلقُ بذكره فائدةٌ، نحو “وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو رُدُّوها”، فذكر الذي يُحيِّي لا فائدةَ منه، وإنما الغرضُ وجوبُ ردِّ التحية لكل من يُحيِّي.
فضلًا عن كون الواقع اللغوي يفنِّدُ هذا التأويل البعيد والمتكلَّف فيه، إذ ورد الفعل “يرجو” بهذه الصيغة في أكثر من ثلاثةٍ وعشرينَ آيةً قرآنيَّةً كريمةً في سياق الخطاب الصادر من الأدنى إلى الأعلى، نحو: قوله جلَّ وعزَّ: {أولئكَ يرجونَ رحمتَ الله} [البقرة: ٢١٨]، وقوله: {وتَرجونَ من اللهِ ما لا يرجُونَ} [النساء: ١٠٤]، وقوله: {إنَّ الَّذينَ لا يرجُونَ لقاءَنا} [يونس: ٧]، وغيرها ممَّا ورد في هذا السياق.
أمَّا ما يُدَّعى أنَّ الفعل (نرجو) في هذه السياقات يدلُّ على العموميَّة والفوقيَّة والتعظيم فلا وجهَ له..
على النَّحو الآتي:
- مسألة العموميَّة في (نرجو): إنَّ الفعل (نرجو) يكون لطلبٍ متوقَّعِ الحصول فحسب، ولا يدلُّ على غرضٍ آخر من الأغراض التي يدلُّ عليها الفعل المبني للمجهول (يُرجَى)، فيكون بذلك أعم من (يُرجَى)؛ لأنَّه يدل على الطلب الصادر من الأدنى إلى الأعلى فقط، في حين يدلُّ (يُرجى) على هذا الطلب أولًا، مُضافًا إليه غرضٌ من أغراض حذف الفاعل السَّابقِ ذكرُها.
- مسألة الجمع في (نرجو): هذه ليست مسألةً مطِّردةً ثابتة ولا قضيةً مطلقةٌ؛ لأنَّ صيغَ الجمع بالضمائر نحو (نحن) و(نا) أو بالفعل المبدوء بنون المتكلم نحو (نرجو) و(نقرر) وغيرهما، يكون للجمع حقيقةً أي: مجموعة من المتكلمين حقيقةَ، أو حملًا على سبيل الحقيقة كقوله تعالى: {إياك نعبدُ وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، أو للمفرد الذي يريد تعظيم نفسه([1]). والذي يحدِّد أحد المدلولين هو السياق. فلا يمكن أن يُحمَلُ كلُّ فعلٍ يردُ بصيغة (نفعل) بنون الجمع على التعظيم!
- مسألة الفوقيَّة في (نرجو): وهي التي يُعبَّر عنها بالتعظيم في كتب النحو، لا يمكن أن يُحمَلَ الفعل (نرجو) في هذا السياق على دلالة الفوقيَّة والتعظيم، لما يأتي:
- لأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ جَمْعًا، ولِأَنَّ عِنْدَ الرجاء والطلب، فَاللَّائِقُ بِالموظَّف أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ وَالذِّلَّةِ لَا بِالْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ.
- قولنا: (نرجو) في الطلب مَعْنَاهُ أَنِّي وَاحِدٌ مِمَّنْ يرجونك، وفيه إشارة إلى التواضع، في حين أنَّ (أرجو) قد يُفسَّـر على التكبُّر وكأنَّه لا يُريدُ أن يُظهرُ فيه نفسَه وكِيانَه، فأخفى ذكرهُ ببناء الفعل للمجهول. بمعنى أنني أنا الراجي.
- أَنَّ التعبير بـ(نرجو) يُرادُ منه أنَّ الموظَّف -وَإِنْ كَانَ هو المحرِّرُ وَحْدَهُ- أنَّه هو وجميعُ مَن معه مِن مسؤول الوحدة والشعبة ومدير القسم في الجهة المصدِّرة يُشاركون في هذا الرجاء والطلب، وهذا أدعى للإجابة وأظهَرُ لمقام الجهة المرجوِّ منها. فضلًا عن أنَّهم يشاركونَ المحرِّرَ في تحمُّل المسؤولية الإدارية والقانونيَّة للكتاب.
- كَأَنَّ الموظَّف يقول: السيد المدير مَا بَلَغَ رجائي إِلَى حَيْثُ أَسْتَحِقُّ أَنْ أَذْكُرَهَ وَحْدَهَ، لِأَنَّه مَمْزُوجٌ بِجِهَاتِ التَّقْصِيرِ، وَلَكِنِّي أَخْلِطُهَ برجاء جَمِيعِ الموظفين الذين يُشاركونني في مسؤولية هذا الكتاب، وَأَذْكُرُ كُلَّهم بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ وأقول: (نرجو).
الخلاصة:
يتبيَّنُ ممَّا سبقَ أنَّه ليس ثَمَّةَ اعتدادٌ بصيغة الفعل في بيان مَرتبة المُخَاطِب أو المُخَاطَب؛ لأنَّ الرجاء في اللغة هو الطلب الصادر من الأدنى إلى الأعلى، كيفما كانت صيغته، نرجو أو يُرجَى، فلا ضيرَ في استعمال “نرجو” أو “يُرجَى” مهما كانت الرُّتبُ والدَّرجات، فكلاهما صحيحٌ، ولكنَّ استعمالَ (نرجو) أولى من (يُرجَى)؛ لأنَّ الأولَ (أي: نرجو) يكون لطلبٍ متوقَّعِ الحصول فحسب، ولا يدلُّ على غرضٍ آخر ممَّا سبق بيانُه، فلا يحتملُ ذمًّا في ذاته إطلاقًا، في حين يُستعمل الثاني (أي: يُرجى) لهذا الطلب أيضًا، مُضافًا إليه غرضٌ من أغراض حذف الفاعل المذكور آنفًا، فيحتمل بذلك ذمًّا أو مدحًا بحسب القصدَ الذي يبني عليه المتكلمُ كلامَه.
———————-
4 تعليقات